تقارير وتحليلات

المرتزقة الروس الذين يحاربون سراً لدعم بوتين من ليبيا إلى سوريا وفنزويلا

كشفت مجلة Foreign Policy الأمريكية تفاصيل مهمة عن الجيش الروسي الخفي الذي يعمل سراً نيابة عن الكرملين في عدد من دول العالم، وهو ما يعرف بجيش المرتزقة؟

وتعد الشركة الروسية فاغنر Group هي المورد الأول للمرتزقة الذين يخوضون حروباً سريةً بالنيابة عن الكرملين، من أوكرانيا إلى سوريا وحتى جمهورية إفريقيا الوسطى، وتبدو أشبه بشيءٍ من روايات توم كلانسي الجاسوسية.

ماذا تكون هذه الشركة؟

تلعب الشركة دوراً مهماً في عمليات موسكو العسكرية بالخارج، وقد كان أفراد فاغنر على جبهة بعض أشدِّ الصراعات احتداماً بشرق أوكرانيا وسوريا خلال السنوات الأخيرة، قبل انتشار اسمها في عناوين الأخبار بهجومها السافر على أحد المواقع العسكرية الأمريكية شمال شرقي سوريا في شهر فبراير/شباط 2018. وبدا أن فاغنر تؤذن بنشأة واقع جديد تلعب فيه الدور الأساسي في سياسة روسية عدائية جديدة بالخارج. لكن قد يكون نفوذ فاغنر أقل مما يبدو.

كشفت الشهور الماضية عن أمورٍ كثيرةٍ متعلقةٍ بمدى نجاح الجماعة. إذ كشف في يوم 28 يوليو الماضي، تحقيقٌ أجرته صحيفة Novaya Gazeta الروسية المستقلة، أن المقاتلين الروسيين الثلاثة الذين قُتلوا في وسط سوريا منتصف يونيو/حزيران الماضي، لم يكونوا تابعين لـ»فاغنر»، بل لشركةٍ أخرى مماثلة تُدعى Shield. وكانوا أول مرتزقةٍ روسيين من خارج فاغنر يؤكَّد مقتلهم في سوريا، وهي حقيقة تزيد أهميتها بوجودهم في وسط صحراء سوريا، التي كانت حتى الآن إحدى مناطق عمليات فاغنر الأساسية بسوريا، إذ لعبت الجماعة دوراً محورياً في الاستيلاء على مدينتَي تدمر ودير الزور (ثم إعادة الاستيلاء عليهما) في 2016 و2017.

وبحسب المجلة الأمريكية، إن لم يكن كافياً تدخُّل جماعة مرتزقةٍ خاصةٍ روسيةٍ أخرى على أرضٍ واقعةٍ تحت سيطرة Wagner، فقد صدر تقريرٌ آخر في اليوم التالي يصوِّر الجماعة تصويراً سلبياً للغاية. فقد تحدث الموقع الروسي الإخباري المستقل Meduza مع أحد المقاتلين الروس المُرسلين إلى فنزويلا. وحين وصلت جماعة من المرتزقة إلى الدولة في يناير/كانون الثاني الماضي، أفادت معظم التقارير بأنهم كانوا مرتزقةً من فاغنر أُرسلوا إلى الدولة لتدعيم حكم الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو في مواجهة الاحتجاجات العامة المتواصلة. وقد اعتبر محللون غربيون -لسببٍ وجيهٍ- تلك الخطوة إشارةً إلى ارتقاء مركز فاغنر كأداةٍ تنفيذيةٍ لسياسة الكرملين من أجل التدعيم العسكري لنظامٍ من أهم الأنظمة الحليفة، كان بقاؤه محلَّ شكوكٍ جديةٍ، وهو ما يخدم مصالح موسكو الخارجية دون تدخلٍ مباشرٍ منها.

حراس أمن أم جنود مرتزقة؟

لكن تقرير Meduza أشار إلى العكس. إذ كشف مصدرهم، وهو أحد موظفي Wagner، أنه وزملاءه المقاتلين لم يكونوا سوى حرس أمني لمقرَّات عمل شركة Rosneft بالعاصمة الفنزويلية كاراكاس خلال تكليفٍ روتينيٍّ استمر عاماً. بينما أكَّد أشخاصٌ آخرون أُجريت معهم مقابلات، ومنهم أحد موظَّفي فاغنر القدامى، أن فاغنر نفسها لم تلعب أي دورٍ في فنزويلا، على النقيض من التقارير الأولية. وأوردت تقارير أن الجماعة قد صدَّرت محاربين مخضرمين إلى عدة جماعاتٍ أخرى مماثلةٍ، من ضمن ذلك شركتا Shield وPatriot، خلال الأشهر الماضية، في حين فقدت استقلاليتها في اتخاذ القرار وصار أفرادها مجرد حرسٍ بسوريا. لقد أصبحت فاغنر شبحاً مما كانت عليه، بعد أن قصَّ الكرملين جناحيها عقب كارثة فبراير/شباط 2018 وانتزاع المنافسين أهمَّ أفرادها.

ومثَّلت المواجهة بين فاغنر والقوات الأمريكية بدير الزور في شهر فبراير 2018، بداية النهاية للشركة. ففي يوم 7 فبراير/شباط 2018، شنَّ نحو 600 مقاتلٍ من فاغنر مسلَّحين بدبابات ومدافع هجوماً على أحد مواقع قوات سوريا الديمقراطية، وهو تحالف للميليشيات معظمه من الأكراد، كان يتعاون مع التحالف بقيادة الولايات المتحدة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» (داعش) في شمال شرقي سوريا.

وربما ما لم يعرفوه هو أن مستشارين من الولايات المتحدة كانوا مزروعين داخل الوحدة واستدعوا الدعم الجوي عند وقوع الهجمة. ومع ذلك واصلت قوات فاغنر الهجوم أربع ساعاتٍ كاملةٍ، تعرَّضوا فيها لهزيمةٍ نكراء على يد المدافع والغارات الجوية والمروحيات الأمريكية، وحتى طائرة AC-130 مسلَّحة. وبنهاية المواجهة، لقي ما بين 300 و600 روسي مصرعهم أو أُصيبوا بجراحٍ، في أول معركة مباشرة بين قوات واشنطن وموسكو منذ حرب فيتنام.

وكان أكثر الجوانب المدهشة لهذه الحادثة أنها قد نُفِّذت على ما يبدو، دون أمرٍ من الكرملين أو معرفةٍ تامةٍ منه. وكشفت محادثات هاتفية مسرَّبة أن يفغيني بريغوجين، الرَّجل المعروف باسم «طباخ» فلاديمير بوتين والذي يُعتقد أنه قائد Wagner، قد أمر بتنفيذ الهجوم، بعد الحديث إلى عدة زملاء أعمالٍ له سوريين. (يدير بريغوجين كذلك شركةً ذات أسهم في النفط والغاز الطبيعي بالمنطقة). وطبقت وزارة المالية الأمريكية عقوبةً على بريغوجين نفسه لقاء دوره في التدخُّل الروسي بانتخابات 2016 الرئاسية الأمريكية عدة مرات، كان آخرها يوم 30 سبتمبر الماضي.

روسيا تبحث عن مخرج من الواقعة

وبحسب المجلة الأمريكية، توحي الاستجابة المضطربة من مسؤولي موسكو كذلك بجهلهم بالأمر، إذ استغرق مسؤولو الكرملين أسبوعاً ليقولوا إنه «ربما يوجد مواطنون من روسيا الاتحادية» في سوريا لا علاقة لهم بالقوات المسلحة الروسية، قبل إعلانهم لاحقاً أن خمسة روسيِّين ربما قد لقوا مصرعهم، وهو رقمٌ ارتفع فيما بعد إلى «عشرات«.

ونقلت صحيفة Bell الروسية الاستقصائية عن مصادر مقرَّبة من وزارة الدفاع الروسية، أنهم «قد دُهشوا» حين علموا بالهجوم الذي وقع، وأن بريغوجين اضطُرَّ مُحرَجاً إلى التذلل أمام مسؤولي الكرملين، مؤكداً لهم أن خطأً كهذا لن يتكرر مجدداً.

ويبدو أنه لم يُمنح أية فرصة. فقد أكَّدت بالفعل في مارس الماضي، مصادر من فاغنر لصحفي روسي آخر، أن نصف قوات الشركة كانوا يستعدون لبعثاتٍ في إفريقيا، مع استمرار توابع الصدع الذي تكوَّن بينهم وبين الكرملين بسبب أحداث سوريا. وعند النظر إلى الأمر من هذه الزاوية، نجد أن تحرُّكات الجماعة في أماكن مثل جنوب السودان وموزمبيق تكاد تبدو مثيرةً للشفقة، إذ يجولون يائسين في بحثٍ غير مُجدٍ عن فرصٍ قد تقترب من الفرص التي وجدوها بسوريا وأوكرانيا.

إن تدريب حفنةٍ من الميليشيات الصغرى في إفريقيا الوسطى والتنافس -دون نجاحٍ على ما يبدو- مع إريك برينس (الشهير بتأسيسه مؤسسة Blackwater العسكرية الخاصة)، من أجل عقودٍ لتوفير الأمن- لهو بعيدٌ كل البعد عن قيادة هجماتٍ مدعومةٍ من القوات الجوية الروسية في حرب أهلية كبرى على أرض الشرق الأوسط ذات الحساسية الاستراتيجية. ومع ظهور عديد من المنافسين الجدد، مثل Shield وPatriot (المزعوم ارتباطها مباشرةً بوزارة الدفاع) وVega، فمن المرجَّح أن زمن اعتبار فاغنر أكبر مقاولي الدفاع الروسيين قد ولَّى، بحسب المجلة الأمريكية.

قصة هبوط فاغنر

وبحسب المجلة الأمريكية، فلن يحزن أحدٌ داخل الكرملين ولا حوله على خفوت نجم فاغنر. إذ يبدو أن الجماعة قد خُفضت منزلتها دون بلبلة، وتوزَّع أفرادها بين جماعات مماثلة، وتوقفت عملياتها. وبالتأكيد لم يحاول بريغوجين نفسه -الذي لا يهوى الأضواء على الإطلاق- تعقيد المسائل بأي طريقة علنية، على الأرجح لعلمه بأنَّ فعل ذلك من شأنه زيادة زعزعة مركزه لا غير.

على المدى القريب، لم تكن لسقوط فاغنر عواقب بالنسبة إلى الكرملين، الذي ليست لديه حاجة ملحَّة في الوقت الراهن إلى قوة عسكرية محترفة يمكن التخلص منها متى شاء. فقد انخفضت حدة الصراع في سوريا كثيراً على مدار العام ونصف العام الماضيَين، إذ لم تخض القوات الروسية أية عمليات كبرى تستهدف الاستيلاء على أراضٍ منذ نهاية حملتها ضد داعش في ديسمبر 2017. وكذا شرق أوكرانيا، منطقة عمليات فاغنر الأساسية الأخرى، فقد استقرَّت إلى كونها جبهةً أماميةً ثابتةً يقطع استقرارَها أحياناً تبادلُ إطلاق النار وقصف المدفعية. لذا فقد كانت ضربة حظٍّ موفقةً لموسكو أن انتظرت فاغنر حتى أتمَّت بنجاحٍ مهمات قوات مُشاتها المدرَّبة في شرق سوريا لكي يصدر منها ذلك الانتهاك الفاضح للأعراف المتفق عليها.

المقلق أكثر هو أن فاغنر قد وصلت أصلاً إلى كل تلك القوة. لطالما كان الكرملين يحافظ على الأساليب المتبعة في المجال الأمني، بفرض لوائح صارمةٍ على شركات الأمن الخاصة، لمواصلة احتكاره القوة المسلحة في روسيا. ومن الناحية القانونية، لا وجود رسمياً للجماعات العسكرية الخاصة المتعددة في روسيا: فما زال وجودها مخالفاً للقانون الروسي، رغم عدة محاولات فاشلة لوضع تشريعات جديدة وسَنِّها بشأن هذه المسألة، للسماح بتسجيلها وتوضيح ما يُسمح لها به وما يُحظر عليها فعله، بحسب المجلة الأمريكية.

متى ظهرت فاغنر؟ 

لقد نمت فاغنر في ظل هذا الفراغ القانوني، متحوِّلةً من مشروع ذي غرض معيَّن بدأه موظفون طموحون لدى شركة Moran Group الأمنية -شركة أمن روسية أكثر اعتيادية- إلى جيش خاص متكامل مُشبَع بدبابات ومدفعيات روسية، وما وصل إلى 5 آلاف مقاتل. لقد صارت من أقوى الأنظمة المسلَّحة من ناحية عدد المقاتلين والمعدَّات في روسيا الاتحادية، خارج الجهاز الأمني الخاص بالكرملين ورمضان قديروف زعيم دولة الشيشان، الذي يُشرف على جيشٍ شخصيٍّ خاصٍّ به تصل أعداده إلى عشرات الآلاف ولا يتعرَّض للمساءلة من الكرملين، بحسب المجلة الأمريكية.

من المؤكَّد أن هذه التحديات التي تواجه سلطة موسكو المركزية سوف تنمو مع توجُّه روسيا نحو المناخ الغامض لعام 2024، حين تنتهي آخر فترات بوتين الرئاسية وفقاً للدستور. وعكس الصورة العامة لكونه أوتوقراطياً قديراً يتمتع بجميع مستويات السلطة، فإن بوتين يقود روسيا عبر سلسلة من التنازلات والاتفاقات مع الصفوة واسعي النفوذ، رجال أعمالٍ كانوا أم بيروقراطيين، برجال الـ «سيلوفيكي» الأقوياء، أو المسؤولين الأمنيين.

 

وقد بدأت بالفعل جهود تثبيت الأقدام وإطاحة الخصوم قبل خمسة أعوامٍ من تلك اللحظة الحاسمة، ومن المؤكَّد أن تزداد تعمُّقاً مع اقتراب الانتخابات الرئاسية المقبلة. فالثابت الوحيد، والرجل المنفرد بالزعامة الذي يحمل على عاتقيه مراكز الآخرين جميعاً، قد تُقلب عليه الطاولة، ومعه «نشازٌ» من الموسيقيين المنفردين -كما وصفتهم تاتيانا ستانوفايا المحللة بخلية تفكير Carnegie Moscow Center- على وشك أن تغطِّي أصواتهم أصوات بقية الأوركسترا التي يعزفها الكرملين.

إن نظام بوتين، مع أنه مستقرٌ حالياً ويصدِّر صورة الكيان المتَّحد أمام أعين بلدان الخارج، هو في الحقيقة مشخصَنٌ للغاية. إذ يتفشَّى الشقاق الحزبي بين أوساط الخدمات الأمنية الروسية المتعددة، بينما المتغيِّر الوحيد المسيطِر هو اتفاقهم على الانحناء أمام الرئيس الحالي.

القصة ليست وليدة اليوم

وبحسب المجلة الأمريكية، فإن من المهم تذكُّر أن الوضع لم يكن دائماً هكذا: فمن المعروف أن بوريس يلتسن سلَف بوتين قد عانى من أجل فرض السيطرة على الأذرع المسلَّحة الروسية العديدة، واستغرق بوتين سنواتٍ لإخضاعها ومحو الإقطاعيات الكثيرة التي أسَّسها الجنرالات الفسدة في الشيشان أوائل الألفية الجديدة، حيث أصبح الاتجار بمبيعات النفط غير الشرعية عادةً شائعةً لدى القادة الساعين إلى إثراء أنفسهم. بالطبع ما زالت مسألة تخلي بوتين عن الزعامة بالفعل عام 2024 محل شكٍّ، لكن الزعيم الروسي ليس خالداً، أي إن خلافته -والصراع على المنصب الذي سيصحبها- يجب أن تحدث إن عاجلاً أم آجلاً.

في أثناء هذا، ما زالت فاغنر تلعب دوراً مساعداً في العمليات الروسية بالخارج، رغم تدهور موقفها لدى الكرملين. فقد عاودت إحدى فرق فاغنر الظهور مؤخراً في ليبيا، مقدِّمةً يد العون إلى قوات المشير خليفة حفتر بضواحي العاصمة طرابلس، في محاولةٍ لمساعدة القائد الليبي على إعادة إحياء جهوده الحربية المعطَّلة ضد المدينة، إلى جانب عديدٍ من الجماعات الأمنية الروسية الأخرى.

في حين صدرت كذلك تقارير عن استعداد قوات فاغنر على الخطوط الأمامية لمحافظة إدلب السورية، من أجل شنِّ هجومٍ عنيفٍ هناك، لكن لا توجد أدلةٌ كافيةٌ من الصور والفيديوهات للتحقُّق من صحة هذا الأمر. يبدو أن فاغنر قد فقدت الهيمنة التي كانت تملكها بصفتها أبرز المقاولين العسكريين في روسيا، وأنها تُجبر الآن على العمل في وحداتٍ أصغر بكثيرٍ وإلى جانب منافسيها، الجديد منهم والقديم.

ربما ضعفت فاغنر، لكن أهم تراثٍ تركته هو أنها قد وُجدت من الأصل. في روسيا خاليةٍ من أية قيودٍ شرعيةٍ من شأنها تنظيم حجم الشركات العسكرية الخاصة والحدُّ منه، وحيث لا يزداد الصراع الداخلي بين الصفوة إلا نمواً، توجد الآن سابقةٌ لوجود جيشٍ خاصٍّ أعداده بالآلاف غير مسؤولٍ في النهاية إلا أمام الرجل الذي يقوده، حتى وإن كان لذلك الفرد لقبٌ يبدو بريئاً مثل «الطباخ».

إن شركاتٍ مثل Vega وShield وPatriot ما هي حالياً إلا صورة شاحبة لما كانت عليه فاغنر في ذروة سطوتها أوائل عام 2018، لكن لدى هذه الشركات مثال ساطع لما يمكن أن تصير عليه يوماً ما. ما تبقَّى من أعضاء فاغنر الآن يعمل معظمهم في الأساس حرساً شخصياً وأفراد أمنٍ في مراكز التسوُّق. لكن من المرجَّح أن يَسمُو خلفاؤها كثيراً بطموحاتهم، وفي مستقبل ما بعد بوتين الأقل استقراراً، قد تشكِّل تهديداً لروسيا والأمن الدولي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى