تقارير وتحليلات

خاص|| لم أَعُد أطيق حتى صورة أجاويد.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة السابعة عشر)

 

حقَّقَ ذاك الاحتفالُ تغيراً جذرياً لديّ. فأولُ ما قمتُ به هو إنزال صورة أجاويد المؤطَّرة بإطار جذاب من على الجدار، ورميها على الأرض. صرخَت أمي مذهولةً: “هل جُنِنتِ يا ابنتي؟”. أجل، لقد جُننت. ذلك أن “أجاويد” الذي ارتبطتُ به بجنونٍ حتى ذاك اليوم، قد أمرَ بضرب الشبان والثوار الذين أعرفهم، لا لشيء سوى لأنهم أطلقوا شعار “أخوّة الشعوب”! في الحقيقة، كنتُ غيّرتُ مساري بتمزيق تلك الصورة، لأبدأ مساراً جديداً. إن الظروف الموضوعية كانت تهيئ لديّ ذلك، ولو طبيعياً، وتُشَكّل حلقة مهمة على درب الالتقاء بحقيقتي الذاتية. ذلك أن كل إشارة استفهام كانت تدفعني نحو البحث والتمعن.
وقد عزَّزَ القمع المنزلي فيَّ ذلك أكثر. فالسلطة المنزلية، أي سلطة أمي، منغلقة تجاه كل جديد، وتفرض عليّ أحكامها وقواعدها هي. إنها ترغب في أبناءٍ بلا إرادة: أي أن تكون ابنتُها فتاةً مطيعة لا تخرج عن كلام أمها، وأن تذهب إلى المدرسة وتستعد للزواج، ليَكون مصيرها شبيهاً بالقَدَر المكتوب على أمها. ولكن، على هذه الأم/المرأة أن تحاول فهم ابنتها قليلاً، ولو ضمن المعايير الاجتماعية. لكن، لا! إنها ليست صبورة، ولا تودّ فهمي. بل إنها تخاف من رفض “نظامها”! إذ لها أحلامها المختلفة تماماً. فما الذي سيحصل إنْ أنا حطمتُ أحلامها تلك؟! فحتى ذهابي إلى المدرسة هو تحت رقابتها بالأغلب. وذهابي ذات مرةٍ -دون إذنٍ منها- من المدرسة إلى بيت خالتي، والذي يكمن في الحيّ المجاور لمدرستي، كان كافياً لتذمُّرها وتوبيخها إياي لأيام عديدة. في الحقيقة، إنها منتبهة للتبدلات الطارئة عليّ، وتتوقع فعلاً أن تؤدي ميولي الجديدة إلى انشغالي بأمور “خطيرة”. ولم تكن مخطئة في ذلك.
كانت مقاربة إخوتي إيجابيةً عموماً. أما أخي الأوسط “علي”، فهو أكثر هدوءاً وأشدّ ارتباطاً بأمي، التي تستغل ذلك لتُضاعف تحذيراتها له، بل ولتحثه على مراقبتي أحياناً، كي تعرف إلى أين أذهب ومَن ألتقي، فتضغط عليّ أكثر. لكنني أصبحتُ أتصرف بحذر أكبر، بعدما أحسستُ بذلك. إلا إنني أجازف أحياناً. لقد كنا -أنا وأمي- نخوض حرباً شرسة تجاه بعضنا بعضاً. فلا هي تتنازل، ولا أنا! لقد حاولَت استمالتي إليها عمداً بالأمور المادية، ورأت أن إلباسي أفضل الألبسة هو فنّ بحد ذاته، واعتقدت أن شراء آخر صرعات الألبسة قد ينفع في ذلك. وكانت ستهدأ وتزداد أملاً لو أن ميولي ومطالبي أضحت على هواها هي. لكني ما زلتُ في عالَمي أنا.
ما تزال مواقفي وطموحاتي بسيطةً وتفتقر للوعي. لكني أخطو خطواتي، ولو ببطء، نحو الأرضية التي تجذبني وتؤثر فيّ. ولا ينفع أي شيء في ردعي أو تحييدي. وبطبيعة الحال، فإن موقف أمي يؤثر فيّ في هكذا لحظات، حتى أكثر من موقف الجندي أو عنصر الشرطة في الدولة. فأمي أَقرب ما تَكون إلى مؤسسة راسخة في المنزل. فكل مجَسّاتها ترصدنا كي لا نختلط بالسياسة، ولنفعل بعدها ما نشاء! علماً أنه ما من شيء ملموس بَعدُ، ولم نَقُم سوى بمطالعة بعض الكتب، أو المشاركة نوعاً ما في بعض النقاشات أو متابعتها. فلماذا هي مذعورة من هكذا وضع اعتيادي؟ يبدو أنها لا تأخذ حتى هذا الوضع على محمل البساطة. إنها امرأة ذكية وحدسُها قوي. وهي تعرفُنا جيداً، وتدرك أنها على وشك أن تخسرني. لذا، فإنها تسعى إلى إنقاذي! فهي مقتنعة تماماً أنه في حالِ تَشبثتُ، ولو قليلاً، بمساري هذا، أو ارتبطتُ بجهةٍ معينة، فلن تستطيع نصحي بالعدول عن ذلك. فلا الخطوبة، ولا الزواج، ولا الدراسة تستطيع ثنيي عن ذلك. وفي الحقيقة، فإن أمي هي التي تُعلّمني كل ذلك. فحربها ضدي تُطوِّر لديّ ميول الصراع.
إنني أخوض الصراع ضد امرأةٍ تُعَدّ أُمّاً. أي، ضد واحدةٍ هي مِن بناتِ جنسي من جهة، وتُعَدّ المرأةَ الأقرب إليّ من جهة ثانية. ومع ذلك، لم أَقُل بتاتاً: “ليتَني وُلدتُ ذَكَراً”. بل، وكلما تذمَّرَت أمي قائلةً: “ليتَكِ لَم تُولَدي أنثى”، تشبثتُ بالأنوثة أكثر فأكثر. أي أن نمطَ حربها تجاهي قد زجّني في صراع عتيدٍ لم أَكُن جاهزةً له إطلاقاً. وهي لم تنتبه إلى ذلك تماماً، أو أنها لم تجزم إلى أين سينتهي بنا المطاف.
كأن أبي كان على علم بصراعنا المحتدم هذا. ومَن يدري؟ فربما هو الذي افتعلَه عمداً، أو أنه مجرد صدفةٍ أو سوء حظ. قرر أبي في ذاك العام أن ترافقه أمي إلى ألمانيا. فأرسلَت أمي وراء “متين” ليرافقها في أنقرة إلى المطار. لا أدري إن كانت هدفَت إلى تحذيره، أو إلى الضغط عليه أو اتهامه. ولكنها على أية حال، تحاول ضمان موقفه حسب اعتقادها: “يا بني، لن نَكون في المنزل لفترة. فلا تذهب إلى ديرسم خلال هذه المدة، وإلا راجَت عنا الإشاعات. سنذهب سويةً إلى هناك حينما أعود”. إنها تحاول، بل وتحبّ أن تتحكم بالجميع. كم هي غريبة الأطوار! ومَن يدري، ربما تصوّرَت أني سوف أؤثّر على “متين” وأستميله لينخرط في السياسة. وإلا، فليس هكذا يُحمَى العَرضُ والشرف. فنحن مخطوبان، وعائلتُه موجودة في ديرسم. لقد فرضَت علينا الحصارَ علناً.
إن “متين” شخصٌ ملتزم بالعادات والأعراف. لذا، أخذَ كلام أمي على محمل الجد، ولو على مضض. وبالفعل، لم يأتِ إلى ديرسم ذاك العام، حتى أثناء العطلة الصيفية. لكن تلك الفترة شهدت الكثير من الأحداث. فرسائله باتت غريبةً عني تدريجياً. والأهم أنني أصبحتُ أفضّل الروح الثورية، ولو بمعانيها الفظة. لذا، لَم تَعُد علاقتي به بارزةً بسبب طموحاتي تلك. وبأية حال، فإن هذا يجري طبيعياً.
حاولتُ الإشارة في رسائلي إلى أني تغيرتُ ولم أَعُد سكينة التي يعرفها. لكني لم أجزم بَعدُ ما الذي تغيّر فيّ، وعمَّ أبحث أو ما الذي أودّ قوله. كنتُ متسرعةً وأتمرد على كل شيء وكأنني أعرف كل شيء، وأتحرك بعواطفي، دون إسناد ردود فعلي إلى أرضية قويمة. أما “متين”، فهو أكثر هدوءاً ونضوجاً، إذ يحاول فهم الأمور، ويعمل على إسداء “النصائح” لي في رسائله، من قبيلِ اختيارِ أصدقائي بسَداد، وعدم الانجرار وراء بعض النماذج الشاذة، مشيراً في ذلك على وجه الخصوص إلى بعض صديقاتي بالاسم، اعتقاداً منه أنهن قد يؤثّرن سلباً على علاقتنا. وبطبيعة الحال، لم أستسغ عِظاتِه أو حديثه عن صديقاتي، واستأتُ من تَصَوُّرِه بإمكانية أن يؤثّر أحدٌ ما عليّ، وأكدتُ له أني لم أَعُد طفلة. لكن التأثّر كان يحدث بالطبع. كما إن حديثه عن تلك الفتيات كان خالياً من المغالاة. لذا، لَم يَكُن رفضي لموقفه واقعياً تماماً. لكنّ ما حَزّ في نفسي آنذاك هو أن موقفه شبيه بموقف أمي، التي طالما تقارنني بصديقاتها هي.
لذا، كانت تصرفاتي تُجذّرُ التناقضات، بدلاً من حلها بنحو صحيح. ووصل الحدُّ بي أن قرأتُ على صديقتي “نعمت” رسالةَ “متين”، التي تحتوي تحذيره إياي من بعض صديقاتي بالاسم. من الواضح أن مقاربتي في هذا الشأن كانت ساذجة للغاية. فقد تَكون صداقتي مع “نعمت” مهمة، وربما أننا نحبّ ونحترم بعضنا بعضاً، لكنّ هذا لا يستوجب أن أَذكر أو أسرد لها كل شيء. وبالفعل، استغلَّت “نعمت” تلك الرسالة، فجذّرَت بصورةٍ غير مباشرة التناقضات التي ظهرَت بيني وبين “متين”.
كنا ما نزال في سن المراهقة. فعوضاً عن محاربةِ العادات البالية بالسبل والأدوات السديدة، برزَت لدينا ردود الفعل العشوائية، والمقاربات القطعية، والتمردات الخاطئة. وقد أثّر ذلك على شكل صراعي مع أمي. إذ لا مفر من الصراع معها، بل وكان ضرورياً ومفيداً للغاية. فقد دفعَني ذلك سريعاً نحو الميول الثورية، وعلَّمَني حبّ الأنوثة والمرأة، وطوَّرَ لديّ، ولو بنحوٍ هزيل وهشٍّ، الطموحَ في تكريسِ الثوريةِ بروحِ المرأة، وكرَّسَ لديّ حبّ هوية المرأة والافتخار بها. ولعلّ ظاهرة “المرأة الثورية” هو أكثر ما أثّر فيّ. لكني بالمقابل اغتظتُ على الدوام ممّن لا تحبّ بنات جنسها أو تجحف بحقهن، وأبديتُ موقفي تجاه ذلك. لذا، باتت الفتيات المتأثرات بالتيارات أو المجموعات الثورية في مدرسة المعلمين محطَّ اهتمامي، من قبيلِ: آيسَل دوغان، صائمة آشكين، توركان تشاكماك، نورحياة وغيرهن.
لم تَستسغ عائلتي صديقتي “قيمت” منذ أول وهلة، على الرغم من أنها كانت معلِّمة، وعادةً ما يَصفُ الشعبُ كلّ معلّمة بـ”الفتاة البارّة”. كانت “قيمت” مهتمة بالسياسة. لكنّ أمي لم تُعجَب بها، أكان من ناحية ملامحها الجسدية أم على صعيد سلوكياتها الاسترجالية. علاوةً على أن حريتها المفرطة كانت محطّ استياء أمي. لكنّ التحفُّظَ الأساسي لأمي كان بسبب اهتمامها بالسياسة. لم تؤثّر معايير أمي فيّ. فعلى الرغم من عدم استساغتي لبعض سلوكيات “قيمت”، إلا إن انشغالها بالسياسة قد جذب اهتمامي. في الحقيقة، كانت رغبتي في التعرف على كل مَن يهتم بالسياسة أو يمارس العمل الثوري تدفعني سريعاً نحو الانخراط في هذا المحيط. كانت صداقاتي في الحيّ تتغير بشخوصها وملامحها ومعاييرها، فتطغى عليها الرؤية السياسية. فانتعشَت تدريجياً بعض الصداقات الجديدة. لكنّ أكثرَ مَن لفتوا اهتمامي وأثّروا فيّ كانوا جيراناً لنا. فرأينا أنفسنا خلال فترة وجيزة وسطَ هذا الجو الرائع الذي يؤثر فينا فنسير وفق تدفق أمواجه.

ترجمة: بشرى علي


 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى