تقارير وتحليلات

مدينة الأشباح .. كارثة إنسانية في إدلب

محافظة إدلب السورية هي المعقل الأخير الذي لم تسيطر عليه القوات الحكومية المدعومة روسيا بشكل كامل بعد لذلك نزح إليها أكثر من مليونين ليصبح العدد نحو ثلاثة ملايين نسمة حياتهم معرضة للخطر في كل لحظة، وتحولت مدينة خان شيخون إلى مثلاً إلى مدينة أشباح مع نزوح أكثر من 95% من سكانها هرباً بحياتهم، وسط لا مبالاة أصبحت معتادة مما يعرف بالمجتمع الدولي.

التقرير الذي نشره موقع “ميدل إيست آي” البريطاني يحكي التفاصيل الكارثية من داخل محافظة إدلب التي تحولت 37 منطقة بها إلى أطلال مهدمة خالية من سكانها.

خان شيخون الأكثر مأساوية

الشوارع شبه خالية في مدينة خان شيخون مسقط رأس أنس دياب، حيث تقبع المتاجر والبنايات السكنية بين أنقاض متهالكة، وتتناثر كتلٌ خرسانية في أكوامٍ عبر الطرق المقصوفة التي هُجِرَت منذ عدة أشهر، وقد بقي عددٌ قليل من السكان.

خان شيخون تقع على طريق سريع رئيسي يمتد من دمشق إلى حلب، كانت مركز قصف هجومي واسع للقوات الموالية للحكومة منذ أسابيع، وتدفق الآلاف من جيران دياب خارج البلدة، هرباً من جولات قصف مدمرة أصابت المنازل والمستشفيات.

حسب تقديراته، ووفقاً لآخرين في المدينة ممن تحدثوا لموقع ميدل إيست آي في الأيام الأخيرة، غادر حوالي 95% من السكان خان شيخون.

يرصد دياب ثلاثة فقط من أصدقائه بقوا في المدينة، لا يزورهم إلا ليلاً، وعندما يستطيع التأكد أنه لا توجد طائرات حربية. لا مخابز متبقية يمكنه شراء الخبز منها.

نازحون بشكل مستمر

خان شيخون ليست وحدها، فمنذ فبراير/شباط، عبّأت العائلات في جنوب إدلب المدمَّر وشمال محافظة حماة المجاورة، ما استطاعوا أخذه من ممتلكات في عرباتهم، وانتقلوا هم وأطفالهم شمالاً إلى مناطق أقرب إلى الحدود السورية التركية، بعيداً عن القصف.

أخبر ما يزيد على نصف دستة من السكان الذين تخلّفوا، موقع ميدل إيست آي عن منظر مدن الأشباح، مع شحّ الخدمات العامة وندرة إمدادات الغذاء الأساسية.

أصبحت 37 منطقةً على الأقل في جنوب إدلب وشمال حماة «خالية أو مهجورة»، وفقاً لتقرير نشرته مجموعة REACH للتحليلات في شهر مايو/أيار، مع محدودية شديدة في حرية التنقل وإتاحة الرعاية الصحية لأولئك الذين بقوا.

كفاح يومي من أجل النجاة

نزح ما يصل إلى 200 ألف شخص شمالاً هرباً من مناطقهم الأصلية في الأسابيع الأخيرة، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة الأخيرة، هرباً من القنابل التي سقطت على الأحياء السكنية والمرافق الطبية.

قرر دياب، البالغ من العمر 23 عاماً، وهو مواطن صحفي وعامل إنقاذ متطوع، البقاء في خان شيخون لمواصلة عمله، رغم المخاطر. إنه من بين عدد قليل من الناس الذين صمدوا في جنوب إدلب وشمال حماة.

بالنسبة لهم، الحياة اليومية كفاح مستمر في مدن الطرق السريعة والقرى الزراعية المهجورة. وبحسب التقارير يجوب اللصوص الشوارع ناهبين المنازل الفارغة. وقد تعرضت أكثر من 10 مستشفيات للقصف.

«نفس القصة كل يوم»، هذا ما يقوله حميد، أحد سكان خان شيخون القلائل الذين ما زالوا يعيشون في البلدة، ويعمل منقذاً مع منظمة الدفاع المدني السورية، المعروفة باسم الخوذ البيضاء، وهي وظيفة قال إنها أقنعته بالبقاء.

ويضيف: «مجرد قصف مستمر». تعيش زوجته وابنه البالغ من العمر 18 شهراً الآن على بعد أكثر من 50 كم شمالاً في مدينة إدلب، بعد أن ضربت قنبلة منزل جيرانهم الملاصقين قبل ثلاثة أشهر.

هربت كل النساء والأطفال وفقاً لدياب، وأضاف: «الباقون في خان شيخون الآن جميعهم رجال، موجودون هنا لحماية منازلهم وأحيائهم من السرقة، وإما لا يريدون مغادرة منازلهم فقط».

قلة الإمكانيات لتمكين الهروب طلباً للنجاة

القصف على إدلب
سكان فروا من القصف في إدلب

وقال آخرون إنهم، ببساطة، لا يملكون المال للفرار إلى الشمال، فقد وصف ديفيد سوانسون، المتحدث باسم وكالة الأمم المتحدة لتنسيق المساعدات الإنسانية UNOCHA، الوضع بالنسبة لأولئك الذين بقوا في جنوب إدلب وشمال حماة بأنه «مقلق بشكل خاص».

وقال لموقع ميدل إيست آي: «هؤلاء الذين بقوا هم في الغالب الأضعف والأكثر هشاشة».

المعقل الأخير للمعارضة

محافظة إدلب، الريفية إلى حد كبير، هي آخر معقل رئيسي لقوات المعارضة في سوريا، بعد سلسلة تقدم عسكري خاطف في السنوات الأخيرة للقوات الموالية للحكومة.

شهدت تلك الفترة حملات حصار خانقة وقصف على المناطق التي كانت قوات المعارضة تسيطر عليها مثل شرق مدينة حلب وضواحي الغوطة الشرقية بدمشق، ما حوّل المناطق الحضرية التي كانت ذات يوم مكتظة بالسكان، إلى جبال من الأنقاض.

واجه السكان الذين نجوا من القصف خيارين قاسيين: البقاء تحت السلطة المستعادة للحكومة السورية، في بيوتهم التي يملكونها، أو ركوب حافلات الإجلاء الخضراء التابعة للحكومة، باتجاه الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة شمالي غرب البلاد.

انتهى الأمر بمئات الآلاف ينزحون قسراً إلى الشمال، كثير منهم إلى محافظة إدلب، والمنطقة الآن موطن لحوالي ثلاثة ملايين سوري، نصفهم تقريباً مشردون داخلياً.

تواجه إدلب حالياً -وكذلك أجزاء من ريف حلب وحماة واللاذقية المجاورة- احتمالية أن تكون موقع المواجهة العسكرية الكبرى القادمة بين المعارضة والقوات الموالية للحكومة.

بوتين يأمل ألا ترفع السعودية إنتاج النفط لتعويض انخفاض صادرات إيران، ويتحدث عن الهجوم على إدلب
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين

وبينما وصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الشهر الماضي الهجوم الشامل على إدلب بأنه «غير مستحسن»، فإن القوات السورية وحلفاءها الروس زادت بشكل هائل منذ شهر أبريل/نيسان هجماتها الجوية والبرية على الجيب الذي تسيطر عليه قوات المعارضة.

أدى اتفاق توسّطت فيه روسيا وتركيا أواخر العام الماضي في مدينة سوتشي الروسية إلى وقف هجوم واسع للقوات الحكومية على شمال غرب سوريا فترة من الوقت، لكنه يبدو الآن في طريقه للانهيار مع تعرّض عشرات البلدات للقصف.

قتل 105 أشخاص على الأقل في أحدث هجوم منذ أبريل، وفقاً للأمم المتحدة. من بينهم العشرات من الأطفال.

تؤكد وسائل إعلام النظام السوري أن التصعيد يستهدف «الجماعات الإرهابية» الموجودة في إدلب، حيث يسيطر تحالف ميليشيات هيئة تحرير الشام وغيرها من الجماعات المسلحة على المنطقة.

نجاة أبوأمجد لحظة الإفطار

بالنسبة للسوريين الذين يعيشون على خط المواجهة الأكثر اشتعالاً في البلاد الآن، فإن الهجوم يعني أيام صيف طويلة يتخللها القصف، دون مأوى متوافر.

المدنيون يخشون من «إبادةٍ جماعية» مع اشتداد الهجوم على إدلب
لاجئون سوريون في مخيمات إدلب/ الأناضول

أبوأمجد، وهو والد لثلاثة أطفال، قال لموقع ميدل إيست آي: إن قنبلة أصابت منزله في خان شيخون يوم الأربعاء، بينما كان هو وعائلته بداخله.

كانت نصف ساعة فقط متبقية على رفع أذان المغرب من المسجد القريب لتفطر العائلة من صيام رمضان لذلك اليوم، ولكن إفطارهم هذا لم يحدث قط.

وقال الرجل البالغ من العمر 44 عاماً: «لم نعرف نوع القنبلة التي سقطت علينا، هل كانت غارة جوية أم قذيفة أو شيئاً آخر، لكنني أتذكر المنزل ينهار فوق رؤوسنا». جذب وزوجته أطفالهما الثلاثة، وهربوا إلى الخارج قبل أن يسحقهم سقوط الخرسانة. وقال: «الحمد لله، خرجنا سالمين».

الصور التي التقطها أبوأمجد صباح اليوم التالي على هاتفه، تظهر جدران منزله المثقوبة وقد انهارت فوق بعضها البعض، ومرايا مكسورة، وأثاث غرفة المعيشة مكسواً بالغبار الرمادي ومحاطاً بالحطام. لم يبق فيما كان سابقاً مطبخه إلا عدة بلاطات بيضاء عالقةً بالجدار.

أمضى اليوم التالي في إنقاذ ما استطاع من ممتلكاته بمساعدة صديق، وتخزينها مع الجيران القلائل الذين بقوا في شارعه. وهو غير متأكد بعد من مكان مبيته في الأيام القادمة.

فرّت زوجة أبوأمجد وابنه البالغ من العمر 16 عاماً وطفلان رضيعان من خان شيخون في الساعات التي تلت قصف منزلهم، إلى بلدة خارج مدينة إدلب حيث يوجد أقارب لهم.

بقي هو في خان شيخون «لمعرفة ما يمكن فعله»، كما يقول، سواء إنقاذ منزل الأسرة، أو استخدام ما بقي لديه من مدخرات قليلة من عمله في مقهى الإنترنت للهرب إلى الشمال.

يضيف: «ليس لديّ أي أموال لدفع إيجار منزل في بلدة أخرى، لا أعرف حتى الآن ما الذي سأفعله، هل سأبقى مع الجيران أم شيئاً آخر».

حكاية دياب مع حياة الأشباح

خوفاً من تفجيرات مماثلة، لم يعد إلا قليل من السكان يقيمون في شققهم بالطابق الثاني أو الثالث هذه الأيام، كما أخبر دياب الموقع البريطاني.

وأضاف: «إنهم يقيمون فقط في الملاجئ أو في الطوابق الأرضية. قد تضربنا القنابل في أي لحظة». لشراء أشياء أساسية مثل الخبز، عليه أن يغادر خان شيخون، قال دياب إن أرفف المتاجر في بلدته شبه فارغة. ويقول الشاب البالغ من العمر 23 عاماً إنه يذهب ليلاً مطفئاً مصابيحه الأمامية، لتجنب اكتشافه: «الطرق خطيرة جداً».

ونادراً ما يزور دياب أصدقاءه، لم يبق منهم سوى عدد قليل على أي حال، فمعظمهم غادروا المدينة بحثاً عن الأمان، عائلته هو نفسه غادرت منذ عدة أشهر،  مع أن شهر رمضان، عادة ما يكون وقت الاحتفال والتجمع مع الأصدقاء والعائلة، لكن كما يقول دياب، لم يعد هناك كثير من البهجة في خان شيخون: «الحياة الآن أصبحت مجرد خوف وقلق».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى