تقارير وتحليلات

هل تنجح تركيا في الحد من النفوذ الإيراني في العراق؟

مع قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الانسحابَ من سوريا تضاربت التحليلات حول توابع انحسار الدور الأمريكي في المنطقة، فمن سيشغل هذا الفراغ الأمني في ظل عدم إتمام مهمة القضاء على تنظيم «الدولة »(داعش) هل هي روسيا ام إيران أم تركيا.

مجلة “ذا ناشيونال انترست” الأمريكية أشارت في تقرير لها إلى أن البعض يرى أن الفراغ الأمني سريعاً ما ستشغله إيران وروسيا. ولكن ما يزداد وضوحاً هو أن عوضاً عن التخلي عن أهداف التحالف، قد يمثِّل قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إسناداً لعمليات مكافحة الإرهاب إلى تركيا. وبالإضافة إلى ذلك، فهي فرصةٌ لكي تبسط تركيا نفوذها على نطاقٍ أوسع.

بصفته الممثل السياسي لرجل الدين الشيعي العراقي مقتدى الصدر، كتب ضياء الأسدي على تويتر: «هل أُسنِدَ المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط غير المكتمل إلى طرفٍ آخر؟ أما زال التاريخ المسجَّل للعثمانيين والصفويين متاحاً لدينا؟ فقد نحتاج إلى إعادة النظر فيه قريباً».

هل تركت الساحة من جديد لأحفاد الصفويين والعثمانيين؟

تشير المجلة الأمريكية إلى أن العديد من راصدي الشرق الأوسط يرون أن الساحة تركت من جديدٍ إلى خصمَين تاريخيَّين. إذ كانت في الماضي الدولتان العثمانية والصفوية هما من يتباران لأجل الهيمنة على المنطقة، فاليوم قد تكون المنافسة بين أنقرة وطهران.

ليست الأصوات المنادية بتدخلٍ تركيٍّ أقوى في المنطقة بأمرٍ جديدٍ. فمنذ غزو العراق بقيادة الولايات المتحدة في 2003، جاءت معظم هذه الأصوات من دولٍ عربيةٍ مجاورةٍ خائفةٍ من توسُّع النفوذ الإيراني. ثم تبدَّدت تلك الأصوات إلى حدٍّ ما مع تدهور العلاقات بين تركيا ودول الخليج العربي، ولكن شهدت الآونة الأخيرة إحياءً للاهتمام بحصول تركيا على دورٍ أكبر، بالأخص من المجتمعات السنية المهمَّشة في العراق.

رؤساء تركيا وروسيا وإيران في قمة سوتشي

ولكن إلامَ سيفضي هذا الأمر؟ لقد وجَّه الانسحاب من سوريا ضربةً أخرى نحو النفوذ الأمريكي في بغداد، ثم إن التصريح المستفزَّ من ترامب بأنه سيحتفظ بالقوات في العراق «لرغبتي في أن أقدر على مراقبة إيران» قد يعجِّل باليوم الذي تطالب فيه العراق -لا ترامب- بانسحابهم. في هذا المناخ، هل يمكن -وهل ينبغي- لتركيا العمل على بسط نفوذها في العراق؟ من سيحقق الانتصار الفكري والعاطفي؟ تركيا أم إيران؟

النفوذ الإيراني: في اضمحلال أم تصاعد؟

تزعم التقارير أن النفوذ الإيراني في العراق في حالة اضمحلالٍ. إذ تُظهِر بعض الدراسات تراجعاً ملحوظاً في تأييد الشيعة العراقيين لإيران. على سبيل المثال، وفقاً لاستطلاع رأيٍّ أجرته شركة «المستقلة» للأبحاث (IIACSS)، كان 88% من المشاركين في عام 2015 مؤازرين لإيران، ولكن تراجع ذلك الرقم إلى 47% بحلول عام 2018. والسبب الرئيسي لهذا التراجع هو وجهة النظر التي ترى أن الحكومة العراقية الواقعة تحت هيمنة أحزابٍ شيعية مدعومةٍ من إيران قد أخفقت في تحسين مستويات المعيشة. علاوةً على أن البعض قد ترجموا الانتصار البرلماني الساحق للتيار الصدري (المعارض لأي تدخلٍ أجنبيٍّ في الدولة) كإشارةٍ على أن إيران تفقد سيطرتها على العراق.

إلا أن هناك عدداً أكبر بكثيرٍ من التقارير المشيرة إلى أن النفوذ الإيراني لم يتصاعد فحسب ولكن حضورها صار مستفحلاً في العراق. وكما ورد في أحد التحاليل، أدى هذا الحضور إلى «إضفاء الصبغة الإيرانية على العراق«.

في كلتا الحالتَين، يبدو أن هناك إجماعاً على أن إيران قد تغلَّبت على الولايات المتحدة في المعركة لأجل السيطرة على العراق. فالنصر الأخير لإيران ضد الولايات المتحدة والسعودية في المشهد السياسي العراقي هو أولاً وقبل كل شيءٍ نتيجة للثقة التي رسَّختها داخل الدولة على مدار عقودٍ».

ومع أن المجتمعات السنية المهمَّشة قد تطالب تركيا بالمساعدة في تحجيم النفوذ الإيراني، فإن الأحزاب السياسية الأقوى تأثيراً في العراق تبدو على استعدادٍ لتقبُّل التدخل الإيراني كبديلٍ عن الهيمنة الأمريكية. حتى التيار الصدري، على عكس الاعتقاد السائد، ليس معادياً لطهران كما افترضنا. ومع ذلك، فهناك خوفٌ كامنٌ بين العراقيين من أن يؤذن هذا النفوذ الحميد بمستقبلٍ من تدخلٍ ليس على الدرجة نفسها من الطيبة.

فأين هي تركيا من كل هذا؟

وسط كل هذا الاختلاط، تشغل تركيا مركزاً ملائماً لكي تلعب دوراً مساعداً عن طريق حلِّها محل الولايات المتحدة المعادية كجارةٍ أقل عدوانيةً. ووفقاً لمصادر عليا في أنقرة، اشتمل جزءٌ من الاتفاق الأمريكي التركي حول سوريا على تفاهمٍ يقضي بمحاولة تركيا الحدَّ من الأجندة التوسعية لطهران في المنطقة. ومع ذلك، فإن اتبعت تركيا استراتيجيةً قائمةً على التعاون الدبلوماسي المسالم والعلاقات التجارية النافعة، قد يحقِّق هذا المزيد.

ويتفق مع هذا الرأي سليم كاراوسمانوغلو، السفير التركي السابق إلى العراق وإيران.

إذ قال: «ستستوجب المطالبة بدورٍ أكبر من أنقرة مزيداً من المجازفات الأمنية والسياسية. ومن شأن هذا إثارة المزيد من التوتر في المنطقة في ما يتعلق بتركيا (ولكن) للتصدي لمناخٍ عدائيٍّ كذلك، على صناع السياسية الأتراك استغلال القوة التركية الناعمة، بدءاً في العراق. فإن بغداد تقبل وتؤمن بأن تركيا صادقةٌ في تدعيمها للسيادة والوحدة السياسية العراقية».

على عكس الأطراف الخارجية في المنطقة، يُنظَر إلى تركيا على أنها محايدةٌ وكبيرةٌ بما يكفي لكي تملك نفوذاً ولكن صغيرةٌ بما يكفي لتكون مسالمةً.

لا يحيط بالعراق سوى القليل من الأصدقاء والحلفاء (إن وُجِدوا)، والكثير من العواصم الساعية وراء تحقيق مصالحها الشخصية. على النقيض، لا تهاب تركيا العراق ولا جيرانها، وأنقرة يمنحها نفوذها الواسع في عموم المنطقة دوراً تُحسَد عليه بصفتها وسيطاً أميناً.

ماذا يمكن أن تقدم تركيا للعراق؟

من خلال هذه الجهود الدبلوماسية، يمكن لتركيا المساعدة على إعادة العراق إلى قائمة «الدول الشقيقة». وقد شهدت السنوات الأخيرة لعب أنقرة دوراً أكبر في الوساطة، إذ تجد نفسها إما في بؤرة معظم الصراعات الدولية وإما على هوامشها، سواء في البلقان، أو سوريا، أو العراق، أو مصر، أو القوقاز. لدرجة أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد عرض في شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أن يلعب دور الوسيط في الأزمة الروسية الأوكرانية.

أما بالنسبة لإيران، فقد ازدادت العلاقات الدبلوماسية دفئاً خلال العام المنصرم. إذ أن التعاون الوثيق في عملية السلام السورية والسماح لتركيا بشراء البترول المحظور شراؤه من إيران يمنح أنقرة أفضليةً في مواجهة طهران. وبدلاً من استراتيجية المواجهة الأمريكية المحفوفة بالمخاطر، تحظى تركيا بموقعٍ أفضل لبسط نفوذها من خلال الحوار والعلاقات التجارية.

بالمقابل، قد يأتي ذلك بنتائج عكسيةٍ في حال اختارت تركيا لعب دورٍ أكثر عدائيةً في العراق. وكما قال سياسيٌّ عراقيٌّ على مقربةٍ من حزب الدعوة الإسلامية: «ما كانت إيران لتقف مكتوفة الأيدي إذا قررت تركيا لعب دورٍ أكبر في العراق. إن إيران تشارك مشاركةً فعالةً، فلها عديدٌ من المليشيات المرتبطة بإيران والموالية لها وقد تلعب دوراً حاسماً إذا قررت الحكومة اتخاذ موقفٍ حياديٍّ في هذا التنافس التركي الإيراني».

وأضاف: «بما أن القوة الرئيسية في أيدي الأغلبية الشيعية، لن تنال تركيا سوى خساراتٍ متواليةً سياسيةً واقتصاديةً في العراق وربما حتى أمنيةً لأن حزب العمال الكردستاني يمكن تنشيطه كبطاقة ضغطٍ ضد تركيا».

وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو يلتقي الزعيم الشيعي العراقي مقتدى الصدر

ومن جانبه أعرب ضياء الأسدي، الممثل السياسي لرجل الدين الشيعي مقتدى الصدر، عن الرأي ذاته.

إذ صرح قائلاً: «سيكون من غير الحكمة لسياسات تركيا الخارجية (التي هي في المعتاد حكيمة) أن تُقحِمَ نفسها في مواجهةٍ مع إيران أو أية دولةٍ مجاورةٍ». وتابع: «ما يمكن لتركيا فعله (وما هو متوقعٌ) هو أن تلعب دور الوسيط وحلَّال المشاكل في منطقةٍ زاخرةٍ بالمشاكل».

فرصة لعلاقات تجارية مفيدة

التجارة والاستثمار هما الآخران مجالان يمكن لتركيا التنافس والتعاون فيهما. فهي تتمتع بحضورٍ كبيرٍ في قطاع المقاولة في العراق والطلب على المباني الجديدة -في المدن التي دمرتها داعش ومع نمو الاقتصاد. وقد أوضحت أنقرة بالفعل استعدادها للمساعدة في إعادة البناء حين كشف وزير الخارجية التركي مولود جاوش أوغلو عن تقديم تسهيلاتٍ ماليةٍ بقيمة 5 مليارات دولار للشركات التركية العاملة في العراق.

أما سوق وسائل الدفاع فهي مساحةٌ أخرى للفرص. فمع سحب الولايات المتحدة لكلٍّ من قواتها ودعمها المالي الهائل، ستحتاج قوات الأمن العراقية التي ما زالت قيد التطوير إلى كامل معدات جمع الاستخبارات والمركبات وأنظمة الأسلحة ومعدات الجنود الأفراد وكثيرٍ من السلع الأخرى يمكن أن يوفرها قطاع وسائل الدفاع التركي المتنامي، بجودةٍ مكافئةٍ وتكلفةٍ أقل.

من ناحية الخدمات الدفاعية، يتمتع الجيش التركي بأفضليةٍ مميزةٍ بالنظر إلى سنواته التي أمضاها في مكافحة الإرهاب داخل تركيا. وبما أن قوات الأمن العراقية -لا سيما قواتها النخبوية لمكافحة الإرهاب- ستحتاج إلى تدريبٍ متواصلٍ، فالخبراء العسكريون الأتراك قادرون تماماً على أن يحلوا محل المختصين الأمريكان الراحلين. والأهم من ذلك أن توفير هذه القدرات الدفاعية للعراق يمكن تنفيذه بأسلوبٍ لا يمثِّل تهديداً للمنطقة.

في ختام طرح آرائهم، يؤكد كثيرٌ من المحللين أن تركيا تقدم فرصةً مثاليةً لاستبدال النفوذ الأمريكي المنحسر في العراق في أثناء توطيد العلاقات مع إيران. فموقعها الجغرافي، وثقلها الدبلوماسي، وعلاقاتها التجارية المتنامية تسمح جميعاً لها بالترويج للنية الحسنة وتوطيد العلاقات مع بغداد. وبوسعها بسط ذلك النفوذ باستخدام أفضليتها الفريدة في وضع الاعتبارات الإقليمية في الحسبان. والأهم أنها قادرةٌ على تحقيق ذلك بالتنافس والتعاون، من دون التلويح بالسيوف والتهديدات، وبأسلوبٍ يؤدي إلى مزيدٍ من الاستقرار والأمن، مما يصب في مصلحة تركيا والعراق، وربما كنموذجٍ لفرصٍ أخرى في المستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى