ثقافة وفنون

البوستر الفلسطيني .. جمالية مقاومة برؤى بصرية تجاوزت شعارات الانتماء

ليعبّر عن نفسه وانتمائه وقضيته وحقه، كثيرا ما ابتكر التشكيلي الفلسطيني مسارات فنية مختلفة عبّرت عنه وأنضجت أساليبه الإنسانية في محاكاة العالم عن قضيته وهو ما استثار فيه تقنيات التجريب التي استحثّت هذه المسارات الفنية، فهناك من عايش مدارس التشكيل المألوفة وهناك من تمرّد بأساليبه على منطقها وخاض التجريب بكل آلياته الموظفة لأشكال التعبير حسب الأحداث المتراكمة والمشاعر الموظفة في جدلياتها السياسية والعسكرية الجغرافية والتاريخية النفسية والذهنية والحسية ولعل فن البوستر أو فن الملصق كثيرا ما عبّر عن الفلسطيني في كل مناسبة وكل حدث حتى أصبح ابتكارا فلسطيني الهوية، له خصوصياته التشكيلية وتوظيفاته المقاومة والمعبّرة وحتى اندماجاته التي تفصّل جماليا تلك الرؤى الماورائية في المعنى والمفهوم التعبيري والتشكيلي والسرديات البصرية للانتماء والذات والوطن وخصوصيات العلامات والرمزية وقراءاتها السيميائية في وقتها الذي عبّرت فيه عن الفكرة وفي الحاضر الباقي الذي تعبّر فيه عن أسلوب فن ميّز هذه التجربة رغم اختلاف ملامحها.

 

*زهدي العدوي

إن قوة البوستير تكمن في كونه اختصار جمالي لمواقف وأنه رمزيات تجيد تفكيك المعاني بعلاماتها وروحها في شكلها الإنساني، فالملصق له قدرة على التأثير في اليوميات التي تعبث بالذاكرة بشكل تفصيلي وملامح تتخذ الورق والألوان والخامات وتوظّفها للتعبير بشكل آخر يحمل أبعاده الإنسانية بعيدا عن المتعارف والمألوف في فكرة البوستر التي ظهرت من خلال الإعلانات والدعاية والبروباغاندا فالترويج للفكرة حوّل الفنان الفلسطيني في فترة ما إلى مبدع في مجال هذا الفن لأنه اختصر قضيّته في تكوينات فنية جعلت مدرسة الملصق الفلسطيني تنتعش لفكره ووعيه ورغبته في إثبات وجوده لتقدّمه للعالم وتطوّر التجربة جماليا وإبداعيا.

*غازي انعيم

وتعود فترة انتعاش هذا التعبير الفني إلى أواخر السبعينات وبداية الثمانينات حيث اجتهد الكثير من الفنانين على توعية شعوب العالم بقضية فلسطين وتحفيز مساراتها في كل مناسبة وكل حدث إذ كان البوستر هو المحمل الذي يجسّد خصوصية الفلسطيني ومنفذا للمقاومة وأرشيفا للذاكرة التي صارت تميّز الفلسطيني في العالم خاصة وان التعامل مع الملصق يحمل منطلقات اللوحة في الفضاء التعبيري والمفهوم والمقصد ومعاني الرموز وتحوّلات الخطوط تدرجاتها اللونية وتداخلاتها المتكاثفة.

*أديب خليل

تبنّت حركات المقاومة الفلسطينية هذا الفن للترويج لحضورها النضالي الذي حقّق لها تواصلا مع العالم بمشاركة فنانين عرب وأجانب كانت لهم بصمة خاصة في التطوّر بهذا الفن جماليا مثل السويسري “مارك رودن” الذي أصبح يعرف باسم جهاد منصور بعد ما قرّر العيش في المخيمات الفلسطينية في لبنان حتى يكون متفاعلا أكثر مع القضية الفلسطينية وينشر ثقافة التعبير البصرية بفنون الملصقات، ما نشر الحركة الفنية وحفّز الفنانين على التعبير بهذا الأسلوب من خلال توظيف تقنيات اللون والتصوير الضوئي.

*ممدوح الكردي

وقد نشطت الحركة التعبيرية الفنية بالملصق مع عدة أسماء تشكيلية معروفة اختارت البوستر للتجريب التعبيري والنضالي نذكر سليمان منصور غازي انعيم زهدي العدوي محمد أبو صبيح حلمي التوني أديب خليل علي فرزات عوض عمايري، ممدوح الكردي، لتتسم الحركة بالقيم البصرية التي قدّمت رؤى ومواقف سياسية وتعابير إنسانية لها جمالياتها الخصوصية وعلاماتها الانفعالية والتحفيزية، فقد غيّرت مسار التوظيف الخاص بالأفيش من الاستهلاكي إلى التعبيري والإنساني ومن مجرد دعاية لمنتوج إلى دعاية لقضية وطنية وإنسانية، وهو ما جعل من هذا التجريب يكوّن الخصوصية الفلسطينية التي خاضت هذا التعبير.

زهدي العدوي

ومن خلال التأريخ الأول لفكرة التعبير بالملصق فإن تاريخ أول ملصق فني فلسطيني يعود إلى منتصف الثلاثينات حيث عبّر عن وحدة وطنية فلسطينية واجهت المحتل البريطاني والمخطط اليهودي كانت رموزه الأولى ذات توحّد انساني عبّر عن خصوصية الشعب والأرض بتشابك بين الهلال والصليب في رمزية الأرض ليكون هذا الملصق تعبيرا وموقفا ضد التقسيم واغتصاب الأرض.

أما البداية الحقيقية للملصق الفني ذي الخصوصيات الجمالية والتعابير المختصرة بمواقفها وبإبداع فني، فقد كان ظهوره الذي شكّل ظاهرة في فترة الستينات وبالتحديد سنة 1965 مع اندلاع الثورة الفلسطينية وقيام منظمة التحرير التي اعتمدت كل وسائل التعبير الثقافي والتراثي والفني حتى تروّج لمنهج المقاومة مثل تحويل لوحات رواد الحركة التشكيلية إلى ملصقات مثل أعمال إسماعيل شموط وتمام الاكحل لتنشط الحركة ولتحمل بذاتها خصوصياتها التعبيرية فمنذ ذلك التاريخ إلى الثمانينات كان للملصق صداه في نشر فكرة الإنسانية والمقاومة المشروعة والحق الفلسطيني خاصة وأن هذه المقاومة بفصائلها أثّرت عالميا على انتشار التعبير الفني بالبوستر وأصبحت الأيقونات البسيطة رمزا لفلسطين مثل “حنظلة” و “البندقية” “الزيتونة” الحمامة البيضاء”، “الكوفية”، الحرف العربي لأسماء المدن خارطة فلسطين والأطفال والحجارة.

تحمل الملصقات خصوصياتها من العلامة الرمزية المألوفة والقريبة من ذاكرة المتلقي فرغم كثافتها حقّق اختصارها مجاز المعنى واحتواه وتحمّل المضمون المفهوم والتصور الكافي بطرح ذاته وسبل تعبيره التي كثيرا ما كانت تخلق منافسة في الطباعة والنشر والاعلان والتوزيع بين الدول التي احتضنت القضية الفلسطينية سورية الأردن لبنان وبين الفصائل المختلفة التي كانت تنشط فيها، فالتواصل بالملصق كان يبعث رسائل ويقدّم عبارات التحفيز والتشجيع تتقارب في جمالياتها وتحتد في علاماتها.

ورغم أن الألوان كانت تحمل حركة وتفصيلا وتعبيرا إلا أن الملصق الذي كان يصاغ بالبعدين الأبيض والأسود كان يحمل فكرة ومفهوما مختلفين في الرسائل الفنية والتصورات الجمالية ما جعل هذه التقنية تنتشر كموقف آخر وتصور بعيد عن فكرة الانتماء السياسي خاصة وأن الفلسطيني كان يبحث عن اتصال يكسر حواجز التفرقة والانفصال فكان التعبير الأقرب للسكيتش جماليا ومثيرا ومستفزا في حركة الانتشار التي حمّلته الإحساس الداكن ووزعته وامتصت من خلاله صخب حركة الألوان بدرجات استفزاز الفضاء والمساحة والقدرة على استيعابها.

حمل الملصق دورا جمالي التحريض الذي كان أساسه التعاطف والموقف والانتماء وتبادل الفكرة والتعبير عن الإنسانية ليبقى شاهدا رمزه الشهيد وشعاره الوطن الحق ومفهومه انعكاس الذات المقاومة جماليا.

 

*الأعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى