ثقافة وفنون

التجريب المعاصر وفن المنمنمات في تجربة الفنان التشكيلي السوري محمد قباوة

بشرى بن فاطمة

محمد قباوة فنان تشكيلي سوري تميّز بأسلوب دقيق في ملامحه التشكيلية التي تعامل الكلاسيكي بالمفاهيمية المعاصرة، فنان له مواهبه المتعددة في الرسم والتشكيل والنحت وبالخصوص في فن اللوحة المنمنمة.

من أعمال التشكيلي السوري محمد قباوة
من أعمال التشكيلي السوري محمد قباوة

موشح

 

تأثر ببيئته الشامية ومدينته “حلب” التي ولد فيها سنة 1959 واكتسب موهبة فنية مبكرة حيث درس بمركز الفنون التطبيقية وتابع دراسته في الفن بأكاديمية الفنون في بترسبورغ رغم توجهه العلمي وقبوله في كلية الطب تفرغ للفنون الجميلة، حصل على جائزة أفضل بورتريه من أكاديمية بوخينا الروسية وجائزة التصميم عن عمل نحتي عنوانه “الكاتب المصري” وعمله النحتي “عبد الملك ابن مروان” الذي نصب أمام مصرف روسيا.

سهرة سمر

قدّم قباوة دراسات أكاديمية في الفنون العربية والإسلامية ومنها فن الخزف وقدّم أعمال اختصت في المنمنمات العربية الإسلامية وهي الأعمال التي لاقت إعجاب ودهشة المتلقين والنقاد فهو يطرحها بأسلوب معاصر وبمفاهيمية استدلالية تبحث في العمق التعبيري وتستقي أفكارها من التاريخ المتنوع للمنطقة والحضارة.

من أعمال الفنان محمد قباوة
من أعمال الفنان محمد قباوة

قصة الحكواتي

تمكن قباوة من خلال فن المنمنمات من خلق رؤى تعبيرية جديدة خاضت في الفكرة واستنطقتها جماليا مستغلا حجمها ومساحتها وفضاءها بزخم زاخر الوصف والعلامات اعتمادا على ملكاته وخياله الجارف الغارق في عمق التاريخ والتشبع بكلاسيكياته المتنوعة سواء تلك الغربية أو الإسلامية بشرقيتها المنسابة بإيقاعات تتناغم على توحيد الإبداع وتسريبه لينفلت مع القراءة بدلالات متنوعة.

تميّز أعماله النحتية التي تمازجت فيها المفاهيم والفكرة مع الخامات والطين لم تمنعه من أن يخضع أسلوبه ويوجهه نحو التجريب بتماثله مع الرؤى التشكيلية ووحيه الإبداعي المنعكس على اللوحة فكل ما ينفذه يتأثر بأنماطه التجريبية المنحوتة والمنمنمات والتي لم تنفصل بدورها عن التصميم النحتي في تشكيلات مساحاتها، إذ حوّل هذا المزج حرفية التعبير على خامة اللوحة التي عبرت عن مفهوم الرؤى الفكرية والفلسفية وتطويعها جماليا مع التقنية الفنية تأسيسا للجمال وإثارة للدهشة.

لوحة بائعة الورد
لوحة بائعة الورد

بائعة الورد

روح التجريب في مساره الفني انتقلت به إلى تعبئة الفراغات البحثية مستفيدا من كل نمط ومن كل أسلوب ومن التاريخ والحضارة والتبادلات الثقافية، ليطوّر فكرة الفن الذي اعتبره انتماءه وفضاءه.

ففن المنمنمات يعتبر ميزة حضارية وتوافقا مرحليا للفنون الإسلامية التي تطوّرت وكانت نهضتها تعني تلاقح العالم الإسلامي مع الهندي والفارسي، فالمنمنمات هي رسوم كانت ترافق المخطوطات والكتب وتشكل مع المضمون محاكاة بصرية للسرد فقد مكّنت المنمنمات من التعريف بعادات وتراث وتفاصيل الواقع في تلك المراحل التاريخية فاعتبرت أهم توثيق بصري، وأول كتاب عربي جسّدته المنمنمات كان “كليلة ودمنة” لابن المقفع ولم تقتصر المنمنمات على التوثيق للكتب الأدبية فقط بل العلمية أيضا، ويعتبر “بهزاد” أشهر رسامي المنمنمات الذي طوّر الفكرة تشكيليا بكلاسيكية تراثية أثرت في مسارات الحداثة التي أسست للمدرسة الفارسية بعد أن قام برسم ملحمة “الشاهنامه” الفارسية للفردوسي.

حلب
حلب

فهذا الفن تطوّر وتداخلت تفاصيله التعبيرية ليتحوّل إلى إرث إسلامي تميّز بالشكل والتجسيد والشخوص والملامح ومع نهضة الفنون اتخذ العديد من التشكيليين العرب المنمنمات أسلوبا لطرح الفكرة مع اللوحة   والصورة والحالة والواقع والتعبير اليومي كما فعل محمد قباوة في تجربته بمزج التعبيرية والانطباعية الحديثة مع المفهوم المعاصر طرحا لتفاصيل بيئته الحلبية والشامية وكثافتها اللونية والتراثية بزخم اقتحم الفضاءات.

المدينة
المدينة

 

تتشكل اللوحة المنمنمة في تجربة قباوة من عدة أبعاد تكاثفية بين التسطيح والعمق والتوافق البصري والشكلي والخطوط والزخرف والقبة التي تحتوي المشهد التزويقي وترميم الأطر المحيطة بالخط العربي وتشكيله بتمازج يداعب الحنين والذاكرة والماضي متجانسا مع التراكيب اللونية المتداخلة والتفاصيل الدقيقة للتراث وزخرف الفضاءات وهندسة المعمار الداخلي شكلا ولونا كلها تعكس دقة واحترافا متكاملا وشرحا مفصلا لعادات وتقاليد وبيئة وحضور يحكي الانتماء بحيوية تسر وتثير عين المتلقي ومتعة المتابعة البصرية للمضمون الداخلي فهو ذاكرة يروضها الفكر المعاصر للرؤية التشكيلية.

تطغى الألوان والنقوش والهندسة على كل زوايا اللوحة ومع كل تشكيل لفضائها فبين الأزرق بتدرجاته والأخضر والأصفر المنبعث في الأطر الداخلية والخارجية تشرق الحياة بحنينها الماضي أشجار أزهار مرح يصف تفاصيل يومية ببساطة مألوفة ومستحبة تريح العين وتتوغل بعيدا في عمق البصر والحواس والذاكرة.

الاستقبال
الاستقبال

يستوحي قباوة رؤاه البصرية من عراقة الإيحاءات المختزلة لثراء الصور والشخصيات والأساطير والملاحم وقصص أثّرت في الذاكرة وفي فلسفة الواقع وفي تيارات التعبير ما يضفي التأويل الشخصي ويفتح منافذ التفرد بالمضمون.

التلبيس
التلبيس

فقد قدّم قباوة في لوحته البيئة الشامية ومدينة حلب بتمازج تعبيري له فلسفته الجمالية ارتكز على المنمنمة بكل ما تحتوي من تصوّرات وخيالات أخضعها للفن الإسلامي بزخرفه بعلامات وموتيفات دلالية ذات روحانيات انفعالية وعمق فاعل أخضع التعبيرية للانطباعية وجذب الأحاسيس ومنحها للفضاءات الداخلية للقصة بحيوية، ليسردها بصريا ويقدمها تفاعليا بانجذاب لأحاسيسهم فهو يعتبر أن اللوحة المنمنمة تعزّز الروح والخيال والحلم الباحث في داخله عن السكينة التي تروّض الخطوط والألوان باختلاف أبعاد الفضاء وتخلق علاقة بين عناصرها تحمل فرحا وانسجاما متداخلا ومكثفا يدفع بالتطور بمفهوم اللوحة المنمنمة وفق آفاقها الجمالية التي تعمل على فكرة اللوحة المنحوتة المتحررة في الفضاء والمتفاعلة مع الأبعاد والضوء.

*الأعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى