ثقافة وفنون

التشكيلي الأمريكي Fred Martin .. عزلة العالم ورؤى التعبير مفاهيم للفن وجماليات انسانية البقاء

فجأة أقفل العالم أبوابه مُجبرا وأصبحت فكرة الخارج مُجرد هوس وهلوسات مع تطورات فرضها الواقع في الفترة الأخيرة بعد انتشار فيروس كورونا المُستجد، تغيرت تفاصيل الحياة ويومياتها كما تغيّر منطلق التواصل والتعبير من التلاقي المباشر إلى التواصل عن طريق الانترنت والتفاعل مع المستجدات بحكمة تفرض الحرص والإيمان بدقة البحث عن الحياة في حكمة العزل والانعزال.

 

 

والفنان خضع لهذا الواقع والتزم بتحويل نشاطه من العرض العام إلى العرض الافتراضي ومن التعبير في الملتقيات إلى التعبير بالكلمة والتواصل بالفيديو، كما فعل الفنان التشكيلي الأمريكي فريد مارتن حيث حمل قيمته وقامته وعمره الفني ليسرد تجاربه التي تعتبر انتصارا حقيقيا وتحدّ مُفرط في المحبة والحياة والحرص والانتماء للجماليات وتوظيفها للتعبير عن كل الظروف والمراحل.

 

فلا يُعتبر العمر في حياة فريد مارتن إلا مزيدا من العطاء الفني ورحلة مليئة بالألوان والأفكار والرؤى النقدية والأمكنة والذاكرة التي تمتلئ في مسارات التجريب والترحال والملامح والخطوط والأساليب والعمق، إنها مخزون مدهش بالذاكرة ومُندهش بالتفاعل فيه بعمقه وتغيّره حسب الأحداث والمراحل ليكون أكثر قربا من الانسان ويحمل وعيه الذي آمن من خلاله بأن الواقع والأحداث هي متغيّرات وغربلة يسقط بُعدها السطحي والسخيف ليبقى العميق والفاعل والكثيف بمفاهيمه.

 

يحاول مارتن الفنان التسعيني الذي عايش أغلب الأحداث العالمية التي شكّلت فارقا في مساره التاريخي الإنساني، وارتحل عبر العالم وتعرّف على أكثر من ثقافة وحضارة من خلال فنه وتجاربه، أن يتأقلم في الوقت الحالي مع هذا الحجر الإجباري الذي فرضه الواقع الصحي والتعامل معه بوصفه حدثا له تأثيره على الفنان والانسان دون أن يعجزه أو يثنيه عن التماهي فيه حتى لو حمّله الواقع الراهن عزلة فردية معزولة عن الآخر وعن الأمكنة، إذ يعتبره ظرفا لا يمكن أن يُعجزه عن التعبير ولا عن أن يتوارى عن معايشته أو يُخرس تفاعلاته الكثيفة بالمعاني والعلامات، لأن الفن وكما يقول مارتن لا يقف برؤاه المُنطلقة والمُتحررة ولا تُوقفه الأحداث بل تدفعه لتقديم المفاهيم والتعبير عنها جماليا، فالواقع بطبعه يغيّر في رؤية الأشياء وتتغيّر معه المفاهيم التي تطوّع الخامات والألوان والأشكال.

 

 

فريد مارتن الذي ولد سنة 1927 قضى عمره بين الفن والتجريب والبحث والنقد والتدريس لم يهدأ ولم ينعزل فهو من أول الأساتذة الذين درّسوا الفن في جامعة الفنون بسان فرانسيسكو هذا الصرح الفني الذي لم يقفل منذ أكثر من 150 عاما أبوابه في وجه رواد الفنون في الولايات المتحدة الامريكية والعالم، واليوم يراه مارتن فارغا من مرتاديه وعشاقه من أنشطته وبرامجه ولكنه يُبصر في عمقه التغيير في الرؤى وفي المنطلقات وفي الشغف الجامع بين الفن والتعبير في الفكرة والبصريات.

 

 

كل هذا الصمت والفراغ والدهشة التي انتابت العالم لأول مرة حمّلها مارتن أكثر من فكرة ومن بُعد للتأمل في الكون والأرض والطبيعة والإنسانية لتحمل ماهية التغيير ومتغيراته بشكل حقيقي وطبيعي واضح من خلال مداها التأثيري الذي سيكون عليه الانسان والفن ليتساءل عن مدى ما سيغيّر هذا في المفاهيم والنظرة العامة للفن؟

 

 

يعتبر مارتن أن الأحداث بطبعها لها دفعها الدافع في إحداث التغيير الفكري وتشكيل أساليب الاستيعاب الحسية والذهنية وبالتالي ما يعيشه العالم اليوم سيكون له وقعه الفاعل في التغيير من أبسط الأشياء إلى أكثرها تعقيدا ومن الأوضح إلى الأكثر غموضا.

 

 

رغم عمره الزاخر بقصص الشرق والغرب وتحولات الفكر والحضارة بملامحها التي نقلها في لوحاته بأسلوبه التجريدي الشيّق وبخاماته التي استوحاها من تلك الأمكنة وطبيعتها، لا يزال مارتن يعبّر بروح شاب توّاق للمعرفة ويعبّر عنها بمنطق الاكتشاف فهو لا يكفّ عن ترويض ألوانه وخطوطه وخاماته وذاكرته ليلامسها من جديد بتصوراته وتذكراته، وكأنه يخوض معها ملاحم التواصل والقرب الذي يخلق بينه وبين الفنان والمتلقي والمتابع تماسا فكريا وحسيا فهو يعتبر أن الأمكنة لا تغادر الانسان بمجرد رحيله عنها بل تسكنه وتساكن ذكرياته.

 

 

فهو يسترجع في حركته ونشاطه تفاصيل البدايات ويفعل حضوره الناضج والحكيم ليصلها معا مُعتبرا هذه الفترة فترة السمو التي تحكم قبضتها على الزمن بين خلود التعبير وامتثاله للجماليات الأساسية التي ترتكز عليها الأعمال الفنية، إذ يقول “فترة الفراغ أو العزلة هي مرحلة يتأمل فيها الفنان تفاصيل الوقت فهي بالنسبة لي استرجاع للمهام التي خضتها في الحياة بأخطائي وانجازاتي إنها لحظات تستحيل إلى مرايا تعكس ذواتنا لتشفي أرواحنا من أوجاع الواقع فننتصر على خساراتنا ونرتقي بإنسانيتنا، فالمرحلة تستثير الأسئلة بجدل وجودي مستحب لا يتناقض مع الحياة والمحبة والاستمرار لأن العالم سيكون مملا بلا معنى لو اندثر التفاعل مع الفن وغابت الكلمات وصمتت الألوان عن شغبها وانكتم صوت الموسيقى فالفن لا يمكن فصله عن الحياة لأنه الحياة بقيمها.”

 

 

يقدّم مارتن نظرته الجديدة والجديّة في الفن بوصفها لا تتناقض مع التفصيل الطبيعي في حياة الفنان فهو يرى أن الفنان بطبعه يميل للعزلة عند الإنجاز ولكن دون أن يجبر على أن يُقصي تواصله مع الطبيعة والانسان والأمكنة لأنه كائن يستلهم من المجتمع والناس والحركة والحرية مفاهيمه، فمُجرد انعزاله قادر على كتم ألوانه وبالتالي فإن ما يعيشه لا يمكن له أن يقف عند التأمل بل يجب أن يمتّن التواصل الحقيقي مع انسانيته ليخلق التغيير لأن الفن هو جوهر، وهذا الجوهر هو الأصل الذي لا ينفصل عن الفن.

 

لقد بالغ مارتن على مدى مراحل تكوينه الفني في خلق رؤى لا تتنافر مع الطبيعة والإنسان والأرض بوصفها الرحم الذي يحتوي الكل فقد عبّر عنها بتلك الألوان والحركة الدائرية وفعّلها بالأضواء والتدرج والكثافة المحتدمة مع المشاعر في الخطوط والانحناءات والنقاط وتداخل الألوان، وهو في هذه المرحلة لا ينفصل عن تلك القاعدة إذ يقدّم مشاريعه الفنية الجديدة بالارتكاز على الانسان والوجود والإنسانية بتفصيلات تجريد يفيض بالألوان والمجسمات المشغولة بصخب الطبيعة والعالم وما يحتويه من صراعات نفسية وجدل مفاهيمي في رمزياته وعلاماته حيث يقول “التأمل في الذات يساعد على الرسم لأن التفاعل البصري لا يعتبر الرسم صورا ينعكس عليها الواقع فيقوم الرسام بنسخها بل هي ما نفهمه ونبصره فنفهم به الحياة ونتوافق به مع أرواحنا لنتجاوز الشقاء بالشفاء والسكينة.”

 

 

إن الحديث مع فنان بقيمة فريد مارتن الإنسانية يثير الكثافة الفكرية والبصرية والترحال الشيّق الذي يفعّله في لوحاته التي تستنطق الشرق بزخرفاته وأضوائه وعلاماته والتجريد بانعكاس الفكرة على الصورة وتفوّق المفهوم في توجيه العلامة، وهي الحكمة التي سعى لإنضاجها مستفيدا من نقده وأسئلته الباحثة في الإنسانية والمستمرة في العطاء والتغيير ومجاراة الفن بالعمق بالقيمة بالأسلوب وتفعيل التغيير من أجلها.

 

*الأعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى