ثقافة وفنون

 الشاعر موسى حوامدة يتذكر: يوم رأيت شبح أم الدناديش التي يخيفون بها الصغار (الحلقة الرابعة )

 

يستكمل موسى حوامدة سيرة الذكريات، ويسرد حكايته مع عمته التي ربته، في وقت رأى أن والديه انشغلا عنه، ويتذكر حكايات الأشباح أيام الطفولة، ويوم رأى شبح “أم الدناديش” التي كانوا يخيفون بها الأطفال.. وذكريات أمه التي كانت ترويها له عن الانجليز والثورة.. فإلى روايته:

عمتي “آمنة” كانت مربيتي، وربما انشغل أبي وامي بشقيقي وشقيقتي الكبيرين، فتبنتني، ولم تكن تتركني، بل تحرص عليَّ أكثر من أمي نفسها، ولم تكن تسمح لي بالخروج من الحوش، إلا معها، اصطحبتني يوماً إلى منطقة “مجد الباع” تلك الكهوف القديمة، الموجودة تحت الأرض، شمال البلدة، والَّتي كان لنا فيها بعض الأغنام مع أحد الرعاة، وفي الطريق داهمنا المطر، مطرُ غزيرٌ، مطر متواصل، لا ينقطع، كأنه عاصفة غاضبة. خافت عمتي عليَّ، فضمتني لها وحاولت أن تغطيني بملابسها، ولجأت بي إلى جانب أحد الحيطان، ولكن المطر لم ينقطع، ظلَّ ينهمر علينا انهماراً شديداً، كأنه شخص حاقد يتعمد أن يثأر منا، وبدأت أرتعد بعد أن نفذ الماء إلى داخل ملابسي، فحملتني المسكينة، وقفلت راجعة إلى الدار، وهناك بقيتُ أرجف ثلاثة أيام وهي تدفئني، وتحدب عليَّ حتّى شفيت من البرد.

عمتي آمنة

ظلت عمتي هي الأقرب لي، فهي تلبي طلباتي، وتحملني على كتفها حين أتعب، ولا تسمح لي بالذهاب للعب مع الأولاد، حتّى كبرتُ قليلاً، وبت لا أطيق المكوث في البيت، فصرت ألعب مع أولاد الحارة، ومع ذلك لم تكن عمتي تقبل أن أبتعد عن محيط الحوش، وتظل عينها علي.

وفي إحدى الليالي، وكان هناك عرس لابن واحد من جيراننا، من أقارب والدتي، سمعت الأولاد يتراكضون نحو منزل العريس، وهم يهتفون ويصرخون بألفاظ نابية، ويتضاحكون، وتأكدت أن عمتي نائمة، فتسللت، حتى انضممت لهم، واستهوتني اللعبة، وصرت أركض مع الأولاد باتجاه بيت العريس، وحينما يخرج لنا بعض أقاربه نهرب باتجاه المقبرة، ثم نعاود الكرة.

كانت الدنيا ظلاماً دامساً، لكننا كنا شياطين حقيقيين، وكان عددنا ليس قليلاً، ونهتف بكلمات جارحة تجاه العريس، المسكين، ونشير عليه بما يجب أن يفعل في ليلة الدخلة هذه، حتّى تكاثر علينا جماعة من أقارب العريس، فتفرقنا هرباً، واختفينا بين القبور.

كان حوش دارنا يشرف على ساحة اللعب واللهو، ويطل على دار أبي عقيل حيث العرس، وعلى المقبرة الَّتي نختبئ فيها. وما إن انتهت اللعبة، وخفنا أن يقبض علينا أقارب العريس، حتّى تفرق شملنا، وعدتُ أدراجي متسللاً، وبدأتُ أحسب حساباً لأبي، وأقول لنفسي: سأحاول الدخول من الباب الخارجي، وعلي أن أسير ببطء كي لا يسمع أحد وقع خطواتي، لكني بدأت أحسب أن أجد أبي ينتظرني وراء باب العقد، لكني طمأنت نفسي وأنا أفكر: لن يراني، سأدخل خفية، وما دامت عمتي لم تفطن لغيابي، فربما يكون أبي نائما،ً فقد تأخر الوقت، خطوات قليلة، وأندس في فراشي، وأنجو من العقاب.

نتيجة بحث الصور عن أشباح

  شبح أم الدناديش

كانت بوابة الحوش مفتوحة، وعلى يمين البوابة ينتصب ذاك الحجر الضخم، وما أن عبرت البوابة، أتلمس طريقي وسط العتمة، حتّى سمعت صرخة مدوية من وراء الحجر، ومن شدة الخوف، بالكاد لمحت شبحاً أبيض، فانخلع قلبي من الرعب، ووجدتني أقفز المسافة ما بين البوابة وباب العقد بلمحة بصر، وخبطت باب العقد المغلق بكل قوة، وصحت على عمتي بصوت مرتفع.

وما أن فتح الباب، حتى عرفت أن الشبح لم يكن سوى أبي، بينما أمي وعمتي اللتان أفاقتا من النوم مذعورتين على صراخي، بدأتا تلومانه على تخويفي، ويبدو أنه اكتفى بذلك عقاباً لي، على تلك الليلة المرحة الَّتي انتهت نهاية مرعبة.

ذكَّرتني تلك الصرخة والمنظر الأبيض المرعب بشبح “أم الدناديش” الَّتي كان الأولاد يخافونها، ويحذرون من الاقتراب من بيتها المخيف، قرب المزبلة المطلة على سيل البلدة. لكني تحديت الأولاد وتجرأت مرة، وتقدمت منها، وأنا أشتمها، وبدأ الأولاد يقتربون معي منها، وكلما اقتربت صار بعضهم يهرب، حتى وجدت نفسي وحيداً، وسط ظلام دامس، فتحديت نفسي، وواصلت التهديد والشتم.

ويبدو أنها لم تتحمل، فرفعت رأسها، ورأيتها من فوق الحيط؛ رأيت امرأة حقيقية، تلبس “العراقية” التقليدية، وتلبس محنكة الذهب، وتجدل جدائلها بيديها، وكأن نوراً شع على وجهها، وقطعها الذهبية، وسط هذا الظلام حالك السواد، لم تقل لي شيئاً ولم تنتبه لي، لكن قلبي سقط من الرعب، وهربت بسرعة، وبالكاد حملتني رجلاي.

ولما أخبرت عمتي بالقصة، ظلت تقرأ على رأسي طوال الليل، وقامت أمي أيضاً، وصارت تتمتم بأدعية، وهي تقول لعمتي: “يقلع عينه هالولد، شو وداه على أم الدناديش، ما هي بتوكل الزلام، فقالت لها عمتي: أنا عارفة كيف طلع يا مليحة، أنا عيني طول النهار عليه، يالله غلط وراح، إصحِي تحكي لمحمد”، فقامت أمي، وجاءت بوعاء معدني أصفر، وملأته بالماء، ووضعته خارح الباب، ثم قالت هذه طاسة الرعبة ستشربها صباحاً، ولن يمسَّك أذى.

وفي صبيحة اليوم التالي تجرعت الماء من نفس الطاسة، وأنا أطرد شبح أم الدناديش، وخوفي منها، ولكني لم أطرد ذاك الشبح الأبيض الَّذي عرفت أنه أبي، حيث كان يلبس سرواله الأبيض الفضفاض، وقميصه الأبيض، ولم يخطر على بالي للحظة، أنه هو، إذ تعوَّدت أن أراه، وهو يلبس القمباز والحطَّة والعقال.

نتيجة بحث الصور عن الثورة الفلسطينية الإنجليز

حكايات أمه عن الانجليز والثورة

بين قوة أبي وصرامته، وحرص عمتي وجديتها، وقصصها الشعبية المعروفة والمتداولة، والتي تقصُّها علينا كلَّ ليلة قبل النوم، كانت أمي هي ملاذي المختلف في الحكايات، حيث كانت تروي لي قصصاً حقيقية، ولديها أسلوب مختلف في السرد، كأنها تعرف ما الذي أريده، وما الذي يشدّني، كانت تسيّس الحكايات، تدسُّ في ثناياها شارةً موحية؛ بَقْرُ بطن امرأةٍ حامل في دير ياسين، هدم مسجد في بئر السبع، أو صفد، خطف ولد صغير تائهٍ في الرملة، حرق بيارة برتقال في يافا، إعدام شاب خليلي في سجن عكا، حكاية من أيام الأتراك، حدوثة من سنوات الثورة، قصة من أيام الاستعمار الانجليزي، والانتداب على فلسطين.

(… الله يرحم سيدك سلامة، ذات ليلة، جاء الثوار عندنا، ذبح لهم رحمة سيدك، نعجتين كبيرتين، وطبخنا لهم بسرعة، ثم أطعمناهم، ووضعنا لهم المزيد من الطعام ليحملوه معهم، وطلب سيدك أن ندفن بقايا الذبائح والطعام في باطن الأرض، وعلى عجل، كي لا يبقى ما يدل على آثار الوليمة، ولما جاء جيش الانجليز، بعد يومين يبحثون عنهم، حيث وضعوا مكافأة لمن يقبض على أي واحد من الثوار، أنكر سيدك زيارتهم، ولم يعترف أنه رآهم أو سمع شيئاً عنهم، لكن خالك (علي) الله يسامحه، والذي أخفينا عنه زيارتهم، كما طلب سيدك، أصرَّ أن يحصل على المكافأة، فأخذ يبحث عنهم، ويقصُّ آثارهم حتى وصل الى المنطقة التي يتجمعون فيها، كان ثوبه الأبيض يرفرف بين سيقانه، يشف عن خصيتيه الكبيرتين وهما تركضان أمامه، يتوعد أن يمسك بساكت العبد، وعيسى البطاط، (وهما من رجالات الثورة؛ الأول من “السموع”، والثاني من قرية “الظاهرية” المجاورة لبلدتنا)، ولما كاد يلحق بهم، قال له البطّاط: ارجع يا علي، ارجع يا زلمة، والله لولا أبوك، لأطخك بالطبنجة).

سألتها حانقاً على خالي: وهل أمسكهم يا أمي؟ فضحكت وهي تقول: إذا كل جيش الانجليز يمه ما قدروا عليهم، بدك خالك (علي) الله يسامحه يمسكهم، كانوا مسلحين وهو لم يكن يحمل غير دشداشته بين يديه، وقال له ساكت العبد: (إرجع يا علي إرجع، والله لولا لحم أبيك في بطني لأقتلك)، وعرف خالك أننا ذبحنا لهم وأطعمناهم، فعاد يهدد ويتوعد، فقال له رحمة سيدك: اسكت، يا مهبول، هل تريد أن تجلب لنا الداهية، استح على دمك، أكيد أن ساكت العبد، كان يقصد أيام زمان، قبل الثورة.

كان مسؤول المنطقة الانجليزي، ضابطاً لعيناً اسمه “مِهن”، وكان ظالماً جباراً، حتى أنه دفع بأحد رجال الثورة من على سطح علية “العنيد” الشاهقة العلو، وجروا سيدك سلامة إلى العلية ليعترف، وأوقفوه عارياً طيلة الليل في عز البرد.

-وهل اعترف لهم؟

*سيدك يعترف! أعوذ بالله، كان الموت عليه أسهل).

احكي لي يا أمي احكي، احكي لي عن الانجليز والثورة والثوار، أحب حكاياتهم، أحبُّ حكاياتِك؛ زهقتُ حديدون، ودلَّى (عضو…)ه في الطابون، كرهتُ قصصَ الشاطر حسن والتُبَّع حسان والصفيرة عزيزة، ولم تعد تعجبني خراريف الكلاب والجمال والذئاب والضباع.

الثوار .. وأبيات الشعر الشعبي 

وظلت تروي لي المزيد من حكايات الثوار، وأنا أطلب الاستزادة، وتعبر عن إعجابها بهم، وكأنهم أبطال ملاحم، أقوياء يحملون بنادق ضخمة، يتخفون عن الأعين، ملثمين يطاردون جيش الانجليزي ويرعبونه، وتجترح حكايات متواصلة عنهم. وكنت كلما أطلب منها المزيد، تعاود سرد نفس القصص، ولكن بطرق ثانية، وبلغة مختلفة، وصوت مختلف، وتبدع في رويها مجدداً، وتحاول في كل مرة أن تضيف لها بعض الكلمات أو الفقرات الجديدة، أو أبياتاً من الشعر الشعبي، وتنظم أحياناً بعض الأبيات الفولكلورية، أو الحكم والأمثال الملائمة، وتستبدل مرات بعض المواويل والأغاني الشعبية، تضع كلمة مكان أخرى، في نهاية الموال، أو بيت العتابا، أو حتى الحكمة، والمثل الشعبي، ومن هنا انتبهت أن كلام عمتي وحكاياتها، لا يتبدل، تقولها بنفس الطريقة، وبنفس النبرة، ونفس الوقفات، وحتى الأخطاء، وأماكن التوقف والتثاؤب، في كل مرة، لكن حكايات أمي، وكلماتها تتجدد، ويمكن استبدالها، وتغييرها، وإضافة المزيد لها، أو اختصارها بلغة مكثفة، إن كانت مشغولة، أو متعبة، والإسهاب في سردها إن كانت مرتاحة. ومنها عرفت، وأدركت، أن الكلام غير مقدس، وأن اللعب بالكلمات ممكن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى