ثقافة وفنون

تعدد الشكل الفني في مجموعة أحمد مصطفي علي “عربي وسيارة وبينهما شط الماء المسحور”

كتب.. فراج فتح الله

قدمت الحركة النقدية مع قصيدة النثر نموذجا نقديا أقرب إلي المثالية والاكتمال، ويتواكب مع التغيرات والتطورات التي حدثت لها، علي العكس من الحركة النقدية التي واكبت القصة القصيرة جدا، حيث ظلت قاصرة وبها خلل كبير، ومازالت تتعامل مع النصوص القصيرة جدا، مثلما تتعامل مع الرواية والقصة القصيرة، هذه حقيقة لابد من الاعتراف بها، والتعامل معها، ومن ثم احترامها وتقديرها في بادي الأمر.

في تطور الحركة النقدية كان مفهوم النقد أولا يعتمد علي القيمة، حيث يصبغ الأعمال الأدبية بأحكام قيمية يخلص لها “هذا جيد وهذا رديء فقط لا غير”، وفي مراحل تالية اتخذ النقاد دور المفسر للعمل، يقف في مساحة وسط بين النص وكاتب العمل من جهة، والمتلقي من الجهة المقابلة، يأخذ بيده وعقله ليتلمسا معا مواطن الجمال والضعف، وفي مرحلة تالية أكثر تطورا، والتي أميل إليها وهي النقد الموضوعي، حيث يقوم الناقد بتحليل العمل، وتفكيك النص دون اصدار أحكام، ليترك للمتلقي كامل الحرية.

عند تناول مجموعة الكاتب أحمد مصطفي علي، سوف نعتمد علي هذا المنهج الموضوعي، وسوف نتعامل مع المجموعة كوحدة واحدة، وأحيانا كوحدات بنائية صغيرة تكمل بعضها بعضا، لبناء العمل الادبي، وسنقسم تحليلنا لهذه المجموعة إلي قسمين:

الأول: كيفية تعامل الكاتب مع الشكل القصصي المستحدث.

الثاني: تحليل بعض المفاهيم والمضامين الأساسية، والتي بنى عليها الكاتب رؤيته للنصوص.

اتبع القاص ثلاثة أشكال للكتابة طوال هذه المجموعة الممتدة علي مدار ستة وثمانين قصة قصيرة جدا، والتي لا تتجاوز القصة الواحدة بضعة أسطر.

تمثل الأول في الشكل الشعري الذي اعتمد فيه القاص علي المقاربة إلي القصيدة، من حيث الجملة الشعرية وما بها من خيال، حاول من خلاله المزج بين الشكل القصصي، وشكل القصيدة ليخرج بشكل جديد من الكتابة، لا هو قصيدة نثر، ولا هو قصة قصيرة بالمعني المفهوم، يميل فيها للتكثيف الشديد، والاختصار الذي قد يكون مبالغا فيه، فتأتي النصوص إجمالا أقرب إلي اللوحة الفنية، بها الكثير من الجماليات والتجريد، تشعر بجماله لكنك لا تعرف مصدره، فقصة “إهمال” مثلا صـ 77، هي أقرب للوحة بها قدر كبير من التجريد، قد نفهمها، وقد نكتفي بجماليات التكوين الفني، عندما يصدمنا بالنهاية، نعود لنقرأ النص مرة أخري لعله يبوح لنا بمحتواه، بلا جدوي فنعيد القراءة مرة ثانية وثالثة، لنتعرف علي مساحة البوح والجمال، قد نجد وقد نكتفي بالتذوق الجمالي.

الشكل الثاني هو الذي اعتمد فيه الكاتب علي شكل المفارقة حيث يقسم قصته، علي صغرها، لنصفين متقابلين مع بعضهما، شطر أول يكون فيه الكثير من التفاصيل، وشطر ثان كاشف ويحمل الفحوى المبتغاة من العمل، يضع في الشطر الأول من القصة كل القيم والمبادئ التي يراها من وجهة نظره مثالية، في مقابل الشطر الثاني يضع فيه الواقع الفعلي بكل الشرور والقيم الوضيعة، من وجهة نظره أيضا، والتي علي الرغم من ذلك ينتصر لها في النهاية، فيضع الخير في مقابل الشر، الضعف في مقابل القوة، الواضح في مقابل المجهول، البندقية مقابل الحاسوب، التعاسة مقابل السعادة، الغروب مقابل شروق الشمس وهكذا، والشطر الأول والشطر الثاني بينهما كلمة واحدة تتكرر بنفس الصيغة تقريبا طوال نصوص المجموعة، مثل “إلا أن، فجأة” والتي تتكرر كثيرا، أو “للمفاجأة، فصار، لكن للأسف، ربما، علمنا فيما بعد، لكن، فتذكرت، لهذا، بينما، وحينها، ولذا” … الخ.

دون أن يتخلى كاملا عن تكوين جملته الأقرب للشعر، أو الأقرب للقصيدة الشعرية منها للقصة القصيرة، وحتي نفهم أكثر نأخذ نموذجا لهذه الكتابة في قصة “القدر” صـ 29، ففي الشطر الأول وضع الجانب المنير والقيم النبيلة، كما نراها الحديقة والحيوانات والنبات إلى أن وصل إلى الكلمة الفاصلة “إلا أن”، ثم في الشطر الثاني يضع القيم المقابلة متمثلة في القحط، ويختم القصة بما يتبقى من الذكريات الأليمة، ويكرر هذا النموذج في أكثر من عمل علي مدار المجموعة بما يشكل ثلثها تقريبا.

وهنا لنا وقفة، ولي رأي شخصي في هذا الجزء، في أن القصة لها من الجماليات والاكتمال، ما لا يجعلها تحاول التحرش بالقصيدة، وقصيدة النثر تحديدا، فالقصة القصيرة عموما بمفردها تستطيع ان تبهر وتمتع وتصل بمضمونها للمتلقي، دون احتياج للشكل الشعري، فالأولى أن يكتب القاص القصيدة أو حتي قصيدة النثر، بدلا من هذا الشكل الهجين.

أما الشكل الثالث فتمثل في اتخاذ شكل القصة القصيرة، بمفهومها المعتاد من شخصيات، حدث، وحدة الزمان والمكان، المقدمة والوسط والنهاية الكاشفة، مع الكثير من زوايا الرؤية المختلفة، ونأخذ لذلك مثلا قصة “الوحدة” صـ 39، فنجد شخصيات أم، ابنة، حيوان، مع وجود مقدمة ووسط ونهاية، ووجود للحدث، مع وحدة الزمان والمكان، وفعل الافتراس، مع وجود التكثيف الفني غير المخل، والاختصارات الداعمة للعمل.

ملاحظات عامة حول المجموعة

1 ــ يبدأ الكاتب المجموعة بإهداء للهامش، وينتهي في القصة الستة وثمانين والأخيرة بقصة “المهمشون”، بما يكشف اهتمام الكاتب بانحيازه الكامل لكل ما هو هامشي، ويضيف أيضا ديمومة للمجموعة، واستمرارية لعناصرها ومحتواها .

2 ــ تلعب الأم الدور الكبير خلال المجموعة، بكل ما تحمله كلمة “أم” من معاني للرحمة والمودة والاحترام والاجلال، والمعني العام، الأرض والوطن..

3 ــ يضع الكاتب في نهاية بعض النصوص نقاطا، مثل قصة “شجاعة” صـ 36، ليكمل المتلقي الرؤية، أو لنقل مشاركة المتلقي في كتابة العمل الأدبي، حتي لا يتهم الكاتب بأنه يصرخ أو ذو صوت مرتفع.

وهو أيضا يميل إلى الحذف والاختزال، وأحيانا “يزودها شوية” ليترك أمام المتلقي مساحة أكبر للخيال والتحليق.

4 ــ يضيف صفات شخصية للزهرة والفأر والشجرة… وغيرهم، ويستنطق بعضهم مما يعطي ثراء ويضيف ادهاشا للقصة.

5 ــ هناك بعض الشخصيات المتكررة طوال المجموعة مثل الأم، الجدة، حاكم، الخليفة، الرئيس، الكبير، القاضي والذي غالبا لا يحكم بالعدل ويميل ميزان العدالة، علي طول النصوص.

6 ــ وأيضا دائما ما يضع الألوان الساخنة أمام الألوان الباردة، فيضع الأزرق والأبيض ولون الغروب مقابل الأحمر القاني في ميل الإنسان الطبيعي للخير عن الشر.

الكاتب أحمد مصطفي غلي ابن المدينة والشوارع والمباني الإسمنتية، يبحث طوال نصوص العمل عن الكمال، ويصبو للوصول إلي الجنة، من خلال مجموعة من الأمنيات والآمال والأحلام، والتي تتكسر علي أبواب الحاكم والكبير والزعيم وواقع الحياة، وميزان العدالة المائل، فلا يبني شيئا، ويخرج خالي الوفاض تماما، إنها مجموعة قصصية غنية، تحمل الكثير من الرؤى والأحلام، ولا تكفي قراءة واحدة لها للولوج لكل مفاهيمها العديدة طوال الستة وثمانين نصا، فهي تترك للمتلقي مساحة أكبر للتأمل والتعرف والمعرفة، أو ما يسمي الاستمتاع بمجموعة أحمد مصطفي علي “عربي وسيارة وبينهما شط الماء المسحور”

.

أحمد مصطفي علي

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى