ثقافة وفنون

حسين عبدالرحيم .. يروي حكايات السمسمية

يتذكر الكاتب والروائي حسين عبدالرحيم أيام عايشها في بورسعيد، مقدما سردا روائيا لسيرته الأولى عبر مشاهد مختلفة يقدمها عبر نافذة الديوان.. فإلى حكايته المشربة بروح السمسمية وموسيقاها شديدة الخصوصية:

الدنيا هاتولع نار
شنجليبو.، عنجليبو..شكا بومبو.

خمسة وثلاثون عاما مروا على اللقاء الفاصل..اغتيال السادات. وحفل زفاف شقيقي الأكبر علي.. ولقائي الأول وعن قرب بالأسطورة – في فن السمسمية حسن العشري.!!

وجاء ( مبارك) – للحكم. ومن بعده اللواء عمر سليمان فالمجلس العسكري فالمجلس العسكري..؟!! وينجح مرسي في التصدر للمشهد الرئاسي المفزع علي قمة السلطة في مصر.
تأتي الموجة الثانية من الثورة، يونيو واليوم الثلاثون. ورفع العلم المصري فوق سارية من خشب على كافتيريا شقيقي الأكبر. مع رفض بالصمت لتلك التحولات الجذرية في مسار سكة مصر السياسية وماهية ومضمون السلطة وفحوى وغرض من يحكم. وخبر مفجع أصابني بالحزن مع السماع المباغت لموت الملك..حسن العشري.

وعا السمسمية اسمع ياسيدي.
كلام مربع – للبورسعيدية ياختي ياسلام.

قلت لشقيقي: العشري مات.

– عم حسن

– فاكره؟!

يقول علي وبجانبه ولده الأكبر محمد أو حمادة. الله يرحمه – تلاتين سنة وخمسة مروا على زواجي. نوبدا يهز العلم. وأنا في حيرة من أمري كاظم الغيظ مع تكاثر الجدل حول تركيبة الشقيق الانتهازي؟!!

أيوة ياسيدي أنا بحب الجيش وعايز السيسي. ولازم تكون ابن المرحلة. وأنا أجتر سيرة من رحلوا.

وعاش اللي قال… لازم نرجع أرضنا من كل غاصب
عاش العرب
اللي في ليلة أصبحوا ملايين تحارب..

السادات مر هنا

وبدت فرق من الدراويش والمهربين والمتسكعين يدنون من عتبات محل أخي ..”الصفا والمروة” المتصدر لموقف السوبر جيت. قبل عربات البيجو المنطلقة إلى القاهرة من الأرض التي كانت باسلة. هجموا على الكافتيريا يهنئون الحاج علي – يمشي شقيقي.. -الذي ارتسمت علامات الفرح على وجهه- وأنا في صمتي التام.
أعيد همسا وحرجا. صورة السادات وفترة حكمه وتعاطفه مع أهل مدينتي بورسعيد. وزيارته الأخيرة مع الشاه الإيراني ومرورهما بممر قناة السويس سويا لإعادة الملاحة ولافتتاح قناة السويس من جديد.
وطلة عن قرب. وأنا صبي غرور منتش بتلك المراكب في القناة. العام 1975..

وعا المينا
واربط يا وابور جف يللي عليك الدور..

ويغني العشري بجانبي وأنا الواقف على أعلى قمة فوق سطح قسم شرطة ميناء بورسعيد ألوح للموكب، أراقب بطللا يمتزج بالنشوة والأسى والفرح لملامح السادات. لأرى التطابق بين سمار بين وملامح فرعونية دقيقة تجمع الهيئة والملامح ويكاد يكون (الجين – أيضا. مع نبت فرعوني يخص عائلتي فردا فردا، وتحديدا أبي ووشقيقي الأكبر.

كان والدي يومها ما زال في الطريق المهشم الرابط بين بورسعيد والمنصورة ..يلملم بقايا عفشنا وملابس، أمي وأشقائي متروسون في عربة بدفورد نقل تتبع سعد محمد سعد تاجر الموبيليا الدمياطي.
بعدما خطب السادات وليعودوا أهل القناة المهجرين لديارهم. على وقع السمسمية.  تاهت الرؤية وما أشد التحول والتناقض.وتلك الأيام نداولها بين الناس..

محطات فارقة…

نتيجة بحث الصور عن الروائي حسين عبدالرحيم

وعدت لصمتي ودهشتي وملامح الخرس أبحث في ماضيي العتييق الموغل في الأسى والفرح والدهشة وبكارة طفل يحبو نحو الشمس. يعشق المغيب، ليفر صوب تلك الجمرات الملتهبة عند الغروب في بحر بلادي البعيدة الغائرة.

أبي يخطب ود المعلم العربي الضاحي سلطان رشوان. يحدثه عن زفاف ولده علي. المعلم المتسيط سيزوج الابن على، ماشاء الله بنت أول العرب. الليلة ليلة جمعة والفرح بعد خمسة أيام.
ويذهب حسن عبد الرحيم والمعلم عربي الضاحي والعمدة محمد أبو علي ولد محمد علي وبهمزة وصل فنية يستدعي، مصطفى عبد اللطيف، الراقص في فرقة العشري.
أنظره وهو يضحك بفرح فى وجه أبي مرددا تؤمرني ياعم حسن. كده اتفقنا خلاص .. وأنا معاك من الثلاثاء. خلص مشوارك انت والمعلم عربي. واعطيله عربونا.. مكتبهم في – الأمين. والمشير أحمد إسماعيل علي.. جنب عمارة العزب بخمسة دقائق. ونذهب إلى حسن العشري ليرحب. ويقول عارف علي جمييل. نوارة أول العرب – عا البركة يامعلم حسن.شرفنا الكبير – المعلم ضاحي عين أعيان الخوارف.

مساءً قدم مصطفي عبد اللطيف. وعاه عصاه الخيزران. حضر بزفة. ليلهب خيال أبيه الحاج عبد اللطيف اللأبد بمقهى التعلب. وتور الليال. فألمحه قادما من أول طولون.العشري. يلف العصا الأبنوس معلنا بدء التحضير للفرح.
– على باشا عبد الرحيم عايزنا نسخن. من النهاردة وإحنا تحت الأمر.
قبل مقهى التعلب لفت العصي. من الخيزران. وطللت لمصطفي عبد اللطيف الذي ربت على كتفي بنشوة فرح حقيقي. قائلا قرب أذني.
– عارف حسن العشري؟
– بحبه يا عم مصطفي.
– وعارف اني بارقص معاه.. مبروك لعلي يا سحس..

 

إطلالة حسن العشري
ضحكت وتجلت حواسي بزئططه الطائر في السماء. وهل هلالة. المعلم رجب الأعسر. إبراهيم الطبال. حمودة.. فرقة مكونة من خمسة عشر رجلا. يقتحمهم الدرش بالملاعق المعكوسة ويبدأ في ضربهما على فخذيه لتدوي الصلصلة بتناغم رائق حالم ومدندش في آن .. تلتف (الضمة) ..أمام بوتيك السلام الذي يملكه المعلم حسن عبد الرحيم وشركاه من أعمامي الذين لايحضرون إلا في المناسبات والاطمئنان على الإيراد الشهري المتفق عليه بين الوالد والعم حسين.. وتور الليلة. ويقتحم الزحام عم حسن العشري. واسمع من يردد بجانبي:
راجل داهية.شايف العصايا في إيده.. ليلتكم ورد.. وحشيشكم بلدي ولا مغربي.. يردد على مسمع ومرآى الجميع عم محمد بخيت المخبر بقسم أول – العرب..
أبي يبحث مع أمي عن عباءته القديمة وجدي يلزم الصمت كعادته. وهو المضطلع بشفافية وروية على كل التفاصيل في هدوء وروية. الليل يزحف وها هي الفرقة لها من الساعات ست وهم يلتفون حول بعضهم البعض. حول ركيات النار في طولون. تضرب الجلابيب في لحظة لتسقط فوق الأجساد النحيلة العظمية القوية البازغ سمارها تزيين سكك وحارات العرب. قبل سكة العدل. صدح العشري بأول أغانيه. فكانت دهشتي وقت السماع بإنصات.

ضرب العصا الخيزران في الهواء. وقد ارتدي البلمة الأمريكاني. وقد خرج المنديل الحرير من جيب بنطلونه الخلفي في روية مزدانا بسلسلة من ذهب. معلق بها مفاتيح للصبر والنيل والقناة ورثها أبوه من مهندسي ( الكوبانية زمان). مشدوها أنا بتلك الملامح. والوجه المستدير الذائب في الحمار الأوروبي النادر والمفرط في آن. دارت الجوزة واللايات في الأفواة النهمة التي تجلس القرفصاء حول الشيخ والمريد والمنشد.

بورسعيد كلها في الفرح. المدينة تبزغ في فرادة تجليات المنطقة الحرة وتعويض أهل المدينة عما لاقوة في حروب ثلاث.. يقول أبي – (المستبقي..شد حيلك يافقري)..علشان أجيب لك العشري يزفك. أضحك وعيني دامعة يهاجمها الرمد. الدنيا ربيع. ونسمات عليلة طازجة تدور وتحط على رؤو س المساطيل والمخموريين في الفرح في طولون. وأنا أغيب ، أسمع صوت البواخر في الميناء قريبة من أذني. زعيق سفن في البوغاز.. صوت مراكب جاية من بعيد أمي تبكي. ألمحها وهي تنظرني في حسرة. وشقيقتي الكبرى تخطب ودها بالقول

– ( روقي ياامه علي مش هاياخد إلا ماشاء الله بنت عم حسن المطري.. ريحي نفسك. الليل يطول. وحسن العشري يتجلي وانا أجتر وتزييد التوهة. وينطلق العشري في أول أغانيه

الدنيا هاتولع نار.وبخيته زي المنشار
. عمال ألف ليل ونهار مش لاقي حق الدخان
والله الدنيا

وترد الصحبجية :

هاتولع نار

شنجليبه

شك بومبو

عنجليبه

ومحمد بخيت يضحك وقتما تلاقت عيونه بوهج طلل العشري وتزيد الأنفاس. والأكو يركض بصينية خلول علي عجل  ومعها حلة كبيرة ممتلئة بالبكلويز وأنا أسأل شقيقي الذي يكبرني. أبوك قايم يرقص فيرد:

– أبوك قرفان من حماة أخوك. ويارب الليلة تعدي على خير. الشارع ممتلىء عن بكرة أبيه والليلة الكبيرة باق عليها ثلاثة أيام.

يتجلي العشري من جديد

يا رايحين عند النبي

قلبي معاكم راح

يا طالعين الجبل

ريحة الجبل تفاح

ويردوا حواليا في الراحة والجاية

واحنا على على أبوابه

ياليل ياعين يا عين ياليل. تات تات. وتدور المعازيم والصبجية في أفلاك من مرح ونور

ترنن ترنن تن.

 

ومصطفى عبد اللطيف بايماءة يلاغي الريس ضاحي. ويتفق الجميع بالأعين على الدفع بالريس عنتر البمبوطي ليشارك عبد اللطيف الرقص بالعصا. الدرش يضرب بالملاعق على فخذيه. الأيمن فالأيسر. فالاكتاف والصدر ويضوي السلفر زائبا بل متوهجا في ضو ونثار النجوم البازغة من السماء عن قرب. من تراسينة العم رمزي رسلة والمعلم شفيق جاب الله الحاضر للتو من مسكننا الجديد بشارع مظلوم كنت قد نعست. أقاوم النور وسط هالات كثيفة من الدخان الأزرق. وتلك الفقاقيع المخبوءة والتي تنطلق فجأة من فوهات زجاجات البيرة الخضراء. يلفني شريط ذكرياتي ومحطات عمري ما بين الماضى السحيق والحاضر المتأرجح مابين نشوة وفرح وإنكسار.

أبي يبكي وقت ضحكه فينتابني ألم على ألمي. وتنظرني الصديقة بنت عبد الواحد. والدتي. وتجري ناحيتي فاطمة. في أول العرب سألت عن قريب يأخذ بيدى لأعلى بيت العم رمزي رسله. الذي لاح لي بوجهه البيضاوي. من الشباك الأرابيسك الصغير ينظر الضمة في صمت محدقا لجدي محمد عبد الرحيم ينادي على (قدري شقيقي..): ياواد هات أخوك.. عنيه والدخان. المعلم رجب النص بدأ في دب الأرض بفتوة ومقدرة على التلوى. انثنى وانفرد صدره وبات يتلوى بعصا الخيزران.ينظر السماء الواطئة في رهف. يدور بوسطيه وخصره وأسفل بطنه ترتكن العصا على سرته وقت أن تخلص من قميصه الونجز وصار ببنطاله الجينز وحذائه الكرب الهافان. يدفع بركيه النار بعيدا من نعليه قرب الحصي المسفلت لسكة طولون والعدل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى