ثقافة وفنون

خصوصيات حركة التجريد العربية المعاصرة وريادتها التجريبية .. دلالاتها المطلقة والتعبيرية ومقارباتها الهندسية

إن التجريد هو مرحلة لها تاريخها العميق من خلال التجريب والتفعيل والانسياب والتكامل الفهمي لفكرة التعبير، لذلك اندمج بشكل مرن مع الكثير من التقاربات التشكيلية وحقّق عبورا راسخا من مراحل الحداثة إلى ما بعدها فلم يكف عن الإبهار ولم يكتف بالبناء الأولي، وهو ما صاغ له عناصر الدهشة خصوصا وأن الكثير من الباحثين رشّحوا بداية التجريد مع الفنون الإسلامية في تعاملها مع الملامح مع الهندسة والأشكال والدلالة الرمزية لها ومدى توافقاتها المفهومية مع فكرة الصورة وأصلها وماورائياتها سواء في الحروفيات أو الزخرف أو في الاشتغال على الفضاء.

 

*عبد الرؤوف شمعون

 

لذلك تعدّ التجارب العربية مع التجريد تجارب مميّزة في تواصلها التعبيري من خلاله وفي عناصر مفاهيمها الأساسية في ذلك الاندماج المترابط مع كل تجديد بنيوي في تكاملات الألوان الأحادية والحواف الثابتة والصلبة والهندسة التجريدية والتعبيرية التجريدية والتجريد الرمزي وذلك بمفاهيم تكاملت معها العناصر الأساسية في الخطوط والألوان في الأشكال والعلامات في الدلالة والتشكيل.

 

*وجيه نحله

في التجريد العام أو المُطلق كانت التجربة العربية ملتزمة بعناصره الأسلوبية وتراكيبه اللونية والخطية واشتغالات المساحة وتوظيف الفراغ دلاليا، والذي كان عبارة عن خطوط ومساحات لونية وتشكيلات بنى بها الفنان لوحته انطلاقا من استيعابه الأولي لواقعية مشاهده ومن ثمة تجاوز المنظور الاعتيادي للصورة في الواقع، إذ أن الأسلوب ساعده ليرى ما انتابه حسيا وذهنيا وبصريا من الشكل ودفعه ليعبّر عن ما وراء الصورة بشكلها المجرّد استنادا لتلك العناصر وبالتالي لم يقدم الشكل بصورته المألوفة بل هدم الشكل ليبني المعنى ويترك للمتلقي حرية ابتكار بصريات جديدة تعيد صياغته بإعادة البناء التصورية لذلك الشكل وهو ما ظهر في التجارب الابتكارية لـ “فاطمة الحاج” و”سامية حلبي” و”طه الصبان”، وهو ما فعّل حداثيا الاختلاف وسمح بالتحرر من الشكل الاعتيادي بمنح حريّة الخيال البصري للصور التي عبّرت عن الذاكرة والأمكنة عن الأزمنة والمشاعر الإنسانية باختلاف تناقضاتها بين الوجود والمنشود.

 

*فاطمة الحاج

إن طبيعة التشكيلي العربي في الاندماج الكلي في موضوعه هي التي مكّنته من التوافق الكامل مع التجريد والتماهي معه في التجريب من خلال اقتحام عوالمه المندمجة والبحث في خفاياه التعبيرية التي تتجاوز استسخاف رؤيته أحيانا كمجرد خربشات بلا فائدة جمالية، فالمعنى الأصلي للتجريد هو دخول العلم والرياضيات حساب المساحة وتوقيع البعد والعمق والوهم والتسطيح في بناء العمل بتكامل إضافة إلى تطويع الشكل والكتل اللونية بصخب واسع الدلالات وبموسيقى مندمجة معها ومرتبة حسب إيقاعها فقد نجحت التجربة العربية في إعلاء اللامرئي في توقعات الصورة.

 

*فائق عويس

فالبنية التصويرية في الرؤية العربية كانت تحمل ابتكاراتها التي لم تجسّد التجريد كتقليد أسلوب غربي بل استوعبته بذاتها ومنطلقها الذهني لأن فلسفته هي امتداد الحضارة الإسلامية في موروثها التعبيري في الحروفيات والزخرف وحتى المنمنمات والعمارة والهندسة والألوان وبذلك فهو لم يتجاوز أصالة هويته وثقافته خاصة في تجريد الصور بأشكالها الهندسية وتوظيف الألوان حسب زخرفتها التي كان من خلالها الفنان يبحث عن ذاته العميقة لتفعيل حضوره التكويني في الكون بوصفه نقطة الخلق في الكون وفضاؤه يتحمّل هوامشه وتفاصيل ابتداعه.

 

*بلقيس فخرو

فبالتفاعل مع التجريد المطلق اعتمد على التجريد الغنائي من خلال التوافق العفوي في التعبير وما أثاره من تماس دلالي مع التصور الإسلامي أو الواقعي الذي حمل التجريد إلى العمارة والنحت كما في التجربة المعاصرة لبسام كيرلس سواء تجربة البناء والهدم في الشكل النحتي أو في الحفر والتشكيل في تجربة الأقنعة.

*محمد عزيزة

يربط التجريد بين تحليل الشكل والهندسة بخلق علاقات حسابية ومعادلات تتشابك مع المساحة لتكوّن الصورة والتصوّر الطبيعي الذي يستنطق اللامرئي في كثافته الشكلية والتنقيطية والهندسية المجسّدة في اللون مثل تجربة بلقيس فخرو أو الرمزية كما تجربة ثريا بقصمي وعبد الرؤوف شمعون، إضافة إلى التعامل مع الكثافات الملونة التي تبدو وكأنها كولاج تجريدي مثل تجربة محمد عبلة.

 

*عدنان المصري

وفي التصورات التعبيرية للتجريد كانت المحاكاة العربية للتجربة تحمل خصوصياتها النفسية والفلسفية والذاتية التي تقدّر التعبير عن انفعالاتها باستنطاق العبثية باللاشكل واللاموضوع في حسيات الحكمة المجرّدة التي تحاول الخروج من قوالبها لتركّز مبادئ عفوية وتلقائية تحرص على الاندماج مع الخصوصية البصرية للون وتشابكه مع الفكرة بعبثياتها وهو ما حوّل الركود الشكلي في التعبير إلى حريّة معبّرة للون باعتباره انفلت من جمود الأسلوب ليثبّت مواقفه المعاصرة مع الفن كما في تجربة عبد الرحيم سالم التي أسّست لنفسها صيغ التعبيرية بملامحها التجريدية دون الوقوف على حدود المساحة حتى تلك التي يملؤها اللون.

 

*فاروق لمبز

في تجربة الهندسة والتجريد حمل التشكيلي العربي خصوصية الحرف والموروث الإسلامي وهو ما أجاد من خلاله تثبيت مرونته التعبيرية في صياغة الشكل والعلامة والرمز والتوظيف الذي خلق ابتكارات متوازية بين الشكل واللغة والمعنى والحساب والحضور ما أثار في التفاعلات التعبيرية فضاء حيويا لحركة الحرف فيه ومجالا عميقا انطلق منه نحو العمق الجمالي للوحة الحروفية بدقة التجريب الهندسي للتجريد.

 

*قيصر مقداد

من خلال كل التمكينات الحسية والتصور التجريبي استطاع التشكيلي العربي أن يُكسب التجريد خصوصيته رغم أن النقاد كثيرا ما يرون في استسهال التجريد وغموضه هروبا من الواقع والتعبير المباشر عنه لعدة أسباب إلا أنه لا يمكن تجاوز فكرة أن التشكيلي العربي ومن خلال التنفيذ والعلامة والشكل واللون استطاع أن يطرح تجربته العميقة التي تمكنت من أن تُثير الأسئلة لدى المُتلقي لتطبع عنده الصور في مستواها الذهني وتدفعها نحو التشكل المُتجدد عبر عوالمه الزاخرة بالخصوصيات.

 

*طه الصبان

 

*الأعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى