ثقافة وفنون

رؤى التشكيل وانعكاسات المكان في تجربتي البحرينية بلقيس فخرو والكويتية ثريا البقصمي

كثيرا ما تؤثر البيئة والمكان والهوية والانتماء على الرؤى التشكيلية للفنان فيعبّر من خلالها عن ذاته الحالمة في عمق ذلك المكان يتصارع حواسها يتكاثف مع أفكارها ويتلون حسبها ليكتسب البصمة الخاصة به والتي تشير إليه كوطن من العلامات والتمثلات والحضور البصري، ولعل هذا ما ميّز التجربة الفنية التشكيلية الخليجية ببصريات تحيل على فضاءات تأثرت بكل معالم التغيّر في الحياة والتواصل والتأثر والاندماج والتحوّل بين الأصالة والحداثة والتغيرات والانفتاح على العالم والآخر، ليطال المكان وهو ما سنحاول ابرازه من خلال تجربتي التشكيليتين البحرينية بلقيس فخرو والكويتية ثريا البقصمي اللتان غرقتا في البيئة واندمجتا معها بروح أكسبت كل تجربة خصوصيتها وكل حضور علاماته التي أسست لفعل تشكيلي عالمي ومؤّثر في الأجيال كما أن تجربتيهما حملت شمولية في التعبير سواء في التجريب أو في التوثيق الحرفي النقدي والادبي والفكري، خاصة وأنهما تعدان رائدتان في التعبير الفني التشكيلي المبكر واتخاذ الفن مسارا وحقيقة.
كما كانت لهما تجربة إنسانية مشتركة من خلال المشاركات العالمية في مختلف الأنشطة الفنية ذات الطابع الإنساني نذكر من أبرزها سيمبوزيوم معتقل الخيام بلبنان وتقديم أعمال عبّرت عن الواقع بحلم وأمل.

عمل بلقيس فخرو المشارك في سيمبوزيوم الخيام
عمل بلقيس فخرو المشارك في سيمبوزيوم الخيام

تعتبر بلقيس فخرو رائدة في أسلوبها فهي تعتمد التجريد والانطباعية الحديثة، إذ تجيد بمبالغات حسية التعبير عن التعلق بالأرض كأساس موحّد لأفكارها التشكيلية في تعمق ذاتها في الوجود والتراث والإنسانية تعتمد الألوان الزيتية بطريقة تضمن بينها وبين حواسها التكامل المتجدد والنضج الذي به تواجه العام وتتماثل مع الخاص بتميّز بحثها الدائم في المكان عن كل عناصره الرمزية وتكاملاته الوجودية فاللوحة هي ثقوب الذاكرة تستوحي مشاهدها تتشابك مع ملامحها وتثير ببساطتها الاختلاف، إن الخامات والمؤثرات البصرية التي تعتمدها بلقيس فخرو لا تنعكس على اللوحة كمجرد تجريب مادي بل ملمس يساعد على التقاط الفكرة والحاسة وتجريدها ليتلاشى القالب الجاهز منها ويتفتت بتماه كامل مع المشاعر الذهنية لطبيعة المكان بموسيقى التناغم الحر في الفضاء المتوحد مع لونه في مساحته التي ترتاد كل زواياها بخضوع ينفلت نحو الذاكرة ويثير العواطف بجماليات متقنة الترتيب، وهو ما يجيز انتصار لون على آخر وكأن الفنانة تبحث عن خصوصية المكان في ذهنها بذاتية تشرق على انتمائها العام بفلسفة تعطي للمساحات دورها في التعبير.

 بلقيس فخرو
بلقيس فخرو

لقد طوّرت بلقيس فخرو أسلوبها بثقة في تطويع المكان على المستوى الفني والاندماج الداخلي في التشكيل الخاص باللون قادر على إكساب اللوحة بُعدها الثالث بعمق التبصر والتأمل في التموجات الرملية والثقوب والأبواب التي تعتمدها كمنافذ لأمكنة أخرى دقيقة في تجليات اللون والشكل وهندسة الخطوط سواء الظاهرة أو المتوارية مع الثقوب بين اتساع ضيّق وضيق فسيح حيرة تتحمل التجريب من التجريد إلى الانطباعية ومن وضوح الفكرة إلى غموضها الجمالي الدقيق فزخارفها ورموزها وعلاماتها مستوحاة من البيئة البحرينية بتجلياتها الخام في الهوية وآثارها علاماتها الرمزية وانطباعاتها المتوافقة مع اللون والمتصادمة مع الطبيعة بتآلف مبتكر بتفاعل وانعكاس الضوء والعتمة في علاقة الألوان بالتدرج هو أسلوب يستحث المشاهد للبحث عن التكامل مع الفضاءات، ولعل بلقيس فخرو رغم اختلاف أسلوبها وتجربتها تقترب في التباين الترتيبي للتجربة المتأثرة بمكانها وذاكرتها من الكويتية ثريا البقصمي.

ثريا البقصمي
ثريا البقصمي

الفنانة التي لم تترك أسلوبا أو توجها أو ابتكارا فنيا نقديا بصريا وأدبيا إلا وخاضت فيه بسخاء أنثوي العلامات وإنساني التوجه فكما فخرو رتبت الأرض الأنثى، عبّرت البقصمي عنها بتراتيل توحي بالتجلي الخام معها مع عالمها وألوانها تشابهات مألوفة مخزنة من الذاكرة مقتلعة من الأمكنة ومشكلة حسب الرؤية بوضوح تعبيري له عشق الاندماج في ثقافته والتطلع بتأمل إلى ثقافات العالم بحثا عن كل تميّز يثري صورها سواء في تجارب الآخرين أو في خيالها وانطلاقها المفعم بالحياة والانطلاق مستلهمة كل طاقتها للبحث عن الأسطورة وتصوير المخيال الشعبي والعلامات الرمزية التي تتكاثف بمشاهد مألوفة الصور استخدمت خامات متنوعة مثل الأكريليك، الألوان المائية والطباعة بمختلف أنواعها تسخّر البقصمي الحكايات الشعبية وتوظف الزخرف على فضاءاتها أما الملامح والشخوص فهي عناصر اكتمال البيئة التي تعبّر عنها وعن الانتماء للأرض بكل تفاصيل الداخلي المفصل في ترتيبه للصور تلك المألوفة والغرائبية من خلال استفزاز المتلقي بالبحث في قراءته البصرية وتساؤلاته عن اللوحة واستفساره عنها فهي تضع اللوحة وسيط تواصل بينها وبين ذهن المتلقي فمن العميق في التأمل المرئي أن يكون الفنان التشكيلي شاعرا وروائيا يقع على حكمة السرد بحبكة بصرية ما ورائية وتلك خصوصية النضج المتماهي مع الأمكنة والفضاءات التي اختزلتها بمهارة ابتكار في لوحاتها التي تحيل على خرافة وأسطورة غارقة في أرضها وتاريخها.

 

من أعمال ثريا البقصمي معتقل الخيام
من أعمال ثريا البقصمي معتقل الخيام

في تجربتها تحاول البقصمي أن تسلط الضوء على ملامح متنوعة وتعبّر عنها إنسانيا بشكل ملفت ومثير للحواس متبعة شغفها ومواقفها وحدسها في القبض على الرموز وتفتيت غموضها.
وهذا الغموض الجمالي تتوافق مع تجربة بلقيس فخرو فرغم اختلاف الأسلوب يتشابه البحث عن التميز عن البصمة عن الإرتواء من شغف الفن بالبحث وترويض اللون والشكل والمساحات والأساطير والأفكار والمفاهيم فتلك اللغة هي التي تترك أثرها جماليا.

*الاعمال المرفقة:
متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية
Farhat Art Museum Collections

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى