عالمنا الآن

قرية يضطر سكانها لاستئصال الزائدة الدودية

إذا زرت القارة القطبية الجنوبية “أنتارتيكا” ستجد هناك مستعمرة بشرية تضم مدرسة ومكتب بريد، وعددا من المنازل كذلك.

ولا تختلف هذه المستعمرة البشرية عن غيرها من الأماكن التي تصل فيها درجات الحرارة إلى ما تحت الصفر، باستثناء أن الأسر الراغبة في الإقامة في هذه المستعمرة تُلزم أولاً بالخضوع لجراحة من نوع ما.

مرحباً بكم إذن في “فياس لاس إيسترياس”، التي تُعرف بالإنجليزية باسم “بلدة النجوم”. وللتعرف على مشاعر المقيمين في هذا المكان، تخيل مثلاً أنه توجب عليك أنت وأسرتك استئصال الزائدة الدودية، قبل العودة للإقامة في موطنكم الأصلي.

هذا هو الخيار الوحيد لمن يرغبون في الإقامة لمدة طويلة في تلك المستعمرة، حتى الأطفال منهم، فهذه المنطقة تمثل إحدى البقاع القليلة في القارة القطبية الجنوبية التي تضم سكاناً يقيمون فيها لسنوات طويلة، لا لأسابيع أو لعدة أشهر.

ويشكل استئصال الزائدة الدودية إجراء احترازياً ضرورياً لهذا العدد القليل من الناس، ممن يقيمون لفترة طويلة في “فياس لاس إيسترياس”، نظراً إلى أن أقرب مستشفى كبير في هذه البقعة يقع على بعد أكثر من ألف كيلومتر (نحو 625 ميلاً)، على الجانب الآخر من الموجات الجليدية الموجودة في المحيط المتجمد الجنوبي.

تضم هذه المستعمرة البشرية مدرسة صغيرة للأطفال

ولا يوجد في ذلك المكان سوى عدد قليل من الأطباء المقيمين، وليس من بينهم أي جراح متخصص.

وتضم تلك المستعمرة البشرية نحو 100 شخصٍ، غالبيتهم علماء وأفرادٌ من السلاح الجوي التشيلي أو القوات البحرية لهذا البلد، ممن يقيمون هناك بالتناوب. ولكن من يُكلفون بمهامٍ أطول أمداً لحساب الجيش التشيلي، يُؤْثِرُون في غالبية الأحيان جلب أسرهم للإقامة معهم.

ويعني ذلك وجود مدرسة صغيرة ومكتب بريد ومصرف وغير ذلك من المرافق الأساسية. ولكن كيف تبدو الحياة بالنسبة للمقيمين في هذه المنطقة؟

للتعرف على إجابة هذا السؤال زار فريقٌ من “بي بي سي فيوتشر” تلك البقعة في وقت سابق من العام الجاري.

الوصول

لدى وصولك إلى المنطقة، ستجد لافتة ترحيب وعمودا يحمل أسهما تشير إلى مدن تقع على بعد كبير من “فياس لاس إيسترياس”، ما يُذكرك بمدى بعد الشُقَة بينك وبين الحضارة الإنسانية، عبر كلمات من قبيل “بكين: 17501 كم”.

ومن مكاننا على مقاعد كانت من قبل مخصصة لخدمات الإسعاف بداخل طائرة نقل عسكرية ضخمة من طراز “لوكهيد سي 130 هيركيوليز”، كان بوسعنا رؤية ما يبدو شريطاً أرضيا مكسواً بالحصى تهبط فيه الطائرات الواصلة إلى المنطقة، ويمثل الطريق الرئيسي للدخول إليها والخروج منها.

قبل ذلك، وخلال رحلتنا الجوية التي بدأت في أقصى جنوب تشيلي، لم يكن بمقدورنا أن نرى من خلال النوافذ الصغيرة المليئة بالخدوش للطائرة، سوى رقعة فسيحة من المحيط المظلم البارد تمتد على مسافة مئات الأميال، ويمكن أن يلقى المرء فيها حتفه في غضون دقائق معدودات.

الثلوج تغطي أرجاء المستعمرة البشرية في "فياس لاس إيسترياس"

 

وعندما زار فريق “بي بي سي فيوتشر” المنطقة في يناير/كانون الثاني الماضي، ضربت وجوهنا فور الخروج من باب الطائرة مباشرة حبات البَرَد التي يراها المرء خلال النهار في أيام الصيف بالقارة القطبية الجنوبية.

بالقرب منّا، رأينا مباني المرافق الأساسية الموجودة في “فياس لاس إيسترياس”، وهي تنتصب على صخرة ضخمة، وتمتد الأنابيب فيما بينها.

في بعض الأماكن، من الصعب ألا تصل إلى أنفك رائحة كريهة تمثل مزيجاً من روائح العادم وتلك الروائح الناجمة عن استخدام مراحيض تُجمع فيها الفضلات في خزانات، بدلاً من أن تمر من خلالها إلى فتحة في الأرض أو إلى شبكةٍ من شبكات الصرف الصحي.

لكن الأمر يختلف كثيراً بداخل الأبنية، التي تجد الأجواء فيها وقد سادها الدفء والحفاوة والترحيب.

فعلى الجدران، تتراص تذكاراتٌ وصورٌ لمن زاروا المكان سابقاً سواء كأشخاص أو كمشاركين في بعثات علمية، بل ستجد أيضاً لوحة تذكارية، تشير إلى زيارة قام بها عالم الفيزياء الشهير الراحل ستيفن هوكينغ.

ويبلغ متوسط درجة الحرارة خلال مختلف شهور العام في “فياس لاس إيسترياس” 2.3 درجة مئوية تحت الصفر (27.8 درجة فهرنهايت)، وهو ما يجعل الطقس هناك أكثر دفئاً في واقع الأمر منه في البر الرئيسي للقارة القطبية الجنوبية نفسها.

الحياة العائلية

من بين من التقيناهم هناك سيرخيو كوبيليوس ألفارادو، وهو قائد قاعدة تابعة للسلاح الجوي التشيلي في المنطقة، تحمل اسم الرئيس إدواردو فراي.

ويعيش ألفارادو في “فياس لاس إيسترياس” مع زوجته وابنه منذ أكثر من عامين. وبينما تعود الزوجة والابن بين الحين والآخر إلى تشيلي، يفضل الرجل البقاء في تلك المستعمرة البشرية طوال الوقت.

سيرخيو كوبيليوس ألفارادو

 

ولا يخفي ألفارادو أن الطقس هناك قد يكون قاسياً في بعض الأحيان. ويقول في هذا الشأن: “لم تتسن لنا مغادرة منزلنا لأسابيع خلال هذا الشتاء، عندما تدنت درجة الحرارة إلى 47 درجةً مئويةً تحت الصفر”.

رغم ذلك يقول ألفارادو إن أسرته تتكيف مع الوضع بل وتستمتع بمغامرة الإقامة في منطقة مثل هذه، إلى حد أن فيلم “هابي فييت” (الأقدام المرحة) الذي يتناول قصة طائر بطريق يعيش في القارة القطبية الجنوبية، هو أحد الأفلام التي يفضل نجله مشاهدتها.

وعندما سألناه عما إذا كان هو نفسه يستمتع بالحياة في “فياس لاس إيسترياس”، رد علينا بالقول ضاحكاً: “أجل ولكن لأنني القائد!”.

ألفارادو ليس وحده في هذا الأمر على أي حال، فهناك آخرون يعملون ويعيشون في المنطقة مع شركاء حياتهم، مثل طبيب القاعدة الجوية التشيلية. ولا يُنصح النساء بالحمل هنا- على الأقل لمن تخدم في القاعدة العسكرية في هذه المستعمرة – لأن حدوثه ينطوي على مخاطرة صحية كبيرة للغاية.

وربما تكون “فياس لاس إيسترياس” هي أكثر منطقة على وجه الأرض تتيح لك الفرصة لكي تجرب نمط الحياة السائد على كواكب أخرى، دون أن تغادر كوكبنا.

تضم المنطقة كنيسة روسية

 

كما أنها البقعة التي تجول فيها طيور البطريق – التي لم يصطدها بشريٌ قط – هنا وهناك، دون أدنى شعور بالخوف.

ومن على مبعدة، تبدو كنيسةٌ روسيةٌ من منطقة تعلو القاعدة التشيلية العسكرية. ويدير هذه الكنيسة – التي تحمل اسم “الثالوث الأقدس” – قساوسةٌ من الروس الأرثوذكس.

ولا يوجد في المنطقة سوى تجهيزات طبية أساسية لا تكفي إلا للتعامل مع الحالات المرضية البسيطة. ولذا يتوجب نقل أي حالات أكثر خطورة جواً إلى أقرب مستشفى.

العودة

كانت أشعة الشمس في استقبالنا، عندما حطت الطائرة “لوكهيد سي 130 هيركيوليز” على البر الرئيسي في تشيلي لدى عودتنا إلى هناك. وبينما كنا نستقل الحافلة في طريق العودة إلى بونتا أريناس، آخر المدن الواقعة في أقصى جنوب تشيلي، كان اللون الأخضر هو أكثر ما يلفت الانتباه من حولنا.

لا غرابة في ذلك، فمرأى الزهور والأعشاب والأشجار مشهدٌ مألوفٌ لغالبية سكان كوكبنا، ولكن الأمر يختلف بالنسبة لمن يقطنون “فياس لاس إيسترياس” ممن ينسون درجات الألوان النابضة بالحياة التي تسود البر الرئيسي لتشيلي، بفعل ما يغلب على التضاريس والمناظر الطبيعية المحيطة بهم من ألوان سوداء وبيضاء ورمادية.

لكن بالرغم من أن الظروف قد تكون قاسية وصعبة في “فياس لاس إيسترياس”، فإن من يعيشون هناك لفترات طويلة يَخْبُرُون حياة فريدة من نوعها في أقصى طرف العالم من جهة الجنوب، وهي حياةٌ لم تسنح الفرصة سوى لقليلٍ من البشر أن يعايشوها. لكنهم يمرون بكل ذلك وهم دون زائدةٍ دودية بطبيعة الحال!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى