من التاريخوجوه

المرأة الكردية، من أين وإلى أين؟ .. زيلان… رسالة الفداء والخلود

بعد أن استشهدت “بنفش آغال” في مدينة جزرة بشمال كردستان (تركيا) إثر محاصرة القوات التركية لها في أوائل عام 1989، وبعد أن أضرمت “زكية آلكان” النار في جسدها في نوروز عام 1990، تفجرت احتفاليات نوروز ذاك العام، لتتحول إلى انتفاضات شعبية عارمة استمرت أعواماً. وهذا ما أدى إلى انخراط آلاف الفتيات الكرديات في صفوف “حزب العمال الكردستاني PKK”، ويمتشقن السلاح مع قوات الكريلا على ذرى جبال كردستان، للتصدي للعدو التركي الغاشم.

وبعد أن أضرمت “رهشان ديميريل” النار في جسدها في نوروز عام 1992، واستشهدت “بريتان-كولناز قره تاش” في أواخر نفس العام، بعد أن رمت بنفسها من أعلى قمة في جبال خاكوركة، مفضّلة الشهادة والحياة الخالدة على الاستسلام والحياة الفانية الذليلة؛ ردت حركة المرأة الكردية على شهادتها بأن أسست نواة جيشها النسائي شبه المستقل.

وبعد أن أضرمت روناهي وبريفان النار في جسديهما في نوروز عام 1994، رداً على القمع التركي الفاشي ضد الشعب الكردي في شمال كردستان وتركيا، كان جواب حركة المرأة الكردية على هذه الشهادة الثمينة بأن أسست كيانها التنظيمي الخاص بها وشبه المستقل، فعقدت مؤتمرها التأسيسي الأول في عام 1995، لتعلن عن تنظيمها “اتحاد حرية المرأة الكردستانية YAJK”.

ولكن في منتصف العام التالي، وبالتحديد في 30 حزيران 1996، شهدت حركة المرأة الكردستانية عملية فدائية نسائية أخرى، تركت –هي الأخرى- بصماتها على تاريخها التحرري، وأضافت إرثاً جديداً إلى إرثها النضالي المميز. صاحبة هذه العملية الفدائية هي “زينب كناجي”، التي عُرفت بين صفوف شعبها باسمها الحركي “زيلان”. فكانت عمليتها منعطفاً جديداً في تاريخ حركة المرأة الكردستانية، بأن أثبتت جدارة المرأة الكردية في تحديد الهدف العسكري والتخطيط له بصورة أقرب إلى الكمال، وكشفت عن قدرة تحوُّل كل امرأة مناضلة بحدّ ذاتها إلى جيش جرار ينفجر في وجه العدو في حال عرفت كيف تنظم طاقاتها وتقرأ المستجدات المرحلية وتحدد الهدف العسكري الصحيح الذي يؤثر في التوازنات السياسية ويصدم العدو ويُربكه.

حيث تمنطقت “زيلان” بحزام ناسف يزن أكثر من ثلاثين كيلو غراماً، واقتربت من الجنود الأتراك الذين كانوا في مراسيم عسكرية رسمية بمدينة ديرسم، لتفجر نفسها فيهم، ما أدى إلى مقتل العشرات من جنود العدو التركي، بالإضافة إلى جرح العشرات منهم. وهكذا تركت اسمها على عملية فدائية غير مسبوقة في صفوف PKK. ومن حينها تحولت زيلان إلى تعبير صارخ عن عطش الشعب الكردي للحرية ورفض العبودية. وتحولت إلى “مانيفستو” الحياة الحرة الجديدة بالنسبة إلى المرأة الكردية بصورة خاصة.

فمَن هي “زينب كناجي” أو “زيلان” الأسطورة؟ ولماذا نفّذت عمليتها الفدائية في ذاك العام بالتحديد وفي تلك المدينة بالتحديد؟ لقد تركت زيلان وراءها رسالة كاملة شاملة موجهة إلى عدة جهات، تحلل فيها المتسجدات المرحلية التي دفعتها إلى اتخاذ قرارها بتنفيذ عمليتها الفدائية تلك، وتعرّف فيها عن نفسها بأفضل صورة، وتناشد فيها الشعب الكردي والمرأة الكردية، بل والبشرية جمعاء. لذا، فقد كانت رسالتها هذه أقرب إلى “المانيفستو” منها إلى “الرسالة”. بالتالي، فليس أفضل من أن نترك للشهيدة “زيلان” أن تتحدث هي عن ذاتها، من خلال اقتباس أهم ما ورد في رسالتها الموسعة، ولكن بتصرف.

 

حكاية حياة

“اسمي “زينب كناجي”. ولدت عام 1972 في قرية “ألمالي” التابعة لمدينة “ملاطية”. أنا أصغر إخوتي الستة. بعد إنهائي الدراسة الثانوية في مدرسة “حيدر باشا المهنية الصحية”، توظفت في مشفى “بيراجيك” الحكومي بمدينة أورفا. وعندما نجحت في امتحانات القبول في كلية التربية والتعليم في جامعة إينونو في مدينة ملاطية عام 1990، نقلت وظيفتي إلى “مشفى ملاطية الحكومي” قسم التصوير والأشعة السينية، وأكملت دراستي لأتخرج من قسم “التوجيه والإرشاد النفسي”، وتزوجت من زميلي في الدراسة الجامعية.

تطور اهتمامي بالفكر اليساري والقضية الكردية أثناء دراستي الثانوية، فتعمقت حينها في الكثير من أمور الحياة. وخلال دراستي الجامعية، حددتُ اتجاهي من بين الأفكار اليسارية، فبدأت أميل إلى نهج “حزب العمال الكردستاني PKK” بشكل واضح. لم تكن هناك طليعة أمامنا في نضال الجامعة. بالإضافة إلى المشاكل الاقتصادية التي كانت تعاني منها عائلتي. وهذا ما أخّر لدي حسم الأمر والوضوح الفكري لدي.

بدأت بالنشاطات التنظيمية بين أبناء شعبي الكردي في مدينة أضنة التركية عام 1994. ووقعتُ أسيرةً بيد العدو التركي عندما كنت أناضل عام 1995. ولدى إطلاق سراحي التحقت مع زوجي بصفوف الكريلا في مدينة ديرسم، فتلقينا دورة تدريبية في إحدى معسكرات “حزب العمال الكردستاني PKK” في مدينة ديرسم عام 1995. لكن زوجي ذهب بعد التدريب إلى مدينة أضنة ليناضل هناك، فاعتقلته “قوات مكافحة الإرهاب” التركية في نفس العام، بعد اشتباك أدى إلى إصابته بجروح. خلال فترة بقائي بين قوات الكريلا في مدينة ديرسم، تمكنتُ من التعرف على شخصيتي واستطعت صقلها بنحو ملحوظ، بحيث حسمت الكثير من التناقضات التي كانت عالقة في ذهني على الصعيد الشخصي والقومي والوطني”.

 

تحليل للواقع التاريخي للشعب الكردي

“لقد أدى الشعب الكردي دوراً كبيراً طيلة تاريخه القديم، ولكنه عانى بعد ذلك من هيمنة مختلف القوميات الحاكمة طيلة قرون. فتحول وطننا إلى ميدان للحروب والمعارك التي لم تكن لنا فيها ناقة ولا جمل. وبقي شعبنا متأخراً عن مواكبة شعوب المنطقة والعالم. وبقي تطوره الاجتماعي بدائياً. لقد انتفض كثيراً من أجل نيل حريته، ولكنه تعرض كل مرة للسحق والقمع الدمويين، إما لافتقاره إلى القيادة الناجحة، أو بسبب الخيانة الداخلية، أو لانعدام التنظيم بين صفوفه. كما مارست القوى الحاكمة سياسة “فرق-تسد” على شعبنا بأسوأ أشكالها، من خلال دمجها بأساليب الحرب الخاصة والحرب النفسية الشاملة. وبذلك فرضت “الموت الأبيض” على شعبنا، أي “الإبادة والإنكار”. بالتالي، فقد تلازمت الخيانة والمقاومة على الدوام.

وكما يقول الشاعر الكردي العظيم “أحمدي خاني”: “لو كنا نملك قيادة سليمة حكيمة، لَما تحولنا إلى عبيد وخدم للغير”. إن واقع القيادة المزيفة البعيدة عن الحقيقة الوطنية، والمعتمدة أساساً على المصالح الفردية والعائلية والعشائرية، هي التي تسببت باستمرار هذا الواقع الملعون لمدة طويلة. لذا، لا يمكن لأية حركة طبقية أو قومية أن تحقق النصر، إلا بوجود قيادة استراتيجية سديدة. فالقائد هو الذي يمثل التجديد والتطوير المطلوبين على أعلى المستويات. وهو الذي ينظم كافة جوانب حياته حسب متطلبات الرقي بواقع وحياة شعبه، ويعيش آلام مجتمعه، ويشعر به من الأعماق، ويتحمل مسؤولية الوصول به إلى بر الأمان والحياة الحرة. وما يقع علينا، عليّ أنا، هو أن نتشبث بالإرث التاريخي العظيم الذي تركه لنا المناضلون العالميون والشرق أوسطيون والكرد، وأن نتجاوب مع متطلبات المرحلة”.

 

تحليل مرحلي لواقع الشعب الكردي

“ولكن المسار المنحدر للشعب الكردي قد توقف مع إعلان PKK في عام 1978، بعد أن حاول العدو التركي تحويل كردستان إلى وطن من دون شعب عبر تنفيذ المجازر الجماعية بحقه، والتي راح مئات الآلاف ضحايا فيها. أما الأحياء منهم، فقد حاول العدو ترهيبهم وترعيبهم، وفرض عليهم تنفُّس رائحة الموت في كل دقيقة، بل في كل ثانية من خلال تعريضهم للتعذيب والتهجير والتنكيل، فحوّلهم إلى أشباه بشر أو إلى أموات يتنفسون.

لقد تمكن PKK والقائد APO (عبد الله أوجالان) من قلب الوضع السلبي للشعب الكردي رأساً على عقب، ليبدأ بمواجهة واقع شعب منسي ووطن مفقود. فاستطاع الشعب الكردي الاستيقاظ من السبات العميق الذي فقدَ أثناءه إنسانيته وبات انبطاحياً وخادماً موضوعياً لقوى الحداثة الرأسمالية. وهاهو شعبي الكردي اليوم يخوض أعتى أشكال الحرب من أجل استرداد حرياته المسلوبة. وهكذا، بات نضالُنا يمثل الأملَ الوحيد للقوى الاشتراكية ولكل البشرية والشعوب المضطهدة. ويبدو أن انبعاث الشعب الكردي من جديد بعد أن كان قد فقد كل الآمال بالنهوض ثانية، يتطلب التحلي بروح المسؤولية الكبرى وبالوعي العميق والرؤية الثاقبة وبالبصيرة الحادة، بالإضافة إلى التحلي بالجرأة القصوى والعزيمة التي لا تلين.

وهاهو حزبنا PKK يواجه العدو اليوم بتوجيه ضربات قاضية إليه بعزيمة لا تلين، وبتطوير ذاته على الدوام لتحصين صفوفه تجاه الهجوم الشامل الذي يشنه العدو التركي ضده. كما إن النشاط التنظيمي بين صفوف شعبنا قد ضاعف من قدراته وأثبت جدارة شعبنا في توحيد صفوفه تجاه الدولة التركية، وبالتالي تجاه كافة القوى الإمبريالية. وهكذا نتحلى لأول مرة في تاريخنا بهذه القوة التنظيمية المؤثرة، بحيث غدونا قاب قوسين من الحرية المشرفة. وهانحن اليوم نسير مرفوعي الرأس بهويتنا القومية وبإنسانيتنا الرفيعة دون الشعور بالخوف أو العار أو الخجل”.

قائدي

“قائدي العزيز… حتى لو ضحيتُ بروحي، فإنني أرى أنها غير كافية لرد جميلكم والتماهي مع مستوى كدحكم اللامتناهي لأجل الشعب الكردي عموماً والمرأة الكردية خصوصاً. فيا ليتني كنت أملك غير جسدي أيضاً أضحي به في سبيل شعبي ومن أجلك قائدي. فأنت الذي بعثت الروح في شعبي بنضالك الجبار. ووجودنا الآن هو نتيجة لجهودك الإبداعية ولتفانيك اللامحدود. أنت ضمان وجودنا ومستقبل البشرية. ولهذا أنا ملتزمة بنهجك لدرجة التضحية بحياتي في سبيل حياة الآخرين. إن شخصيتك الجذابة تؤثر عليّ بنحو كبير. فأستمد منها القوة المعنوية القصوى كلما دخلت في ضائقة. أنت أكثر الناس التزاماً بذكرى الشهداء وتجسيداً لآمالهم وطموحاتهم.

ولأجل هذا فإنني مطمئنة تماماً بأنه سيكون هناك من يمثلني ويضفي عليّ أيضاً قيمتي وأنا أتوجه إلى الشهادة بمحض إرادتي. ولأجل هذا أيضاً أَعتَبر هذه العملية الفدائية مَهَمّة من الضروري عليّ تنفيذها، لأنها تجسد روح المسؤولية أمام التاريخ وأمام شعبي. إذ بذلك سأتمكن من القضاء على نقاط ضعفي، ومن التوجه نحو آفاق الحرية الحقيقية، وسأستطيع تحقيق ذاتي المفقودة، وتجسيد رغبة شعبي في الحياة الحرة. إنني أريد أن أفجر نفسي كقنبلة، كي أُظهِر مستوى غضبي وانتقامي من العدو، ولكي أتحول إلى رمز لانبعاث هوية المرأة الكردية الحرة. إنني أحب الحياة كثيراً. ولذلك أود أن أكون صاحبة عملية فدائية عظيمة، كي أغدو صاحبة حياة ذات معنى ثمين، وكي أجد مكاناً لي في قافلة الخالدين. إنني متشوقة لتنفيذ هذه العملية، لأنني أحب البشرية إلى حد كبير.

يا شعبي الأبي!

بهذه العملية الفدائية سأتحول إلى لغة حية تخاطب قلوبكم. فنحن مستعدون للتضحية بأرواحنا ألف مرة، من أجل تأمين مستقبل حر لكم. وما دامت “شجرة الحرية تروى بالدم”، فما علينا إلا أن نلبي هذا النداء. فالوطن ثمين للغاية. ولن تكون أجسادنا أغلى من الوطن للفداء بها من أجله. وأنا على يقين بأننا بذلك فقط بإمكاننا اتخاذ مكانتنا المشرفة ضمن المجتمع البشري الحر”.

إلى المرأة الكردية المقاتلة

“لقد كانت المرأة قوة نافذة في المجتمع الطبيعي الكومونالي التشاركي. ولكنها بدأت تفقد حريتها وهويتها مع بدء تراكم رأس المال البدائي في يد الرجل المهيمن بالتزامن مع ظهور المجتمع الطبقي وظاهرة الدولة. ومن حينها بدأت ظاهرة عبودية المرأة قائمة دون انقطاع ضمن كافة أشكال المجتمعات وحتى يومنا الراهن. ورغم أن نظرية الاشتراكية المشيدة عملت على إزالة التناقضات الطبقية وفتح المجال أمام حرية البشرية، إلا إن انحراف الاشتراكية المشيدة عن مسارها النظري، وعدم تناولها لقضية حرية المرأة بنحو استراتيجي شامل ومتكامل ارتباطاً بالقضايا الأخرى، قد أدى إلى عدم نيل النتائج المرجوة على صعيد تمكين حرية المرأة.

أما وضع المرأة الكردية، فهو أسوأ بكثير. حيث تقبع تحت القمع المضاعف كأنثى وككردية. لكن حسن الحظ لدينا يكمن في تناول قائدنا لقضية المرأة بنحو استراتيجي وشامل. وبذلك وصلت المرأة الكردية اليوم إلى ما هي عليه من تطور بارز وفي فترة زمنية قياسية. ولذلك نجد أن الفتيات الكرديات ينخرطن في صفوف الكريلا بالآلاف، ليحطمن بذلك كل الخصائص التقليدية البالية، وليعبّرن بذلك عن تشبثهن بالحرية كخيار وحيد لا بديل له في سبيل النعيم بحياة مشرّفة. ذلك أن السبيل إلى الحرية تمر من خوض الحرب في سبيلها. وهذا ما يقتضي منا تنظيم أنفسنا وصفوفنا بأفضل الأشكال، كي نتحول إلى إرادة قوية ومنيعة. وبذلك يغدو بإمكاننا الاستفادة من خصائصنا النسائية الأصيلة لتسخيرها في خدمة الثورة.

إنني أستمد معنوياتي وقوتي من شهيداتنا الباسلات. ولهذا السبب أُصرّ على تمثيل شخصية الكريلا النسائية الفدائية كقرار ذاتي، كي أكون لائقة بجهود قائدنا وحزبنا وكل البشرية المضطهدة، وكي ألبي طموح شعبي والمرأة الكردية من أجل الحرية. وقراري هذا يمدني بالجرأة القصوى وبالمعنويات العليا. وكل هذا يشحنني بعواطف جميلة لا مثيل ولا تعريف لها. ذلك أن السير على خطى شهيدات الحرية أمر مشرّف للغاية. وأنا محظوظة بأنني سوف أنال وسام الشرف هذا قريباً. وثقتي كبيرة بجميع المقاتلات الكرديات على ذرى جبال كردستان، واللواتي يتحملن كافة أنواع المصاعب والمشقات في سبيل خلق مستقبل حر وواعد على أياديهن”.

الهدف من العملية الفدائية

“هذه العملية ستكون انطلاقة تكتيكية، وستؤثر عليّ معنوياً إلى حد كبير. فما دام العدو ينفذ محاولة الاغتيال ضد قائدنا APO، فإن أفضل رد عليه سيكون بتنفيذ هذه العملية الفدائية، كي نلحق الضربة المعنوية الكبرى بالعدو، ونجعله يصاب بالجنون، ولنحوّل وطننا إلى سجن كبير له، كي نحاصره في كل الميادين. ومن جانب آخر، فبهذه العملية الفدائية سيكسب شعبنا المعنويات العليا، وستقوى مقاومته ويشتد عوده.

إنني بهذه العملية الفدائية أريد توجيه رسالة أؤكد فيها أننا كشعب مستعدون لتقديم التضحيات الجسام من أجل الحرية، حتى ولو تطلّب ذلك منا أن نحوّل أجسادنا إلى قنابل تنفجر في وجه العدو التركي الغاشم. وبهذا الشكل سنتمكن من إيصال صرخة الحرية لدى شعبنا إلى كل العالم. وبذلك أيضاً سنمدّ نضالنا بالطاقة اللازمة لتصعيد النضال في كل مكان. لذا، فإن عمليتي هذه تحمل الكثير من المعاني السامية في مضمونها.

أود تنفيذ عمليتي الفدائية عربوناً للالتحام بنهج حزبنا وبمقاومة شعبنا وإرث شهدائنا وصمود قوات الكريلا في الجبال. سوف أتوجه بخطوات واثقة ضد العدو، وأنا أنتهل القوة من كل هذا الإرث النضالي المجيد. فنحن أكثر من يرغب في السلام والأمان. ونحن أكثر من يحب الحياة. وهذا الحب هو الذي يرغمنا على خوض هذه الحرب ضد الدولة التركية والقوى الإمبريالية الداعمة لها. فالصمت حيال ممارسات هذه القوى تجاه شعبنا وشعوب المنطقة، إنما هو جريمة شنيعة وخيانة كبرى”.

 

مناشدة أخيرة

“وعليه، فإنني أناشد البشرية جمعاء قبل تنفيذ عمليتي الفدائية هذه: إذا كنتم لا تودون أن تكونوا شركاء في تلك الجرائم التي تُرتَكَب بحق شعبي الكردي، فعليكم بالتضامن مع شعبنا الكردي ودعم نضاله العادل. طهّروا قلوبكم وأذهانكم وضمائركم من الضمور الذي لحق بها. واستمعوا لصرخة شعبي لأجل الحرية. إذ إن الفضيلة الإنسانية تكمن في جوهر هذه الصرخة”.

 

تحليل حركة المرأة الكردية للعملية الفدائية

تُعَدّ “زيلان” اسماً مهماً وشخصية بارزة بالنسبة لحركة حرية المرأة الكردستانية. فهي لم تفجّر نفسها في صميم النظام التركي الفاشي القائم فقط. بل وشكّلت انطلاقة مهمة على صعيد نضال المرأة ضد النظام الذكوري المهيمن. ذلك أن النساء ما يزلن يعانين المآسي كل يوم في دوامة هذا النظام الذي يؤلّبهن على بعضهن بعضاً، ويزرع بذور الفتنة بينهن، كي يتمكن من تشتيت قواهن وطاقاتهن ومهاراتهن، ويضمن بذلك عدم تحولهن إلى قوة مؤثرة ونافذة في وجه سياسات وممارسات النظام الذكوري المهيمن بحق المرأة.

وعليه، لا يمكن اعتبار عملية الشهيدة “زيلان” بأنها “عملية انتحارية”. فهي عملية مخططة ومدروسة ومشحونة بالجرأة والانضباط والوعي التاريخي والمرحلي وبروح الفداء وبرودة الأعصاب. بالتالي، فهي أكبر ضربة للميول الانتحارية التي قد تختلج المرء في أحلك الظروف. وهي بعمليتها هذه نفّذت لوحدها ما يمكن لكتيبة عسكرية أن تقوم به من حيث التكتيك والتخطيط ونيل النتيجة المرجوة. إنها عملية أقرب إلى الكمال رغم مخاطرها الكبيرة. وهذا ما ميّزها بمكانة خاصة وتاريخية جداً في تاريخ الكفاح المسلح في PKK على صعيد التكتيك العسكري ونهج الحرب والقتال. وكأنها بعمليتها هذه كانت تقول: عليكم بالموت الصحيح إن اخترتم لأنفسكم الموت! عليكم بالتكتيك الهجومي السديد إن قررتم الهجوم على العدو!

لا بل إنها جسدت بعمليتها الفدائية هذه النهج الفكري والسياسي لـPKK بأفضل الأشكال، وأعربت عن إدراكها إياه بأحسن صورة من حيث العزم والإرادة والشفافية والالتزام. فهي تَعتبر أن أية عملية عسكرية أو فدائية، لا يمكن أن تنمّ عن النتائج المرجوة، في حال لم تَكُن مُشبَعة بالإدراك السديد لنهج القيادة والحزب والشهداء. وتَعتَبر أن الاعتقاد بإمكانية ذلك هو محض خداع للذات، وإجحاف بحق PKK.

لقد تميزت زيلان بوقفة ريادية ضمن النضال الثوري للمرأة الكردية، ليس بشكل عمليتها الفدائية التي نفذتها وحسب، بل وبطراز حياتها أيضاً. وهكذا باتت رمزاً للحياة المبدئية ولروح المقاومة والإرادة الحرة والإصرار على الحقيقة. إن عمليتها الفدائية هي مرآة جوهرها. فماهية حقيقة الإنسان هي مرآة طراز حياته وممارسته العملية. لقد اختارت لنفسها أقدس أنواع الحياة. وبذلك تحولت بين أبناء وبنات الشعب الكردي إلى أسطورة خالدة. فاُطلِق اسم “زيلان” على الآلاف من الفتيات اللواتي فتحن أعينهن على الحياة بعد هذه العملية الفدائية.

ففي 6 أيار 1996 أشرفت الدولة التركية على عملية قرصنة هدفت إلى القضاء على الشعب الكردي متجسداً في شخص قائده “عبد الله أوجالان”، وذلك بإرسال سيارة مفخخة إلى عتبة الأكاديمية التدريبية في العاصمة السورية دمشق. فكانت هذه الحادثة إنذاراً ببدء حبك خيوط المؤامرة الدولية التي تُوِّجَت باعتقال القائد “عبد الله أوجالان” بمؤامرة دولية شنيعة بتاريخ 15 شباط 1999. وكجواب على هذه المؤامرة التي استهدفت القائد “عبد الله أوجالان”، نفذت الشهيدة “زيلان” عمليتها الفدائية، لتؤكد بذلك على ضرورة تصعيد نضال الحرية رداً على سياسة الإنكار والإبادة التي تنتهجها الدولة التركية ضد الشعب الكردي. كما إن عمليتها الفدائية هذه هي انتقام لمجزرة ديرسم 1938، والتي راحت ضحيتها آلاف النساء ومئات الآلاف من أبناء الشعب الكردي. ولهذا السبب بالتحديد اختارت مدينة التمرد ديرسم هدفاً محورياً لتنفيذ عمليتها الفدائية فيها. إنها عملية انتقام للمقاتلات بسه وظريفة وكولناز ورندة خان وأمثالهن من المناضلات الكرديات.

 

أصداء العملية الفدائية في راهننا

يبدو أن هذا الإرث النضالي الفدائي هو الذي يثير حفيظة الدولة التركية ذات الذهنية الفاشية الإنكارية، وهو الذي ما يزال قائماً على قدم وساق إلى أن وصل إلى حد “الفوبيا الكردية” متجسدةً في شخص أردوغان وأمثاله من المسؤولين الأتراك. ولعل هذا ما يفسر مدى وحشية العدوان التركي ضد الشعب الكردي، سواء في كردستان تركيا (باكور) أو في كردستان سوريا (روجافا) وفي الأجزاء الأخرى من كردستان. فالعدوان التركي الأخير على عفرين، ووحشية القصف والقتل والتنكيل بحق المدنيين دون تمييز بين نساء أو أطفال أو عجائز، إنما يمثل قمة الذهنية الشنيعة التي لا تدّخر مجهوداً في سبيل سحق الإرادة الحرة والقضاء على هوية المرأة الكردية الحرة. ولأجل هذا تضغط على أغلب القوى الإقليمية والدولية في سبيل الوصول إلى أهدافها الضامرة هذه. ما يشكل خطراً، ليس على المرأة الكردية والشعب الكردي فحسب، بل وعلى كافة شعوب منطقة الشرق الأوسط بالتأكيد. ذلك أن القضاء على الهوية النضالية النسائية هو محور القضاء على جوهر وثقافة شعوب المنطقة، وعلى روحها المجتمعية الأصيلة.

ولكن النتيجة الأخرى التي يمكننا استنتاجها أيضاً، هي أن الشعب الكردي خرج من كل مجزرة أقوى بكثير، ولم يتراجع عن المطالبة بحقوقه المسلوبة، ولم يتخلى عن الكفاح في سبيل نيل حرياته والتمتع بالحياة الكريمة المشرّفة. وهكذا ولدت العشرات من أمثال زيلان في المقاومة العصرية الأخيرة، من قبيل “آرين ميركان” و”آفستا خابور” و”بارين كوباني”. إنهن المناضلات المتطلعات إلى النور، وحاميات الضياء، ومشاعل الحرية المنيرة.

 

قيل في زيلان

زيلان صوت المرأة الكردية…

صرخة الحرية…

زيلان نار مشتعلة في الجسد لأجل الحرية…

وابنة الجبال المتمردة…

زيلان نجمة الحرية

ورمز الجرأة والعصيان

اختارت الموت في سبيل الهدف السامي

زيلان إلهة عصرية…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى