من التاريخ

محمد أرسلان يكتب: في البحث عن الحقيقة الكردية (الحلقة السادسة)

 

يكمن السر في استمرار حماية الكرد لوجودهم رغم كل المظالم التي تعرضوا لها عبر التاريخ يكمن في حفاظهم على كينونتهم الثقافية التي منها يستمدون إرادة البقاء. لأن هذه الثقافة الممتدة آلاف السنين والموغلة في القِدم لا يمكن لأحد أن يعبث بها أو أن يقتلعها من جذورها. إذ، أنَّ التاريخ يُعلمنا أن الجذور الثقافية لا يمكن اقتلاعها من مكانها ولا يمكن أيضاً لأية ثقافة غريبة أن تنمو على هذه الجذور وتخضر إلا إذا كانت من الأعشاب الطفيلية التي لا يُسعفها الزمن في العمر المديد.
الجذور الأصيلة والتي نبتت على ضفاف الفرات ودجلة في تربة ميزوبوتاميا وتفرعت نحو النيل والبنجاب ونهر الأصفر هي غائرة في التاريخ وتستمد هذه الجذور الفرعية قوتها من الجذر الأم ذو الثقافة التاريخية. إذ يوضح أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، هذه القضية بشكل جيد ويقول: “أما صَونُ الكردِ لوجودِهم بطابعِه الثقافيّ، فيتأتى من قوةِ الثقافةِ التاريخيةِ التي يرتكزون إليها. لذا، يستحيلُ إيضاحُ تفضيلِهم الحياةَ الثقافيةَ على حياةِ المدنيةِ بكونِه تخلفاً ساذجاً أو بدائيةً بسيطة. فالثقافةُ التي عاشوها ليست ثقافةَ مدينةٍ أو طبقةٍ أو دولة، بل هي ثقافةٌ تُعاندُ في التشبثِ بالديمقراطيةِ القَبائليّة، ولا محلَّ فيها للتحولِ السلطويِّ أو الطبقيّ. والعجزُ عن التحكمِ اليسيرِ بالكردِ يُعزى إلى ديمقراطيتِهم الثقافيةِ هذه”.
أي الثقافة الطبيعية لا يمكن لها أن تتغذى على ثقافة مغايرة لها وإلا ستتعرض للكثير من الأمراض من حيث الوجود والاستمرارية بشكل صحي وسليم. فكل ثقافة حاولت أو تحاول الاستغناء عن موروثها الثقافي واستبداله بطُعم الليبرالية من الدولة والمدنية لا يمكن له أن يكون البديل الأفضل وإن تم حقنه بأنواع مختلفة من الكيماويات والهرمونات لتكييفه.
ربما ينمو ويحاول الاستمرار جاهداً في التشبث بالحياة، إلا أنَّ هذا النمو سيكون مسخاً وستعشعش عليه الكثير من الفطريات والطحالب. لأن الحقيقة التاريخية لثقافة المنطقة هي عبارة عن تلاقح الثقافات الأصيلة والتي كانت الأصل في التطور الحضاري والعلمي ونشره حول العالم.
مفهوم ومصطلح الدولة القوموية والدينوية، ليس له أية علاقة مع الثقافة المجتمعية لهذه المنطقة وأنَّ هذا المصطلح تمَّ توطينه عنوة في منطقتنا. لأن الدولة تعتمد في أساس تكوينها على إقصاء الآخر ونفيه وتتشكل على أساس (اللغة الواحدة والدين الواحد والعلم الواحد والشعب الواحد والقومية الواحدة أو ذات الأغلبية). وعليه نُدرك أن منذ تأسيس الدول وحتى راهننا لم تنعم الشعوب ولو قليلاً من الكرامة والحرية، بالرغم من تشدقها بهذه المفاهيم والتي لن تكون سوى مصطلحات تخدع فيها الدولة شعوبها كي تؤمن استمراريتها في السلطة وجني المال. وأنَّ الرأسمالية أفلحت كثيراً في استمراريتها من خلال هذه المصطلحات وجعلتها من المقدسات التي لا يمكن العيش من دونها.

وكأنَّ أي شعب لا يمتلك دولة لا يحق له أن يعيش ثقافته وكينونته ولغته ووجوده الذاتي.
هنا كانت المصيبة الكبرى التي ألمَّت بالمجتمعات والشعوب حينما منحت الثقة لثلة من الاناس في تدبير شؤون المجتمع وتم إلغاء دور المجتمع في السياسة والأخلاق التي هي قوانين وجودية أية مجتمع. وعندما يتم سرقة السياسة والأخلاق والقوانين من المجتمع ووضعها في قبضة الدولة القوموية حينها لن يكون ثمنة مجتمع، بل سيكون مجتمع نمطي مخصيَ ومستهلك وينتظر الفرج والرحمة من الدولة كي تطعمه وتحرسه وحتى تؤمن له سبل الزواج.

إذ يوضح أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، هذه القضية بشكل جيد ويقول: “كنتُ سأدركُ بعد أَمَدٍ طويلٍ أنّ حياةَ المجتمعِ المدينيِّ والطبقيِّ والدولتيِّ ليست فضيلةً بل رذيلةٌ وانحطاط. لا شكّ أنّ المفهومَ الرانكَوِيَّ بصددِ الأمة (نسبةً إلى ليوبولد فون رانكه 1795 – 1886) قد أدى دوراً رئيسياً أيضاً في التأثيرِ على مسارِ فهمِنا للقضيةِ القومية. حيث اعتَبَرنا كينونةَ الواقعِ الدولتيِّ والطبقيِّ والقوميِّ من المزايا الأصلية، عند التفكيرِ بأيما مجتمعٍ منفردٍ بذاتِه. كما وسَقَطنا كثيراً في المواقفِ المثالية، من قبيلِ عدمِ إدراجِ المجتمعاتِ التي تفتقرُ لتلك المزايا إلى لائحةِ المجتمعات.

هكذا كنا نُحيطُ الخاصيةَ الأوليةَ للفكرِ القومويِّ الدولتيِّ الغربيِّ بالصفاتِ العالمية. لذا، من الصعبِ علينا تطويرُ مفهومٍ علميّ، ما لَم نُطَهِّرْ مصطلحَي التاريخِ والمجتمعِ من براثنِ وتداعياتِ تلك القوالبِ الدولتيةِ والقومويةِ للهيمنةِ الأيديولوجيةِ غربيةِ المركز.

إذ إننا نغالي في تضييقِ الخِناقِ على ذهنيتِنا التاريخيةِ والمجتمعيةِ في سبيلِ التحولِ إلى أمةٍ ذاتِ دولة. وعادةً ما باتَ إنشاءُ تاريخٍ لكلِّ مجتمعٍ مرهوناً بكينونةِ وصَيرورةِ الأمةِ والدولةِ لديه. وتختلجنا عاطفةٌ وكأننا سنُضَيِّعُ فرصةَ الاندراجِ في لائحةِ المجتمعات، فيما لو لَم نتَّسِمْ تاريخياً بسِماتِ أمةٍ ودولةٍ “قديرة” (أياً كان معناها).

مما لا شائبةَ فيه هو أنّ هذه الذهنيةَ القومويةَ والدولتيةَ المتصاعدةَ كعاملٍ أساسيٍّ للاستغلالِ والتحكمِ لدى الحداثةِ الرأسمالية، تُشَكِّلُ المؤثرَ الأوليَّ المتخفي خلفَ النقصانِ والانحرافِ والعَمى الكامنِ في علمِ التاريخِ والمجتمع. ذلك أنّ ما يُطلِقُ العَمى الأسودَ على آفاقِنا بصددِ عِلمِ التاريخِ وعلمِ المجتمع، هو أجهزةُ الاستغلاليةُ والأيديولوجيةُ للهيمنةِ الرأسمالية”.
حينما يتم الاغتراب عن التاريخ والمجتمع يتم الدخول في مرحلة التشتت والتشرذم، وكذلك لا يمكن فصل التاريخ والمجتمع عن المفهوم الكوني. لأن الانقطاع عن التحليل الكوني للمجتمع وفصله عن تاريخه الجزئي، سنجعل من هذا المجتمع يغرق في غربته وكأنه لم يعش التاريخ، وسيقتنع بأن التاريخ بدأ من مكان آخر وهناك تطور الانسان.
هذا ما تريده الليبرالية والرأسمالية أن نعتقده بأن التاريخ بدأ من اليونان وكذلك الفلسفة والطب والجغرافيا وعلم الفلك والهندسة وكذلك الديمقراطية المجتمعية، مع العلم أنه هذه العلوم كلها كانت معاشة على أرض الواقع قبل ظهور اليونان بآلاف السنين على نهر النيل وفرات ودجلة والبنجاب والأصفر، ولم تكن اليونان بعد تعدت مرحلة التطور الفكري. إذ يوضح أوجلان في مجلده الخامس “مانيفستو الحضارة الديمقراطية – القضية الكردية وحل الأمة الديمقراطية”، هذه القضية بشكل جيد ويقول: “التالي، نحن لا نقتربُ من يومِنا الراهنِ نحو تلك المرحلةِ بمفهومٍ قومويٍّ أو دولتيّ، لدى سعيِنا إلى تحديدِ أعظمِ مراتبِ تاريخِ البشريةِ والثقافةِ المجتمعية. ولا نُنشِئُ القوالبَ بصددِ الكردايتية.

بل نندفعُ وراءَ التاريخِ العالميِّ والمجتمعِ الكونيّ. من هنا، ينبغي الإدراك بأفضلِ وجه، أننا لن نستطيعَ الجزمَ بمكانةِ وموضعِ أيةِ مجموعةٍ منفردةٍ بذاتِها على مسارِ التطوراتِ الجاريةِ في التاريخِ والمجتمع، ما لَم نلتزمْ بالمفهومِ الكونيِّ للتاريخِ والمجتمع. ذلك أنّ النشاطاتِ التي سنُجريها بحقِّ التاريخِ والمجتمعِ المنفردَين، لن تذهبَ أبعدَ من كونِها أحكاماً ذاتية، في حالِ تناوُلِنا إياها بشكلٍ منقطعٍ عن التاريخِ والمجتمعِ الكونيَّين. وإلا، لماذا يتهربُ المدافعون عن الفكرِ الذي يتخذُ المدنيةَ الغربيةَ مِحوراً له من التطوراتِ التاريخيةِ والاجتماعيةِ الكونية؟ ولماذا يَحدُّون أنفسَهم بمفهومِ التاريخِ والمجتمعِ الإغريقيِّ – الرومانيِّ كحدٍّ أقصى؟ جليٌّ جلاءَ النهارِ أنّ منافعَهم في الهيمنةِ الأيديولوجيةِ والماديةِ تلعبُ دوراً مُعَيِّناً في ذلك”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى