من التاريخ

المرأة الكردية من أين وإلى أين؟.. “بريتان”: الشاعرة المقاتلة

ملاحم أسطورية من صنع البشر!
لكل عصر ملاحمه التي يسطّرها الأبطال الخالدون، ويتركونها أثراً يدل عليهم ويَردّ لهم اعتبارهم طيلة الزمان. أجل، طيلة الزمان. بمعنى آخر، فللزمان عقله وروحه. ربما كان عقل الزمان هذا أوسع نطاقاً من عقلنا نحن البشر. هذا العقل الذي يؤكد دوماً على أنه من المستحيل أن يهتز ورق الشجر من تلقاء نفسه ودون فعل فاعل. بالتالي، قد يكون من الأجدر بنا ألاّ ننسى أو نتناسى الذين نعايشهم. فلربما تحوَّل بعض منهم إلى بطل خالد في وقتٍ نكون نحن في غفلة عنه وربما عن ذاتنا.
ولو كان لأراضي كردستان لسان، لتحدثت عن الكثير من الأساطير المجهولة، أو لذكرَت لنا الكثير من التفاصيل التي نجهلها. ذلك أن هذه الأراضي غنية بالتقاليد التي تحولت بين صفوف شعبها إلى ملاحم مقدسة من صنع أناسها البواسل. و”بريتان” هي واحدة من تلك التي عرفت كيف تتميز عن محيطها. فكانت شاعرة ورسامة وكاتبة ومناضلة ومقاتلة.

ولادة “كولناز قره تاش”
شهدت مدينة بينغول حدثاً تاريخياً عام 1971، بولادة طفلة أطلق والداها الموظفان عليها اسم “كولناز قره تاش”، والتي تَرجع بأصولها إلى مدينة ديرسم بكردستان تركيا (شمال كردستان). تسجّلت “كولناز” في كلية العلوم الاقتصادية بجامعة إستنبول عام 1989. تميزت عن أقرانها طيلة سنين دراستها، فكانت قائدةً لفريق كرة اليد، وطالبة شغوفة بالمطالعة والقراءة، ومتسمة بالانضباط وبمناهضة القمع والعنف والاستغلال. إنها لم تكن تعترف بالـ”ممنوع”. فكل كتاب “ممنوع” كان يجذبها أكثر، وكل فكرة “ممنوعة” كانت تحثها على التعمق فيها والبحث عنها أكثر.
في عيد نوروز الكردي من عام 1989 أدركت “كولناز” (ومعنى اسمها الكردي حسب اللغة العربية هو: الوردة اليانعة) هويتها القومية كفتاة كردية. وبعدها بسنة التحقت بصفوف حزب العمال الكردستاني برفقة خطيبها، لتنشط بين صفوف الجماهير الكردية. ولكنها اعتُقِلَت على يد السلطات التركية، وتعرضت لأشد أنواع التعذيب في السجون التركية. وربما هذا ما جعلها لا تتردد لحظة واحدة في الانخراط في صفوف “الكريلا” على ذرى جبال كردستان فور إطلاق سراحها. لقد توجهت إلى جبال كردستان وهي تقول في قرارة نفسها: “قريباً سيبدأ التمرد الكردي لأجل مستقبل مشرق. قريباً ستبدأ لحظةُ تحوُّلِ الألم إلى عصيان من أجل حياة حرة مشرفة”.

بريتان
وصلت “كولناز” جبال “جودي” في شمال كردستان (كردستان تركيا) عام 1991، لتُعرَف من حينها باسمها الحركي “بريتان”. وبسبب تأقلمها السريع مع أصعب الظروف، وإرادتها القوية التي لا تعرف المستحيل، فإنها تغدو بعد سنة فقط من مسيرتها الشاقة على ذرى الجبال قائدة فصيلة في منطقة “شمزينان” بشمال كردستان. وفي نفس العام، أي في صيف 1992، ذهبت بريتان إلى منطقة “خاكوركة” في جنوب كردستان (كردستان العراق).
بعد بضعة شهور من بقائها في “خاكوركة”، بدأت الحرب الشعواء، والتي تُعرَف بين صفوف حزب العمال الكردستاني باسم “حرب الجنوب” (جنوب كردستان)، حيث شاركت فيها القوات الكردية في العراق إلى جانب قوات الجيش التركي ومرتزقته المأجورين المعروفين باسم “حماة القرى” من شمال كردستان. إذ تكالبت قوى الهيمنة العالمية مع دولة تركيا الاستعمارية وأزلامها من القوى الكردية ضد حركة الحرية الكردستانية PKK لشن واحد من أوسع التمشيطات العسكرية في تاريخ الحركة.

حرب الجنوب
بعد أسبوع من اندلاع “حرب الجنوب”، قامت القوات الكردية بمحاصرة فصيلة “بريتان”. ما دفع الأخيرة إلى اتخاذ تدابيرها الدفاعية لحماية فصيلتها، لتستطيع بدهائها العسكري أن تنقذ زميلاتها بتأمين طريق لهنّ للنفاذ من الحصار وخرقه. وتبقى هي وحيدة تدافع عنهن وتحميهن وتجذب أنظار “الأعداء” إليها كي تنقذ زميلاتها. وهذا ما أدى إلى إصابتها برصاصات عديدة في خدها وصدرها وذراعها. لكنها ظلت تحارب حتى آخر رصاصة لديها.
إلا إن القوات الكردية حينها كانت قد تمكنت من تضييق طوق الحصار حولها، بحيث بقيت بضعة أمتار تفصلها عن تلك القوات التي كانت تسلقت الجبل من الخلف في سعي منها إلى أَسرِ “بريتان”. وراحت القوات الكردية تناديها: “لا تخافي. لن نمسّكِ بسوء. استسلمي، وستعيشين مكرّمة بيننا!”. لكن “بريتان” كانت على علم بمصير بعضٍ من رفيقاتها اللواتي وقعن في الأسر. كما كانت قد سمعَت بالقرار الذي أطلقته قيادة القوات الكردية في كردستان العراق، والذي مفاده “أيّ امرأة من حزب العمال الكردستاني هي غنيمة لكم في حال تمكنتم من أَسرِها، فافعلوا بها ما شئتم، فهي مُلكٌ لكم”!.

الموت، لا الاستسلام!
اضطرت “بريتان” إلى تحطيم سلاحها كي لا يقع في يد “العدو”، بعد أن ضَمَّته بحنان وحنين. ثم صرخت بأعلى صوتها “عاش القائد APO”، ورمَت بنفسها من القمة الشاهقة التي كانت تتحصن فيها إلى أسفل الوادي السحيق، رافضة بذلك حياةَ الأَسْر، ومفضّلة الموت، وبالتالي حياةَ الخلود والحرية، وهي ما تزال في ربيعها الواحد والعشرين. وكأنها بذلك تسير على خطى مئات النساء الـ”ديرسميات” من أمثال بسة وظريفة، واللواتي رمَين بأنفسهن من الأعالي بعد سحق وقمع انتفاضة “ديرسم” (إذ قُتِل نتيجتها مئات الآلاف من أبناء ديرسم) كي لا يقعن في الأَسرِ على يد الجنود الأتراك، وذلك قبل 54 عاماً من اليوم الذي رمَت فيه بريتان نفسها من قمة “ليلكان” بمنطقة خاكوركة.
تُرى، ما الذي كانت تفكر فيه “بريتان” عندما نظرت من أعلى القمة نحو أسفل الوادي السحيق؟، عندما تحولت في “لحظة الخَلق” نحو الخلود. إذا لم ندرس ونتمحص كل “لحظة خلق” من حيث زمانها ومكانها وفاعلها، فلن نتمكن من إدراك معنى ومضمون ما هو قائم اليوم من منجزات ومكاسب.

سأحاسب الخيانة والخونة!
كانت بريتان قالت قبل الشهادة: “سأقاتل بنحو أصبح فيه لائقة بالقيادة، ولن أترك خندقي أبداً، وسأحاسب الخيانة والخونة”. وهكذا تحولت “بريتان” في 25 تشرين الأول 1992، إلى أسطورة بين صفوف الكريلا الكردستانية وبين جماهير الشعب الكردي. فكُتِبَت عنها الأشعار والقصائد، وغُنِّيَت لها أجمل الأغاني. وقام رفاقها بعد سنين (في عام 2006) بعمل فيلم “بريتان” الذي يتحدث عنها وعن مقاومتها الباسلة.
حتى الذين كانوا يحاصرونها من القوات الكردية بهدف أَسرِها وتحويلها إلى غنيمة، صُدِموا من جرأة بريتان برميِها نفسها من أعلى قمة على أن تقع بين أيديهم، وتأثروا بها بدرجة كبيرة. إذ إنهم لأول مرة يتعرفون على نموذج المرأة الحرة التي تفضّل الموت على الحياة الذليلة. فراح أحدهم يفتش عنها في الوادي السحيق بعد أن وضعت الحرب أوزارها، ليخفي جثتها ويدفنها في مكان ظل لسنين عديدة لا يعرفه أحد إلا هو. إذ قام بتسليم جثتها إلى “الكريلا” معترفاً لهم: “كنتُ أودّ الإمساك بها لأجعل منها زوجة ثانية. ولكني ذهلتُ من شجاعتها. فعاهدتُ نفسي على ألاّ أحمل السلاح ثانية في وجه بني شعبي!”.

كم أنا جميلة بجروحي!
من المعلوم أن “بريتان” كانت قد شاركت في عملية الهجوم على إحدى ثكنات الجيش التركي قبل حرب الجنوب (عملية ثكنة روباروك)، فأصيبت بجروح أثناءها. ظلت “بريتان” تفتخر بجروحها قائلة: “كم أبدو بذلك جميلة، وكم تليق بي جروحي، لأنها رمز الجرأة والكدح والتحرر!”.
وهكذا تكون قد جسدت مقولة قائد الشعب الكردي “عبد الله أوجالان” في شخصيتها أفضل تجسيد، حيث قال: “مَن يحارب يتحرر، ومَن يتحرر يصبح جميلاً”. كان “عبد الله أوجالان” قال عنها حين سمع بكيفية شهادتها “إنها جان دارك الكردية”. فقد غيَّرت مجرى الحرب بكيفية شهادتها هذه، وحددت مبادئ وملامح مستقبل حركة حرية المرأة.

خيال بريتان يتحقق: تجيش المرأة
كانت بريتان حين تتجول على قمم سلسلة جبال خاكوركة تقول: “ليت يأتي ذاك اليوم الذي تتجول فيه مئات، بل آلاف الفتيات المناضلات على سفوح هذه الجبال، ليرسمن بذلك مسيرة الحرية. وليتني أرى ذلك اليوم. إن هذا أكبر خيال لي”. ولم يمرّ سوى بضعة أشهر، حتى بدأ خيالها يتحقق. فقد طرح القائد “عبد الله أوجالان” مع بدايات العام التالي 1993 مشروع “تجيش المرأة” رداً على شهادة الرفيقة “بريتان”، وتكريماً لها ولنهج المقاومة الذي مثَّلته في شخصيتها، وتحقيقاً لخيالها هذا.
وهكذا بدأ تطبيق هذا المشروع مباشرة، بتشكيل الوحدات النسائية شبه المستقلة والمتمتعة بخصوصياتها. حيث تدير شؤونها بذاتها، وترسم التكتيكات العسكرية، وتقوم بالعمليات العسكرية ضد العدو التركي بذاتها، وتقرر كل ما يتعلق بها عسكرياً بذات نفسها، دون تدخُّل من الرجل. وهكذا تم إبراز هوية المرأة وتفجير طاقاتها العسكرية الدفينة وصقل إرادتها أكثر في مجالٍ لطالما عُرِف أنه حكرٌ على الرجل فحسب. كانت هذه بداية تاريخية غير مسبوقة، تكرست في صفوف حركة المرأة الكردستانية انطلاقاً من “نهج بريتان” الذي تحول إلى صدى لأصوات آلاف الفتيات المناضلات المتعطشات للحرية، ونبضاً لقلوبهن المتمردة المنتفضة.

نهج بريتان
لقد وَجّه “نهج بريتان” رسائل واضحة إلى الجميع: ينبغي مكافحة نهج الاستسلام أينما كان ومن أينما جاء، وينبغي الاعتماد على القوة الذاتية في المقاومة، وعدم التعويل على أيٍّ كان، وبذلك يمكن توجيه الصفعة الحادة والضربة القاضية لأصحاب الصمت المخذل والتفرج المخزي تجاه ما يجري من انتهاك لحقوق الإنسان والشعوب.
وقد تلقت العديد من المقاتلات الكرديات هذه الرسالة، وتجاوبن معها، ولو بعد سنين. وهكذا برزت هوية “آرين ميركان” في مقاومة كوباني” أثناء قتالها ضد عصابات “داعش” الظلامية، وبرزت هوية “آفستا خابور” في مقاومة العصر في عفرين أثناء قتالها ضد الجيش التركي الفاشي ومرتزقته العميلة.
وكنتيجة، فإن قدَر ومستقبل البشرية اليوم يكمن بين يدَي المرأة بالتحديد. فكلما تشبثت المرأة بالنضال، وكلما نظّمت صفوفها، وكلما حوّلت معارفها ووعيها إلى كفاح منظّم ومتراصّ، فإن فرصة تكريس الحياة الحرة والديمقراطية ستزداد أكثر، وسيعمّ الرخاء والنعيم والرفاه في عموم الكون أكثر.

مذكَّرات بريتان
أما دفتر مذكَّراتها الذي لم تكُن تهمله أبداً، والذي حوّله رفاقها إلى كتاب مؤلف من 184 صفحة، تحت عنوان “الحرية، زهرتي البرتقالية الأسطورية”!؛ فكانت تشمل الكثير من المواضيع والأفكار، بدءاً من وصف حياة الكريلا والنشاطات التي كانت تقوم بها “بريتان”، مروراً بعواطفها وحنينها، وصولاً إلى صراعاتها وتمرداتها وآمالها… أحياناً كانت تكتب مخاطِبةً خطيبها الذي صار مناضلاً مثلها قائلةً: “لا يصعب عليّ الموت. لكنّ ما يعزّ عليّ هو أن أموت دون أن نجلس سويةً ذات ليلةً نتفرج فيها ثانية على سفوح هذه الجبال حين تستيقظ من نومها!”.
وفي مكان آخر تقول: “الحنين إليك ليس إثماً بالتأكيد. لكن الإثم الحقيقي هو أن يتمكن حنيني إليك من شلّ عقلي. لذا، فإني أشتاقك من دون أن أرتكب هذا الإثم”. وقُبَيل حلول عيد نوروز لعام 1992 كتبت مخاطبةً هذا العيد: “وهل لدى الكريلا ما هو أغلى من سلاحه ونضاله؟ أحييك أيها العيد بحرارة النضال وبكرامة السلاح”.

بريتان الشاعرة
ومن أجمل الأشعار التي دوَّنَتها بريتان في مذكرتها: “ثمة أغنية مُرّة بين شَفَتَي… ما الذي أضَعتُه في ضحكتي؟ ما الذي لا أبلغه رغم مسيري واعتقادي باقترابي منه؟ ما الذي كلما لمَستُه تحوَّل سراباً وضباباً؟ ما الذي أعجز عن تسميته؟ ما الذي أُطلِق عليه اسماً من دون أن أعرفه أو أراه؟”.
ومن أكثر أشعارها غرابةً هو: “لا أدري… تقول لي أنك تكمن في الفجر… تناديني: خذي عقلي وفؤادي… لا فائدة اليوم من الكتابة والتفكير… إني أحمل الأسى في عقلي… ثمة حزن عميق في تجاعيد ذهني… ثمة غرابة في صوتي… آهٍ منكِ يا مشاعري البورجوازية الصغيرة!”.
ولعل مِسكُ الختام يكمن في هذا الشعر الرائع للشهيدة بريتان:
ألسنا نحن مَن يحرث الأراضي الجائعة
كي نشبع؟
ألسنا مَن يخوض الحروب القبيحة
في سبيل الجمال؟
ألسنا مَن يعشق في ظل السلاح؟
ألسنا مَن يعقد صداقاته في بحر الموت؟
إذن، فالموت لَم يَعُد يُخيفنا
إذن، فالغد الحر بات قريباً
قاب قوسين أو أدنى
إذن، فنحن على وشك الوصول
إلى بر الأمان والحرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى