تقارير وتحليلات

المرأة الكردية.. من أين وإلى أين؟|| المؤامرة الدولية وتأسيس حزب المرأة (الحلقة الرابعة عشر)

قُبَيل انطلاق المؤامرة الدولية على أوجالان:

كانت الدولة التركية قد أعلنت عام 1998 عن نفاذ صبرها حيال سوريا، وأنها تستعد لشن الحرب عليها، بعد تكثيف تحصيناتها وتعزيزاتها العسكرية على حدودها مع سوريا. وقد أتت هذه الخطوة ترجمةً عمليةً لاتفاقية واشنطن السرية (17 أيلول 1998) بين أمريكا وتركيا، بهدف التدخل في المنطقة. هذا ما أدى بقائد الشعب الكردي عبد الله أوجالان إلى الخروج من سوريا في 9 تشرين الأول 1998، لإفراغ مخطط القوى الحداثوية الرأسمالية والإمبريالية العالمية، ولإفشال مساعيها التي ترمي إلى جعله -هو وحزبه- ذريعةً للتدخل في منطقة الشرق الأوسط ابتداءاً بسوريا. رغم ذلك، فإنه ثمة قناعة تامة وحقيقة قائمة تشير إلى أن اتفاقية واشنطن التي أدت إلى خروج أوجالان من سوريا، كانت تشكل أولى الخطوات الملموسة للمؤامرة الدولية الشنيعة التي انتهت باختطاف أوجالان وتسليمه إلى تركيا في 15 شباط 1999.

وقد أدركت الكثير من الفتيات الكرديات في روجافا –مثلما هي حال الشعب الكردي أينما كان- خطورة هذا الأمر، ما دفع المئات منهن إلى الانضمام إلى قوات “الكريلا” على ذرى جبال كردستان الشماء، ليكون ذلك جواباً ملموساً وضربة قوية في وجه القوى المنفّذة للمؤامرة الدولية. هذا عدا عن الذين أضرموا النار في أجسادهم رجالاً ونساءً في العديد من البلدان، احتجاجاً على تلك المؤامرة الشنيعة. كما أدركت المناضلات الكرديات خطورة الوضع أيضاً، فصيَّرن أنفسهنّ طوقاً من النار حول قائدهن بعملياتهن الفدائية بعد خروجه من سوريا. ففي 17 تشرين الثاني 1998 نفّذت الشهيدة روجبين (فاطمة أوزان) عمليتها الفدائية. تلتها شهادة بنفش (حسينة أوروتش) في 1 كانون الأول 1998، ثم استشهدت بروار (حمدية كابان) في 24 كانون الأول 1998.

وقد كانت الشهيدة روجبين رفيقة عربية من سكان لواء اسكندرون. حيث انخرطت في صفوف الثورة الكردية عام 1993. وفي رسالتها التي كتبتها قبل شهادتها تقول: “قائدي… أود أن أكون رفيقة درب حقيقية لكم، في الوقت الذي تسعى فيه كل القوى الدولية إلى فرض الوحدة عليك وإلى عزلك عن المرأة التي طالما دأبتَ على أن تكونَ صديقاً لها. وبما أن تلك القوى تستهدفك بغرض التدخل في الشرق الأوسط، فإنني كمقاتلة شرق أوسطية أود أن أعرب عن رفاقيتي الحميمية لكم عبر عمليتي الفدائية هذه. وكلي ثقة بأن النصر سيكون حليف البشرية والمرأة، أي حليفكم وحليف نهجكم”.

سما يوجه.. تجسيد راديكالي لأيديولوجية حرية المرأة:

من جهة ثانية، كان قد تم إعلان “أيديولوجية حرية المرأة” في 8 آذار 1998 إكراماً للشهيدة “زينب كناجي/زيلان”، التي اعتُبِرَت المنظِّر الفكري لمبادئ ومعايير هذه الأيديولوجية، والتي نفَّذت عمليتها الفدائية في مدينة ديرسم بتاريخ 30 حزيران 1996، وقتلت على إثرها العشرات من الجنود الأتراك. أما شهادة “سما يوجه” في نفس العام الذي شهِدَ إعلان أيديولوجية حرية المرأة، فاعتُبِرَت أول تجسيد عملي ملموس عن مدى تعمق المرأة الكردية في هذه الأيديولوجية.

سما يوجه على اليمين وزيلان (زينب كناجي) على اليسار
سما يوجه على اليمين وزيلان (زينب كناجي) على اليسار

حيث يتبين من رسائل الشهيدة “سما يوجه” أنها خاضت صراعاً شديداً في داخلها، فباتت رمز الصراع الذاتي لأجل التوجه نحو تجسيد نموذج المرأة الحرة. وتَصوغ ذلك في إحدى رسائلها بقولها: “إن الصراع الداخلي الذي خضتُه هو في النتيجة تعبير عن تشبثي بالحرية، وعن طموحي للتخلص من الخصائص التقليدية المعشعشة في ذهنيتي”. إنها قمة الجرأة في أن تتغلب المرأة على كل ما يعيق تحررها انطلاقاً من ذاتها أولاً، بدءاً من الجوانب العاطفية غير المسَيَّسة، وصولاً إلى التغلب على الأنانية وإلى نسف الأحكام الوضعية المعششة في الذهنية. وقد عبَّرت سما عن ذروة الصراع الذاتي داخلها في “لحظة” قيامها بعمليتها الفدائية، لتخلق ذاتها من “رماد”ـها. إنه قمة التعبير الجريء عن مبدأ “الإرادة الحرة” في أيديولوجية حرية المرأة.

سما يوجه
سما يوجه

لا توجد شمسان في سماء واحدة:

تتطرق “سما يوجه” في إحدى مذكّراتها إلى عُمق ذلك قائلةً: “ثمة الملايين من الناس، رجالاً ونساءً، يستهلكون ذواتهم ويَفنون بعضَهم بعضاً بأرخص الأشكال ضمن حياة عادية تطغى عليها العادات البالية. لطالما أتعمق على كيفية التشبث بجوهر أصيل في ذاتي، لأبني ذاتي مجدداً ولأغدو بذلك ضماناً لنجاح المرأة وانتصارها على ذاتها الضعيفة. فكيفما أنه لا يمكن أن تتواجد شمسان في سماء واحدة، فبالنسبة لنا نحن النساء أيضاً، لا يمكن أن يكون لنا مركزان فكريان أو بؤرتان سياسيتان مختلفتان في سماء حريتنا. فإما أن نختار ذواتنا الضعيفة الهزيلة ونغرق في أنانيتنا الهشة، أو أن نختار الشمس العليا ونتغلب على شخصياتنا التقليدية. وأنا قد اخترت الشمس التي تتجسد في فلسفة وفكر قائدنا أوجالان”.
لقد أحست “سما يوجه” بثقل عبء التناقضات التي تذهب بجذورها إلى آلاف السنين حصيلة سيادة الذهنية الذكورية السلطوية في كافة مجالات الحياة. وتوصلت بوعيها التاريخي والسياسي والفكري العميق إلى نتيجةٍ مفادها حتمية الصراع تجاه ما تشربته شخصية المرأة من خصائص لا تعود إليها أصلاً، بل تعود إلى الذهنية الذكورية السلطوية التي تأسست بناءً على محاربة المرأة وسرقة كل مكتسباتها واغتصابها وسلب حريتها وحقوقها.

نار “سما يوجه” تحرق وتخرق السجون التركية:

وباعتبار أنها كانت معتقَلة في السجون التركية، فقد شعرت في الصميم بتداعيات الحرب الخاصة التي تقوم عليها السياسة التركية في مواجهة الشعب الكردي عموماً والمعتقَلين الكرد السياسيين خصوصاً، وأهدافها في تكريس روح الفردية والأنانية لديهم كسبيل وحيد للخلاص والانعتاق من الأسْر. وقد قالت في إحدى رسائلها: “لطالما عشقت الحرية. وربما لأجل ذلك لم أَعتَد مواجهة المشاكل بنحو روتيني. بل شعرتُ بثقلها من الأعماق، وعانيتُ صعوبات جمة نتيجة ذلك لدرجةٍ كنت أشعر أحياناً في هذا السجن وكأنني مصابة بمرض عضال يتسبب لي بنزيف شديد. لذا، فقد قررت أن أصبح مناضلة الحرية. وستتحول النار التي سأضرمها في جسدي إلى جسر يربط بين نار عيد المرأة العالمي وبين نار عيد نوروز”.
وهكذا أضرمت الشهيدة “سما” النار في جسدها عام 1998، لتصير بذلك اسماً على مسمى، وتتحول إلى سماء عالية في آفاق حركة حرية المرأة الكردستانية، من خلال إرادتها القوية وجرأتها العالية في مواجهة ذاتها وبناء شخصيتها بإرادة فولاذية ونارية.

فكري باي كلدي: “أنا مقاتل تحت إمرة المرأة الحرة”

بعد ذلك نفّذ “فكري باي كلدي” أيضاً عمليته الفدائية، فصار هو و”سما يوجه” توأماً فكرياً وروحياً في تاريخ الحركة. كان “فكري باي كلدي” قد كتب في رسالة له قبل استشهاده قائلاً فيها: “أنا من عائلة ميسورة من بلدة ليجة التابعة لمدينة آمد/ديار بكر. زُجَّ بي في سجن “سكاريا” في تركيا، ثم نقلوني إلى سجن “إستنبول” ثم إلى سجن “جاناك كالا”. إن عشقي لقائدي هو منطلَق للعشق النبيل لشعبي والشهداء خصوصاً ولكل الإنسانية والشعوب عموماً. ذلك أنك قائدي تُشكِّل حصيلة كل هؤلاء، وتجسده في ذاتك كقائد حكيم وفذ. بالتالي، فأنت لا تمثل فرداً فحسب. بل تمثل المجتمع. ولذلك تستهدفك القوى الإمبريالية وامتداداتها بهذه الوحشية، وتخاف منك ومن فكرك وفلسفتك. لذا، فإنك تجسد العشق المجتمعي الحقيقي والحر، وخاصة فيما يتعلق بقضية حرية المرأة. وعليه، فإنني أَعتَبِر “المرأة الحرة” قائدةً معنوية لي، وأنا مقاتل تحت إمرتها”.
إنه تعريف جديد لمصطلح العشق، الذي طالما شغل بال البشرية منذ فجر التاريخ وحتى اليوم، والذي رغم كل ذلك ظل مفتقداً للتعريف السليم والشامل الذي يعبّر عن جوهره الحقيقي. هذا التعريف الجديد للعشق من قِبَلِ “رجل”، إنما يشكل “ضربة قوية” ضد “الرجولة الرجعية والسلطوية” السائدة، والتي تتعمد تضييق إطار العشق فتحصره فقط بين الجنسين بعد أن تُشَوِّهه وتُفرغه من محتواه الأصيل، ثم تُروِّج له عبر الآداب البخسة بعد تعميم “تسليع المرأة” و”خصي الرجل”. ولطالما نجد أمثلة ذلك في تاريخ الشرق الأوسط. فحين يفقد “العشق الفردي” معناه، ينصرف العاشق إلى “العشق الصوفي” النبيل. ولذلك نجد أنه ثمة الكثير من الشعراء الذين اشتُهروا بأشعارهم الراقية حصيلة ذلك في هذه المنطقة. بالإضافة إلى الكثير من الحكماء والفلاسفة والصوفيين والنُّسَّاك، الذين انعكفوا على التجوال في أرجاء العالم بحثاً عن الحقيقة بهِمّة “العاشق”.

فكري باي كلدي العاشق

إلا أن “فكري باي كلدي” لم يتوجه إلى تنفيذ عمليته الفدائية بسبب الإصابة بالإحباط في عشقه لـ”سما يوجه”. بل نفّذها نتيجة تفضيله السير على درب “عشق المعرفة” بهدف الوصول إلى أسرار الكون بصفته “عاشقاً روحياً” متشبثاً بطموحات شعبه وبآمال الشهداء التي بقيت منتصفة، وذلك كرمى للحرية الحقيقية. أي أنه تخلى عن “الجسد الفاني” في سبيل إحياء “الروح العاشقة”، متَّخذاً من المرأة الحرة معياراً أساسياً له. بمعنى آخر، فقد حارب “عقدة الرجولة” التي فيه، وحاول حلها وتحليلها، ليحدد لنفسه بذلك معايير العشق الحقيقي من وجهة نظر “الرجل الحر”.
لذلك قال عنه القائد “عبد الله أوجالان”: “إنني أَعتَبر استذكار الرفيق فكري باي كلدي واجباً عليّ. ذلك أنه أعطى “اللحظة” معناها الحقيقي في أوانها. وهذا ما اقتضى منه بذل الجهود العظيمة ونكران الذات بجرأة وفداء. ثم إنه أبدى أقصى درجات الاحترام تجاه المرأة حينما عَرَّفها بأنها قائدة له وأنه مقاتل تحت إمرتها. وهذه هي أقصى درجات العَظَمة التي قد يصلها الرجل”.
هكذا، وبينما شكَّلَت الشهيدة سما يوجه تجسيداً عملياً لأيديولوجية حرية المرأة، فإن الشهيد فكري باي كلدي جَسَّد نموذج الرجل الحر الذي يسير كمقاتل عاشق على هدى هذه الأيديولوجية. وهذا ما أدى بحركة حرية المرأة الكردستانية إلى التفكير ملياً ودراسة كل هذه التطورات والحالات، للرد عليها بخطوة ملموسة تمثل استذكاراً استراتيجياً للإرث النسائي النضالي المتراكم على الأصعدة الكردستانية والشرق أوسطية والعالمية. وقد تجسدت هذه الخطوة الملموسة في مشروع تأسيس “حزب المرأة”، والذي طرحه القائد عبد الله أوجالان قُبَيل اختطافه واعتقاله وتسليمه إلى تركيا بمؤامرة دولية فريدة. فلماذا رأى أوجالان وحركة حرية المرأة الكردستانية الحاجةَ الماسّة لتشكيل وتأسيس “حزب المرأة”؟ للرد على هذا السؤال الحيوي، لا بد لنا أولاً من إلقاء نظرة تاريخية على موضوع “الحزب والتحزب”.

قراءة تاريخية في مسار تشكيل الأحزاب

لقد تأسست النظم الذكورية السلطوية على حساب قيم المجتمع الطبيعي وإرثه النسوي التاريخي العريق. إلا أن هذا الإرث الذي يشكل “الخلية النواة” للمجتمع، لم يَفنَ رغم كل الهجمات وحالات القمع واللصوصية والإنكار وقصف الأذهان على يد تلك الأنظمة الذكورية. ذلك أن الخلية النواة لا تزول، بل تبقى على الدوام عن طريق الصراع العتيد والمستدام، والذي تَجَسَّد في نضال الشرائح المسحوقة تجاه كل ما يهدد وجود تلك “الخلية النواة” بسبب أجهزة السلطة والدولة الهرمية والعنفية والحربية. وإذا كان هذا الصراع قد قطع مسافة ملحوظة على هذا الطريق، فإن هذا قد حصل بفضل تشكيل “الأحزاب” والحركات التنظيمية الجدية، التي عرِفَت كيف تقرأ الأحداث التاريخية والمرحلية بعين سليمة، وأدركت أهمية التنظيم في سبيل الوصول إلى أهدافها عبر صياغة استراتيجية وتكتيكية سديدة، واعتماداً على القوى والديناميات المجتمعية الذاتية.
إن أول تحالف في التاريخ كان تحالفاً ذكورياً ماكراً منيعاً وأقرب إلى أن يكون “حزباً” ضد المرأة. حيث اعتمد على تشغيل الغير وفرض التبعية والطاعة العمياء عليهم، وخاصة على المرأة. بمعنى آخر، فإن أول “حزب” كان قد تشكل على الضد من إرادة المجتمع، واعتماداً على القمع والرياء والتسلط والعبودية. استمرت هذه الحال لآلاف السنين على حساب المجتمع عموماً والمرأة خصوصاً، متسببة بالانكسارات الثقافية والمجتمعية، إلى أن وصلت في يومنا الراهن إلى درجة خلق “المجتمع الاستهلاكي” و”المجتمع المخصي” و”المرأة السلعة”، عبر التأسيس الوطيد للأنظمة الذكورية السلطوية الربحية العنفية.

كفاح البشرية ضد ظاهرة “الأحزاب الذكورية”

ظلت البشرية تناهض هذه الأنظمة و”أحزابها” الذكورية على مر العصور. لكنها بالمقابل بقيت تفتقر إلى تنظيم صفوفها بالدرجة التي تخولها لتحقيق الانتصار الاستراتيجي والجذري عليها. فما فتئت تعاني التشتت، وتتعرض للانكسار والقمع، أو تحقق انتصارات مؤقتة سرعان ما تزول وتندمج ضمن الأنظمة السائدة. ولعل من أفضل الكفاحات التي شهدتها البشرية في هذا السياق هي مؤسسة “النبوّة”، التي هي أقرب ما تكون إلى “الحزب” في عهدها. حيث يتم تحديد “البرنامج” وتشكيل “الكوادر” الريادية اللازمة لتحقيق التحول المجتمعي المأمول. وعندما عانى كل دين من الانحراف عن مساره الأصلي، تشكلت المذاهب الباطنية والصوفية التي سعَت إلى الحفاظ على الجوهر مهما كلفها الثمن. إلا أن مرحلة “السبات” التي مرت بها هذه المؤسسات النبوية بأديانها ومذاهبها، وخاصة في منطقة الشرق الأوسط، أثرت سلباً في المجتمعات، فسجّلت نقطة لصالح الأنظمة الحداثوية الرأسمالية، لتتحول راهناً إلى “أداة” لتكريس مصالحها البراغماتية المضادة للشعوب.
أما في عصر الحداثة الرأسمالية، فقد تولّدت فرص ثمينة أمام المجتمعات لتشكل أحزابها ومؤسساتها، ولتخوض الصراع المرير ضد النظم الذكورية السلطوية الحاكمة. إلا أن أغلب الأحزاب التي تشكلت في تلك الفترة كانت ذات طابع بورجوازي، فاستغلت تلك الأحزابُ البورجوازية ثوراتِ شعوبها، لتسخّرها في خدمة مآربها هي كطبقة تطمع في السلطة. مقابل ذلك، فإن أجهزة السلطة التي اكتسبت –هي أيضاً- مهارات فائقة، باتت تتبع أساليب دقيقة وخفيّة في تمرير مصالحها وتكريس ذاتها متلونة بألف قناع وقناع. بل وكثيراً ما كانت تفعل ذلك باسم الشعوب والثورات والديمقراطية والعدالة و”مكافحة الإرهاب”!.

الكفاحات الحزبية الراهنة:

لعل من أهم التجارب التي تستحق التوقف عندها هي تجربة “الأحزاب الماركسية”، التي شكّلت أملاً عظيماً للشعوب المسحوقة. إلا أن نقاط الخلل الأساسية التي عانت منها النظرية الماركسية وأحزابها، كانت كافية لتؤدي بها إلى الفشل حتى ولو بعد سبعين عاماً. وبما أن هذا المقال ليس معنياً بدراسة أسباب انهيار الاشتراكية المشيدة، فسيكون من الأفضل التوقف عند أهم نقطة خلل عانت منها هذه النظرية. ألا وهي موضوع تناولها لقضية حرية المرأة. حيث، ورغم التحليلات النظرية السديدة التي طرحتها في هذا الشأن، إلا أن عدم ترجمتها إلى خطوات ملموسة ومتجسدة في كيانات منيعة، كان كافياً لوضع الديناميت تحت هذه التجربة، رغم البطولات العظيمة والتضحيات الجسيمة التي قدمتها الشعوب في سبيل نيل حريتها.
ومن أهم الأحزاب العصرية التي درست تجربة الاشتراكية المشيدة واستفادت من سلبياتها وإيجابياتها على السواء، هي تجربة “حزب العمال الكردستاني PKK”. حيث تجاوزت تجربةُ PKK إطارَ الحزب التقليدي، وربطت بين طراز النضال وفلسفة الحياة وذهنية المناضل وشخصية الكادر الثوري. كما لم يرتب PKK شؤون النضال بنحو منقطع عن بعضه البعض، بل تناوَلَ كل مجالات الحياة بشكل مترابط ومتداخل أفقياً وعامودياً، تماماً كما شبكة العنكبوت. فكان بذلك أول حزب يسجل بدايات استراتيجية غير مسبوقة. ولعل من أهم تلك البدايات غير المسبوقة هي إعلان “أيديولوجية تحرر المرأة”، والذي أدى إلى تحقيق الانفتاح النسائي الكمي والنوعي المميز. وهذا ما حَثّ بدوره على خطو خطوة أخرى نحو الأمام على صعيد حرية المرأة، من خلال الإعلان عن “حزب المرأة”.

حزب المرأة: بداية كردستانية أخرى في نضال حرية المرأة

وقد عبّر القائد عبد الله أوجالان عن هذه الحقيقة قائلاً: “كل خطوة جديدة تعني تحطيم التابوهات (المُسَلَّمات). وقد اتَّبَعنا نحن ذلك كمبدأ محوري لا حَيد عنه. ولعل هذا ما جعل شخصيةً نبيلة مثل الشهيدة زيلان تخرج من صُلب حركتنا الثورية. فمن خلال تحرر المرأة أثبَت حزبنا جوهره بأفضل الأشكال. وعليه، فإن تأسيس الحزب النسائي الثوري المرتكز إلى أيديولوجية حرية المرأة هو خطوة تاريخية. لكنه لا يقتصر فقط على تناول شؤون المرأة. فمثلما أنه يتناول موضوع المرأة وقضاياها، إلا أنه يدرس ويعالج القضايا الاجتماعية العامة أيضاً. فهو خطوة بالغة الأهمية والضرورة على صعيد استتباب السلام المستدام وتحقيق التحول الديمقراطي في المجتمع وإعادة جوهره الحقيقي إليه، وعلى صعيد تمكين الوئام مع الطبيعة ووقف الحروب والعنف. وعليه، فمثلما أنه للاشتراكية أحزابها، فمن الضرورة بمكان أن يكون للمرأة أيضاً حزبها الثوري”.
هكذا تأسس “حزب المرأة العاملة الكردستانية PJKK” عام 1999 كحاجة ماسّة للرقي بمستوى نضال المرأة الكردية، وكضرورة عاجلة للتمكن من معالجة قضايا جميع نساء الشرق الأوسط والعالم أيضاً. ومنذ ذاك العام وحتى يومنا تَغَيّر اسم حزب المرأة الكردية تماشياً مع الأحداث المرحلية، ليصبح اسمه في عام 2000 “حزب المرأة الحرة PJA”، ثم ليستقر في عام 2004 وحتى يومنا الراهن على اسم “حزب حرية المرأة الكردستاني PAJK”.

لماذا حزب المرأة؟

هكذا ركزت المرأة الكردية في برنامجها على توضيح معاييرها الأساسية وثوابتها الفكرية وقناعاتها المشتركة، وعلى كيفية تطبيق كل ذلك على أرض الواقع. وتناولت سُبُل الكفاح ضد كافة التيارات التي قد تستهدف الوحدة الوطنية ووحدة المرأة. وتعمقت في نقاشاتها حول كيفية تكريس أيديولوجية حرية المرأة على الصعيد الكردستاني، وحول كيفية مشاطرتها استراتيجياً مع النساء على الصعيدين الشرق أوسطي والعالمي أيضاً.
أنْ تؤسس المرأة حزبها إنما يعني أن تؤسس كوادرها اللواتي يعملن معاً بتواصل واستمرار من أجل خدمة المجتمع لجهةِ توعيته وتعبئته وتنظيمه وتلبية حاجاته الفكرية وتمكين التحول الديمقراطي فيه بعين المرأة وبطابعها. وهذا ما افتقرت إليه الحركات الثورية عموماً والحركات النسوية خصوصاً في القرون الأخيرة. وعليه، فإن هذه الخطوة تُعتَبَر قفزة نوعية واستراتيجية فريدةً تستحق فعلاً دراستها والاستفادة منها وتعميمها على المستوى الشرق أوسطي بالدرجة الأولى، بعد تكييفها مع خصوصيات كل بلد.
فبذلك فقط تستطيع المرأة أن تصبح إرادة حرة، بحيث تَبُتُّ في كل شؤونها، وتؤثر في الشؤون العامة برؤيتها هي. وبذلك فقط تتحول المرأة إلى قوة تنظيمية صارمة تؤثر في رسم المسار المستقبلي لها ولبلدها وشعبها. وهذا ما يُعَدّ تدبيراً وقائياً استراتيجياً لتجنب خطر تراجع منزلة المرأة في مراحل ما بعد الثورات، مثلما حصل في كل الثورات التي شاركت فيها المرأة بفعالية، لكنها رجعت إلى ما كانت عليه قبل الثورة.

اقرأ أيضا:-

المرأة الكردية.. من أين وإلى أين؟|| لماذا أيديولوجية حرية المرأة؟ (الحلقة 13)

بشرى علي تكتب: لماذا جيش المرأة؟ .. المرأة الكردية إلى أين (الحلقة التاسعة)

بشرى علي ..العمل النسائي أفضل كفاح ضد العنف الذكوري

الأنثى هي الأصل بقلم :بشرى علي

المرأة “أمُّ الدنيا” بشرى علي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى