ثقافة وفنونكتب ودراسات

المشترك الإبداعي في قصة المنيا القصيرة

من المستحيل أن تنبئنا قصة واحدة بكل امكانيات الكاتب، فهي إما أن تكون عَرَضاً زائلاً عند، أو بيضة الديك لإبداعه الذي قد تختلف به السُبل من بعد، لكنها بكل تأكيد تقدر علي الإشارة إليه من بعيد، طالما أنه ارتضي أن يُخرجها للقارئ، وأن تكون دليلاً يهمس بوجوده في مكان ما، ولحظة زمنية معينة.
كما أنها ـ القصة الواحدة ـ تشكل النموذج الذي يلجأ إليه القارئ في حال رغبته في التعرف علي أدب مكان ما في لحظة زمنية معينة، نموذج يشير أولاً إلي قدرة المكان، أو اللحظة، علي امتلاك هذا الفن، ثم يدل من بعد علي خصائصه وسماته ومكانته ومشكلاته ورؤيته لذاته وللعالم من حوله.
من هذا المنطلق تأتي قراءتنا للنماذج القصصية المتعددة لعدد من أدباء محافظة المنيا هي كالآتي ” عجوزان ” لمحمد عبد المنعم زهران، ” روائح الغرف الرمادية ” لمحمد سمير عبد السلام، ” مركب شراعي ” لمحمد عبد الحكم، ” المقدسة ” لموسي نجيب موسي، ” قصص قصيرة جداً ” لخلف كمال، ” الولوج ” لعلاء سيد عمر، ” دعني أعيش اللحظة ” لنجلاء غانم، ” السفر الأخير ” لسعيد عوض، فهل دلت هذه النماذج القصصية الثمانية، التي تشير إلي مكان واحد، ولحظة واحدة، علي وجود الفن به، حتى يتسنى استكشاف سماته ومشكلاته من بعد؟
أولاً.. يمكننا الإجابة بالإيجاب التام بضمير خالص، فهي نماذج، وإن اختلف مستواها الفني فيما بينها، تدل بوضوح تام علي امتلاك كتابها لمفهوم الفن القصصي، الذي يحاول استخدام تقنيات متعددة للسرد أن يهبنا حالات إنسانية متعددة أيضاً، قد تخص ذاتاً أو مجتمعاً أو مجتمعاً بأكمله، وأنها تمتلك الكثير من المقومات الفنية التي تخص هذا الفن السردي الضارب بجذوره في الحياة والتاريخ، من لغة سردية مكثفة، وأبنية فنية متعددة الأشكال، وتكثيف للحظات القص التي تعني بها القصة القصيرة، ونحت دقيق للشخصيات التي تدور في حالات خاصة بسمت خاص ينبئ عنها لكنه لا يهبنا تاريخها الكامل أبداً.

أما علي مستوي الشكل ففيما عدا قصة ” المقدسة ” لموسي نجيب موسي، لم يزد طول معظم القصص عن متوسط الثلاث صفحات، وهو طول مناسب جداً للحالات السردية، إن لم يكن نموذجاً للحدث القصير، أو الحالة الإنسانية التي تشير بأكثر مما تفسر، بحيث يأخذ السرد مساحته الكافية للتعبير والتعميق، وفي ذات الوقت لا يتأثر بالحكاية للدرجة التي نشم معها رائحة الروائي أو الحكاء القابع في الوراء، كما أنه لم يقل عن السطر الواحد في شكل القصة القصيرة جداً، والذي يمكننا اعتباره هنا في أقاصيص ” خلف كمال ” جملة تحمل معني جميلاً يمكننا تخيل القصة / الحالة / المفهوم الذي يقبع من ورائه.
ثانياً.. إن الإجابة الإيجابية التي واجهنا بها تساؤلنا السابق تفرض علينا الآن البحث عن سمات هذا الفن الذي امتاز به أدباء المنيا عن استحقاق كامل، وهي وإن كانت سمات عامة، تخص المشترك الإبداعي عندهم جميعاً، إلا أنها لا تنفي التمايز أبداً للقدرات الفردية عند كل مبدع، إنها سمات عامة تضع القاعدة التي يتأسس عليها ـ وينطلق منها ـ الإبداع، وتتحسس بأناملها علي المشترك، ثم تدع الحكم القيمي للقارئ، تُقدر الفن ولا يعنيها الحكم علي الكاتب طالما أنه امتلك أدواته الفنية، وتعلق بجناح طائر الإبداع ليحلق به في سمائه الخاصة.
العناوين
ثمة فلسفتان يعتمدهما الكاتب لاختيار العنوان الفني لعمله الإبداعي، يتمثل الأول في أن يأتي العنوان معبراً عن المضمون الذي يتم تناوله داخل العمل القصصي، وهو الاختيار الأكثر شيوعاً بين الكتاب، ربما لأنه الأسهل والأكثر اعتيادية منذ بدء تشكل السرد القصصي والروائي في مصر في بدايات القرن العشرين، بينما يتمثل الاختيار الثاني، الأقل شيوعاً، في أن يأتي العنوان معبراً عن رؤية النص، ورسالته التي يبغي توصيلها إلي المتلقي.

هكذا تراوحت عناوين القصص التي بين أيدينا بين الاختيارين، فقصة ” مركب شراعي ” لمحمد عبد الحكم، تقدم لنا حكاية ” أبو عجيبة ” مراكبي النيل الذي يستمد وجوده وتاريخه ومكانته من مهنته علي المركب الشراعي، والتي تُكسبه مع الوقت أهمية خاصة بين الناس علي اختلاف أعمارهم وأحوالهم ومكانتهم الاجتماعية، بل ويؤهله المركب لـ لعب دور وطني كبير حين يفرد علم مصر علي صاري المركب بحجم يملأ العيون والمدي، ملهباً بذلك حماسة الناس جميعاً، من عامتهم إلي المحافظ.
وكذلك أتي عنوان ” المقدسة ” لموسي نجيب موسي راوياً لحكاية المقدسة التي توزع بركاتها علي الجميع، المرضي والمحتاجون والعميان، في عطاء إلهي لا ينضب ولا ترتجي شيئاً، بينما يظل مكان خلوتها سراً مقدساً لا يقدر أحد من سكان القرية، ولا القري المجاورة الذين يأتون لنيل البركة، أن يكشفه رغم المحاولات المتعددة، ومع تعدد الحكايات حولها تتحول المقدسة إلي أسطورة، وتأتي النهاية لتؤكد علي هذا المفهوم، حيث يتحول جسدها ـ ربما عندما بدأ سر الخلوة في الانكشاف ـ إلي كرة ثلجية لا تقدر شمس أغسطس علي إذابتها، غير أنها تذوب من تلقاء نفسها وتتحول إلي شلال هادر من الدماء، يُغرق القرية كلها ويغطي أسطح المناول والأماكن المرتفعة من حولها متجهاً نحو قمة الجبل، لعله يطولها.
وبالمثل يأتي عنوان ” دعني أعيش اللحظة ” لنجلاء غانم، ليقص علينا حلماً لمخرج إحدى الفرق المسرحية مع بطلته وهي في لحظة نشوة تمثيلية، تخبره خلالها ـ عبر الرقصة التي دعته إليها ـ أنها تمتلك امكانيات تمثيلية أكبر من الدور الذي يرسمه لها، وأن هذه الامكانيات تحتاج إلي أن يُطلق لها الحرية في الأداء، لكي تعيشها بإحساس مكتمل، ويدور بينهما حوار عن العشق والعاشقين ـ ربما هو جوهر طبيعة الدور المطلوب تأديته منها ـ وينتهي الحوار بأن تطلب منه صراحة ألا يسلسل أداءها بتعليماته كمخرج، لكي تعيش لحظتها، وعندما يوقظه أفراد الفرقة من نومه يكون قد استوعب الدرس، الحرية أساس الحياة.



أما عنوان ” السفر الأخير ” لسعيد عوض فيقص علينا حكاية الموت، باعتباره السفر الأخير لأسرة بأكملها لم ينجو منهم سوي طفل رضيع، بعد أن خالفوا أوامر كبيرهم الذي كان يرفض أن يسافروا جميعاً في آن واحد، وكأنما كان يتنبأ بموتهم.

أما الفلسفة الأخرى لاختيار العنوان، والتي يأتي فيها معبراً عن دلالة النص، فيمثلها بدايةً عنوان ” روائح الغرف الرمادية ” لمحمد سمير عبد السلام، فهي تقدم لنا مونولوجاً داخلياً لشخص وحيد، يحمل النقيضين داخله وهو يرصد ذكريات حياته من خلال تفاصيل صوره العائلية، ويحاول ـ تحت وطأة السقف الذي حرقت الشمس أحد أركانه ـ أن يتذكر معلوماته عن تلك العائلة، فتبدو التفاصيل الصغيرة، المرعبة، التي شكلت علي مدار السنين تناقضه الحالي الرمادي، فبدت مثل غرف مغلقة علي روائحها القديمة، وقادرة علي كبت حريته، وأنه لا سبيل أمام طيور الكناري، للتحليق بعيداً عنها، سوي هدمها، روائح الغرف الرمادية ذكرياتنا القديمة الباهتة التي تحبسنا داخل روائحها، وتشكل ما نحن عليه الآن من تناقض، ولا سبيل أمامنا للتحقق سوي التخلص من غرفها الضيقة.
وكذلك تأتي عناوين القصص القصيرة جداً لخلف كمال، فعنوان ” نغم ” هو تعبير عن الاصرار علي الحرية لرجل كلما أرادوا كتم أنفاسه، عقد صفقة جديدة مع الريح، ليتنفس / يولد من جديد، و ” مسجد ” هو عنوان التمرد الذي يذكره دوماً بحلاوة المعصية، أو الخير الذي لن ينفي الشر أبداً، و ” مجد ” هو عنوان الحسرة التي تصيب الراوي بالبكاء الحارق علي الماضي العريق، كلما سمع نشيد بلاده ـ المنتمي إلي هذا الماضي ـ ورأي حالها المنكسرة الآن.
وبالمثل يأتي عنوان ” الولوج ” لعلاء سيد عمر، فهو وإن كان يحكي لنا قصة ولوج الأب الذي مات من فتحة القبر، وكيف أن الراوي / ابنه ولج منها قبله ليشارك الملحدين في دفنه، إلا أن دلالة الولوج تتركز تحديداً في السطر الأخير من القصة، لحظة خروج الراوي من فتحة القبر إلي براح الحياة، وكأنه يولد تواً من بين فخذيّ أمه، وكأنه لوج عكسي، ولوج إلي الدنيا وليس منها، رغم أن الحكاية الأساسية للنص هي الموت.
أما ” عجوزان ” لمحمد عبد المنعم زهران، فهو عنوان يحاول الجمع بين فلسفتيّ الاختيارين بحرفية شديدة، فالقصة تقدم لنا فعلاً حكاية عجوزين يعانيان من الوحدة المفرطة في نهايات عمريهما، بكل ما تحمله من مخاوف وهواجس وقلق لا يُفضي إلا إلي الموت، لكنها تقدم أيضاً نمطاً لتفكيريهما العبقري الذي يحاول التغلب علي محنة العجز لمواصلة الحياة، ويخلق ايقاعاً جديداً للقضاء علي الوحدة والصمت والقلق عبر كتابة مخاوفهما، كل في دفتره، ثم يتبادلان قراءتهما كل يوم، وهما يصران علي تحدي العجز، ومواصلة الحياة / استمرار جولتيّ المشي صباحاً ومساءً بابتسامة وفهم.

وهج البدايات والنهايات
تكتسب البداية أهميتها من كونها أول ما يُصادف القارئ من النص، فيقع عليها عبء تنفيره منها، أو الأخذ بيده للولوج إليها، والدخول المشوق إلي التفاصيل التي تليها، إنها نقطة البدء وباب الدخول إلي النص، النقطة التي يختارها الكاتب منطلَقاً لسرد تفاصيل حكايته، والأساس الذي سَيُشَيِّد من فوقه بناءه الفني من بعد، فكلما كانت مشوقة كلما كانت دافعاً وعاملاً مهماً لتكملة القراءة والتأثر بالنص، وللبدايات أشكال عِدَّة منها التأملية والشاعرية والحُلمية والحوارية والوصفية، وغيرها من الأشكال التي لا تُحصي، والتي يمكن للكاتب أن يخترعها كنقطة للانطلاق، لكنها في كل الأحوال والأشكال ستكون المفتاح الذي يلج الكاتب بنصه من خلالها إلي القارئ.

وقد نجحت معظم القصص هنا في أن تكون بداياتها عنصراً قوياً للولوج إلي عوالمها، فالبداية في ” عجوزان ” لمحمد عبد المنعم زهران تأتي علي هذا النحو ( تأرجح المقعد به في حديقة بيته.. وتأمل الآخر يتأرجح، على الناحية الأخرى، داخل حديقة بيته المقابل ) مجرد سطر ونصف، لكنه يحمل الكثير من الديناميكية التي تمثلها حركة تأرجح الكرسيان، ويحمل الكثير من التقابل الذي يشبه التضاد ـ رغم تماثله ـ في وجود العجوزين والبيتين في مواجهة بعضهما البعض، ويحمل الكثير من التشويق في كوننا لم نعرف بعد أسباب هذه المتقابلات، هل هو التشابه، أم التضاد، أم التحدي، أم العداء، أم المصير المشترك، هذا التشويق الذي يحمله وهج البداية هو ما سيدفعنا إلي تكملة النص، بعد أن يكون قد سلب انتباهنا ووجداننا إلي داخله تماماً.
وبالمثل تكتسب البداية في قصة ” دعني أعيش اللحظة ” لنجلاء غانم ذات الوهج المشوق، الذي يدفعنا دفعاً إلي قراءة النص ” سمع وقع الخطوات قادمة من نهاية القاعة، أدرك أنها هي دون أن يلتفت تجاهها، فهو يعرف خطواتها التي تشبه خطوات جندي في كتيبة ) إنها بداية تدخلنا إلي جوهر النص بشكل مباشر دونما تمهيد، وتحدد المكان دون تحديد طبيعته، وتهبنا تقابل عدة، رجل في مواجهة امرأة، سكون في مواجهة حركة مدربة ولها وقع معروف، مقدمة القاعة مركز الرصد في مواجهة نهايتها مركز الحركة والتقدم، وثمة معرفة تجمع بين الرجل والمرأة لم تتحدد معالمها بعد، وعليك كقارئ أن تكمل النص لتسبر أغوارها.
وبالقدر الذي تكتسب به البداية أهميتها للدخول بالقارئ إلي النص، تكتسب النهاية أهميتها من كونها آخر ما يتركه القارئ منه، وبالتالي آخر ما يقبع بداخل وجدانه وعقله من النص، فكلما كان قوياً ومؤثراً كلما بقي النص داخل القارئ وأثر في وجدانه، ودفعه للعودة إليه وتخيل تفاصيله، وصولاً إلي الامساك برؤيته التي هي مبتغى النص في الأساس، وبالتالي وصولاً إلي رسالته التي تتحقق من خلالها عملية التأثير والتأثر، علي هذا النحو جاءت معظم نهايات القصص حاملة لهذا الوهج الذي يترك تأثيره في المتلقي بعد انتهائه من عملية القراءة، فنهاية قصة ” عجوزان ” تحمل تصميماً لا يكل علي مواصلة قهر العجز والوحدة والخوف لمواصلة الحياة، ( بعد قليل نهضا بتثاقل، التقيا على رصيف الشارع، أعاد كل منهما الدفتر لصاحبه، وتبادلا الصحف وابتسامة فهم، وتحركا في بطء ليبدآ جولة المشي الصباحية )، ونهاية قصة ” المقدسة ” لموسي نجيب موسي تحمل تأكيداً للحالة الأسطورية التي سعي النص إلي ابرازها داخل نفوس العوام، وأنها ستكون سبب هلاكهم لا محالة، طالما ظلوا ينتظرون العطايا بلا مقابل يُأدونه، كما أنها تحمل عودة إلي نقطة بداية القصة، وكأن متن القصة كله إنما جاء تفسيراً وتأكيداً لها ( وظل انهمار السيل حتى غطي القرية بأكملها وكذلك غطي كل الأماكن المرتفعة وأسطح المنازل وأجهز على كل حي في القرية التي اضحت أطلالا في دقائق معدودات واتجه السيل نحو قمة الجبل عله يطولها هي الأخرى )، ويحمل موت ” أبو عجيبة ” في قصة ” مركب شراعي ” لمحمد عبد الحكم تخليداً له، ولحبه الخالص للوطن دونما انتظار لشيء من جاه أو مال، حب حتى في لحظة الموت التي ظل فيها ممسكاً بدفة الوطن الحقيقية، وعيناه علي رمزه / العلم ( حتى التصقت المراكب بمركبه، هناك وجدوه ميتا، يده على الدفة وعيناه منبلجتان ومحدقتان إلى علم مفرود بحجم الكون ).
الشكل والمضمون
الشكل هو الاطار الذي يختاره الكاتب لقصته، والطريقة التي يبني بها حكايته ليسردها إلينا، لذا تتحدد علي أساسه كل سمات النص الفنية الشكلانية، وتأثيراتها علي الأسلوب والطول رسم الشخصية والزمن والمكان والبناء الفني واللغة، أما المضمون فهو محتوي الموضوع، أو الحكاية التي يقصها الكاتب ويريد أن يوصل ورسالته من خلالها، أو يقدم رؤيته الذاتية أو المجتمعية أو حتى الكونية، وفيه تظهر سماته الأيديولوجية وانتماءاته العقائدية والأخلاقية، ولقد ظل المضمون مُحَدِّدَاً للشكل القصصي لعقود طويلة علي نمط ثابت، تمثل فيما عُرف بالمقدمة والمتن ولحظة التنوير، تم توارثه حتى أصبح عُرفاً متبعاُ، وتقليداً راسخاً، وعُدَّ الخارج عنه خارجاً عن قواعد الفن القصصي ذاته، حتى أن موجة الحداثة التي بدأت ارهاصاتها في ستينيات القرن الماضي اتخذته قاعدة تنطلق منها إلي أشكال أخرى، وأصبح كسر هذا الشكل النمطي هو المفهوم الأول للولوج إلي باب الحداثة التي أضحت مزاراً يحج إليه المبدعون، وباباً للتميز والاختلاف، ومنذ ذلك الحين نشأت في فضاء الفن والنقد القصصي اشكالية الشكل والمضمون، وظل الصراع قائماً إلي الآن دونما غلبة، أو قدرة لأحدهما علي نفي الآخر، فرغم الايغال المتسارع في تعدد أشكال ومدارس ونظريات الاتجاه الحداثي إلا أنه اضطر ـ من أجل البقاء والتأثير ـ إلي عدم ترك المضمون كلية، والاهتمام به باعتباره عنصراً مكوناً ومهماً للفن، العنصر الوحيد تقريباً الذي يبقي بعد انتهاء عملية القراءة، بل واتجه به نحو آفاق جديدة وواسعة من البراح الإنساني، فإذا كان عنصرا المتخيل والرسالة، التي يود الكاتب توصيلها إلي المتلقي، ينتميان إلي المضمون، فكيف يمكن الحديث إذن عن عدم أهميته، أو الاهتمام بالشكل فقط علي حسابه؟! وكذا الشكل التقليدي الذي ما زال قادراً علي أن يقدم أعمالاً قادرة علي احداث التأثير والروعة، اضطر إلي الأخذ بالأنماط المختلفة والمتعددة للشكل، بعد أن ثبتت قدرتها علي إحداث قدر أكبر من التأثير في وجدان القارئ، خصوصاً أثناء عملية القراءة، فإذا كان البناء الفني للقصة، وأسلوب السرد، ينتميان إلي الشكل، فكيف يمكن الحديث إذن عن عدم أهميته، والاهتمام بالمضمون علي حسابه؟! يتحدد الأمر بالنسبة لي في كون أنه إذا كان القول مهماً، فإن الطريقة التي يُقال بها مهمة أيضاً، وحاسمة في قبوله أو رفضه، وكما أن الطعام مهم لإعطاء الإنسان القدرة علي مواصلة الحياة، فإن طريقة تقديمة مهمة أيضاً للترغيب فيه، وقد تكون فارقاً أساسياً بين بدائيته وتحضره في الزمن، وعلي هذا الأساس يُشكل كل من الشكل والمضمون متلازمان أساسيان للفن الذي يبغي التأثير والخلود، فكلاهما يُضيف للآخر ويتحدد من خلاله، إن الدفتر الذي يدون فيه كل عجوز مخاوفه في الليلة السابقة، ثم يعطيه لزميله ليقرأه كاسراً بذلك حدة الصمت بينهما الناتجة عن عدم القدرة علي الكلام، وكاسراً أيضاً لإحساس الوحدة القاتل من خلال مشاركة الآخر لآلامه ومخاوفه، هو جزء أصيل من مضمون النص القصصي ” عجوزان ” لمحمد عبد المنعم زهران، لكنه فرض نفسه علي شكل النص ليكون جزءاً أصيلاً من بنائه الفني، قد يُصيب النص عوار شديد لو تم الاستغناء عنه.
القضية الثانية المتعلقة بإشكالية بالشكل والمضمون هي قضية الغموض، التي قد تتج عن الشكل عندما يتفتت البناء الفني إلي نتف متناهية في الصِغر رغم كثرة الأحداث، أو تتداخل الأصوات وضمائر الحكي بشكل يصعب تفسيره، كما أن الغموض قد ينتج عن المضمون عندما يغالي الكاتب في الايحاء والتجرد، ويفرط في استخدام الرموز الكثيرة، شديدة التعقيد والتراكب، دونما أن يعطي مفاتيح لفك الشفرة، متناسياً ـ وربما عن عمد ـ أن الوحدة والتناغم والوضوح مزايا تؤدي إلي توازن النص باعتباره فناً، علي ضوء علاقاته الداخلية ومدي انسجامها ودرجة تأثيرها، وهو الأمر الذي يحقق للنص كياناً مستقلاً في ذاته، ويكشف أيضاً عن الأسباب الكامنة في بنيته، وصولاً إلي الفهم الكامل له، والقبض علي دلالته ورسالته المنتظرة، من هنا نستطيع أن نشير إلي ذلك القدر الكبير من الغموض في قصة ” روائح الغرف الرمادية ” لمحمد سمير عبد السلام والذي صنعه تعدد الضمائر وكثرة الرموز وتداخلها والرغبة العارمة في التجريد بديلاً عن التجسد الذي يُقرب المعني، والذي هو مهمة الفن في المقام الأول.
القضية الثالثة هي اشكالية القصة القصيرة جداً، ووقوفها الدائم في تذبذبه بين القصة القصيرة والخاطرة، فإذا كانت القصة القصيرة جداً هي قصة الحذف الفني، والاقتصاد الدلالي، واللغة الشعرية، والموقف المفارق، أو المدهش، الذي يقوم علي إبراز التناقض بين طرفين كان من المفترض اتفاقهما في السياق الطبيعي، إلا أن السرد الذي يظلل عناصر القصة الرئيسية من مكان وزمان وشخصية وحدث يظل هو العنصر الفارق والقادر علي تمييز الفن القصصي عن غيره، والمتكأ الأساس في انتماء هذا النوع الأدبي إلي جنس القصة، وبدونه لا تصبح القصة القصيرة جداً قصة، بل خاطرة، أو جملة أدبية تحمل معنيً دلالياً ذهنياً، وهي الاشكالية التي نجدها جلية وواضحة في بعض نماذج خلف كمال القصيرة جداً، فنموذج ” عبره ” الذي يقول نصه ” كما ولدته أمه، على مفترق الطرق، يذكّر الناس بنعمة العقل ” من الصعب أن نتخيل من ورائه موقفاً قصصياً يقدر علي التأثير فينا، لأنه خلي من السرد الذي يهب النص هذه القدرة علي التأثير، لكننا نستطيع أن نجد له تناصاً قوياً مع القول المأثور ” خذوا الحكمة من أفواه المجانين ” لذا نحن هنا أمام جملة تحمل معني ذهنياً، قد يدعونا للتأمل لكنه لا يقترب من مشاعرنا أو وجداننا، ولا يلمس إنسانيتنا في شيء، علي عكس بقية نصوصه الأخرى إضافة إلي ” السفر الأخير ” لسعيد عوض، و ” عجوزان ” لمحمد عبد المنعم زهران ” و ” دعني أعيش اللحظة ” لنجلاء غانم، التي جاءت معبرة تماماً عن نموذج القصة القصيرة جداً في قدرتها العالية علي التكثيف الفني للحدث واللغة، والشعرية، والاقتصاد الدلالي علي مستوي الجملة وعلي مستوي الدلالة الكلية للنص.
* * *
ثمانية كتاب استمتعت كثيراً بقراءتهم، ويحق للمنيا أن تفرح بهم، كما يحق للفن القصصي أن يفاخر بانتمائه إليهم، وأن يطمئن إلي امتداده وتعدده بين أقلامهم التي لا أظنها ستنضب أبداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى