ثقافة وفنون

“بسام كيرلس” التجربة المعاصرة في النحت

توغل جمالي في تناقضات فوضى الواقع، ومداعبة بصرية لقيم الخلود الإنسانية

كتبت.. بشرى بن فاطمة

الطاقة اللامرئية عند أي مبدع هي تقنية مداعبة الواقع بالخيال، تلك اللمسة التي تفجر إحساس الفنان وتشحنه ليعبر عن موقفه من كل ما يحيطه وكل ما خزنه في ذاكرته، ولبسام كيرلس النحات والفنان التشكيلي اللبناني طريقته الخاصة في التعبير عن القضايا الانسانية حيث يثير المتلقي بوعي يحرك الفكرة من الفوضى فيرتبها بصدمة شعورية تنتاب الفلسفة والفهم والوجود والواقع والحنين والمخاوف هذه الفلسفة تبني لتهدم وتهدم لتبني في تناقضات شبيهة بالصدام مع الواقع لتعريته من أفكاره السطحية.

فلم يقتصر النحت عند كيرلس على مساحة واحدة أو تقنية واحدة فقد خاض التجريب والتجديد والبحث والابتكار فكرة وخامات حيث انطلق من انتمائه اللبناني لأرض تفوح بعطر الحضارات بروحه الإنسانية التواقة للعدالة رغم الحروب والدمار الذي كثيرا ما شكل عنصرا محوريا في أعماله فالعمارة هي العنصر الأساسي الذي لفت ذهنه وحواسه كصورة رسخت بمخيلته وهو ما حركه لتنفيذ فكرته التي جمعت النحت بالعمارة فالمباني والمدن والرموز المعمارية ترسخت  صورها في تعبيرات الأمان والاستقرار وقد قدم أعمالا مميزة حاكت المكان والانسان والجذور والانتماء عن لبنان والحرب الأهلية وعن فلسطين والصراع على القدس المدينة الرمز.

فموقفه من ذلك الصراع جسده بعمله الذي وظف قبة الصخرة للتعبير عن التناحر الدائر في الشرق الأوسط وعن تناقض الفكرة الهشة بين السلام والصراع بين الأمان والحرب مشيرا إلى القدس في علامة أشبه بالخراب كصورة تجرد الفكرة في تجاذباتها المكثفة بالعنف، معبرا عن الانتماء الإنساني الذي يتجاوز مساحة ذلك المكان في دلالاته التي تعني الإنسانية وعن هذا العمل يقول” الموضوع مستوحى من قبة الصخرة وهو من أبرز أعمالي واعتبره مفصليا في تجربتي كنحات فهذه القبة أصبحت رمزا للقضية الفلسطينية التي بدورها أضحت رمزا لمأساة الانسان المستضعف والمحطم أمام آلة الحرب المدمرة العمل يعكس مشاعرنا الإنسانية.”

في تجربة بسام كيرلس الكثير من القيم الفنية التقنية الجمالية والبصرية التي ارتقت ونهضت بالمحتوى والفكرة حيث جمعت البناء أو العمارة والنحت في تمازج تحمّل الموقف والمشاعر المتراكمة بين الذاتي والوجودي والواقعي فقد اختار النحت كمنطلق للبناء كي يتمكن من تشكيل حكايات الماضي مع انسجامات الحاضر وتناقضاته فبين التاريخ والأرض والسكن تتفجر الطبيعة في القوة الإنسانية التي تمزج الفكرة بالمشاعر وكأنها التربة التي تندمج مع الماء وتتمتن بالهواء والنار كصقل محمل بالهموم حيث الأساطير خالدة والمعمار واضح بمعالمه الباقية والمهدمة، وفي الفوضى والهدم فلسفة يجيد كيرلس تجريدها وتحويرها حفرها وصقلها بأبعادها الثنائية والثلاثية.

فقد وسم كل تقنية نحت ببصمته الخاصة التي وظفت الجماليات المتعلقة بالإنسان والخلود في الفكرة الفلسفية الجمالية لفن النحت والعمارة كما وظفها “هيجل” بالجمع بين الروح والخلود الذي يعني الإنسانية الغارقة في الأرض والتاريخ بزاد معرفي وحرفية فكل الأحجام يخضعها لتحولاته المزاجية ومشاعره المتفاعلة مع مواقفه فمن النحت الفراغي والفن النحتي الصالوني والنحت النافر والنحت الغائر تناغمات الحياة والوجود والواقع والرؤى الجمالية التي تجمع المادة بالفكرة والجسد بالروح والذاكرة بالتذكر والحنين بالمكان والزمان وهو ما يخلق التنوع والتفرد في تجربته وتعبيراته النحتية فهو يتعامل مع أعماله بابتكار وموهبة ومحبة صادقة التنفيذ تأخذه من الانطباع إلى التجريد والتشخيص والواقعية والمعاصرة بلمسات مدهشة تبعث في الخامات الحيوية والحركة والحياة من الحجر إلى الرخام والغرانيت والبرونز والطين والاسمنت تتجادل من النحت النافر والغائر تنعتق وتتعتق بالأسطورة لتحلق كطائر الفينيق المنفلت من صليبه.

إن أبرز ما يميز أعمال بسام كيرلس في العملية النحتية هو الجوانب الجمالية التي تصقل الفكرة بدرجات متفاوتة البناء في تجسيد المباني والعمارة انطلاقا من الرمز إلى عملية الهدم المادي والترميم الفكري التي تتناقض مع تعبيرات المكان والطمأنينة والسكن كرمزية تعكس تلك الصورة الطبيعية لفكرة المسكن التي تحتل المشاعر والوجدان الحنين والذاكرة غير أن المباني والعمارات في أعماله تبدو مهدمة ومحطمة بشكل يحول الفكرة من الأمان إلى الخوف تعبيرا عن السلام المفقود وهنا يحول الجماليات إلى مواقف إنسانية تجادل الرتابة في تذوق الواقع والوجود فالهدم عنده هي الحروب والفوضى والتهجير هي الابعاد وانقلاب المعايير الحياتية كمحامل تشحن المشاعر.

في نحت أعماله عدة أساليب من بينها النحت الناتئ أو النافر حيث يجتمع الرسم مع النحت وهنا يتبع أسلوب ينتظم جماليا ليتشكل على بعدين فيتشابه العمل مع اللوحة معتمدا على الظلال والايهام بالبعد الثالث حتى يساعد على التوغل في العمق من خلال توظيف المفردات التشكيلية وقد طوره بأسلوب حداثي معاصر فالسطوح تتشابك في تكويناتها.

?

تتباين الخامات وتتوافق مع الدورة الطبيعية التي تلامس الوجود في هندسات محبكة تجمل الفكرة وتحول الصدمة إلى فراغات مضيئة تبحث عن الاكتمال بالأمل في عفوية تتشبث بالتاريخ في ميثيولوجيا تعيد النحت إلى أصله الأول بروح معتقة بالأساطير بالقوة بالصدامات الخالدة بين عناصر الطبيعة.

لا يكتفي بسام كيرللس بتقديم فكرته وموضوعه في المنجز الفني بشكل فرداني متحكم في ذائقة المتلقي بل يتجاوز ذلك باستفزاز مخيلته ونبش أفكاره التي تنعكس على المجسم وتحاكيه وتطرح معه تساؤلاته وتناقضاته الجمالية كمحاورة ثنائية يعتمدها بينه وبين منجزاته والمتلقي وبينه وبين تناقضات الطبيعة والوجود.

 

*الأعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى