ثقافة وفنون

قنا.. عبق التاريخ ورائحة الأسطورة

لم تكن الآلهة الفرعونية مخطئة, أو غير عاقلة حين اختارت مكان معبدها في مدينة ” قنا ” بصعيد مصر، بل كانت تعرف ما تقوم به حق المعرفة، ويمكن القول بأنها كانت مأمورة، أو مشدودة بحبل سحري ألقاه بداخلها شعور خفي بأهمية المكان من بعد، وأهمية ساكنيه الذين سيرثون شعور المحبة من آلهة الحب والخير والنماء، وهى لم تكن فريدة في ذلك ولا سباقة بالفعل، بل كان شأنها شأن الإنسان المصري القديم بصفة عامة، ذلك الإنسان شديد الحساسية لما يوحى به إليه ذلك الوازع الباطني المنبعث من قلبه والذي سماه- ببعد نظر شديد ومدهش – إله المرء.

هكذا أقامت الآلهة معبدها في ” قنا “، فتكاثر الناس من حوله ليشكلوا تاريخ المكان الآتي من بعد، وظلوا ـ رغم اختلاف مشاربهم ودياناتهم وألوانهم وأعراقهم ـ أبناء بررة وإخوة لمكان واحد، فظل المكان بالنسبة لهم الرحم الكبير الذي يلقى بمحبته عليهم، ويؤلف بين المختلف، لقد سنت الآلهة لهم دستور المكان في البدء، فراحوا يقلدونها في كل شيء، حتى في عمارة المكان وطريقة اتساعه مع الزمن كلما تكاثر الناس وتعاقبت الأجيال، فكانوا كلما بزغ واحد منهم يبنون له مكاناً باسمه ليرمز له، بحيث أضحت مدينة قنا محصورة –تقريباً- بين مبنيين، ” معبد دندرة ” من ناحية الغرب و” مسجد سيدي عبد الرحيم القنائى ” من ناحية الشرق، ولأن الناس ليس لهم إلا ما بين أيديهم، فقد تكاثروا حول ما هو أحدث، وإن ظلت مشاعرهم وعقولهم معبقة برائحة المكان القديم، وكما كانوا يحتفلون بآلهتهم من قبل راحوا يحتفلون بشيخهم، ويزورونه مجتمعين من كل مكان في احتفال كبير سموه ” المولد ” يستمر لخمسة عشر يوماً، وهم يقيمون طقوساً خاصة له جعلت تتطور مع تعاقب الأجيال وتقدم عجلة التاريخ، لكنهم أبداً لا ينسون الذكرى.

أعلن الناس ولاءهم إذن لشيخهم فالتفوا من حول المسجد، وتكاثروا فاتسع المكان بهم حتى أضحى بمثابة الرحم الجديد الذي تتكالب كل جماعة من الناس لتنسب شرف الانتماء إليه إلى نفسها، كل جماعة لقبت الشيخ بالجد، مع أن الرجل أتى من بلاد المغرب، ونما المكان بالرزق الوفير الذي جلبته احتفالات المولد الذي يقام بشكل سنوي منتظم منذ مئات السنين، وربما بسبب طبيعة المكان المستوية من حول المسجد، والمختلفة مع طبيعة المكان من حول معبد دندرة، تلك التي يقف الجبل الصخري الأحمر الكبير من خلف المعبد بحيث لا يدع مساحة للناس، لا للتكاثر ولا للتوسع والاستيطان، وربما وقف حابى / النيل في وجوه الناس مثل ـ “بودي جارد” أمين ومخلص ـ يدافع عن آلهته القديمة ويذود الناس عنها، بعدما عرف بطبيعتهم القبلية المتشددة، الميالة للتعصب والمتعطشة للدم والذواقة لكل خراب والمتشممة لعبق رائحة المشاكل وتوافه الأمور، لتجعل منها مأساة كبرى تستمر لسنين عديدة من بعد، لعل ذلك يفسر طبيعة أهل قريتي ” دندرة والترامسة ” في الغرب المتسمة بالطيبة والهدوء والتصوف الشديد، على عكس سكان أهل الشرق في مدينة قنا.

اتسعت المدينة نحو الشرق إذن، واكتفى الغرب بموتاه القدامى وبعض القرى الصغيرة، اكتفى بالوجود الأول والنشأة الأولى وبداية التكوين، ثم انزاح ـ مع اجتياح التاريخ له ـ إلى طرف الصورة، تاركاً المساحة الأكبر والأكثر صدارة للآتي من بعد، ذلك الآتي الجديد الذي راح يتمثله في كل شيءـ  صحيح بشكل مختلف ـ لكن يظل الفعل واحداً، شخصية في مقابل شخصية، واحتفالات في مقابل احتفالات، وتكوين في مقابل تكوين، ووجود في مقابل وجود، إن الإنسان القنائى بذلك إنما يحقق – بوعي أو بدون وعى – مفهومه الخاص عن الأسطورة والذي لخصه لنا “مرسيا الياد” في كتابه “مظاهر الأسطورة ” موضحاً بأنها “تروى لنا تاريخاً مقدساً، تروى حدثاً جرى في الزمن البدئى، وتقص علينا كيف جاءت حقيقة ما إلى الوجود بفضل مآثر اجترحتها الكائنات العليا، ولا فرق بين أن تكون هذه الحقيقة كلية كالكون مثلاً، أو جزئية كأن تكون جزيرة أو نوعاً من  نبات، أو مسلكاً يسلكه الإنسان، المهم أنها دائماً سرد لحكاية خلق، تحكى لنا كيف كان إنتاج شيء ما، وكيف بدأ وجوده، وكيف أصبح حقيقة من بعد في عقول الناس وسلوكهم اليومي” (1).

بداية تكوين المكان القنائى هي بداية فرعونية ليس في ذلك من شك, ليس في مدينة قنا فقط، وإنما في كل مراكزها الموجودة إلى اليوم, أرمنت واسنا وقوص وقفط ودشنا ونقادة ودندرة, وارتباط الحضارة الفرعونية  بالمفهوم الديني للثقافة، أمر مفروغ من حقيقته, فهي حضارة تبحث عن المصير الديني للإنسان, كيف بدأ وجوده وإلى أين ينتهي به المصير, وتُسَخِّر كل معرفتها العلمية والثقافية في خدمة هذا المفهوم للتحكم في هذا المصير وجعله على أفضل حال, لقد امتلأت الحضارة الفرعونية بالآلهة وبلغ تقديس الناس لها مبلغاً عظيماً من أجل الحصول على المصير الملائم، أو الفردوس في الزمن المفترض وجوده بعد الموت، أو بعد الوجود الإنساني, وقد ارتبط المفهوم الديني للمصري القديم بأعمال السحر ارتباطاً وثيقاً كما يقول بذلك “جيمس هنري برستيد” في كتابه المهم ” فجر الضمير” حيث يقرر أنه “ظهر في “متون التوابيت” اتجاه ظاهر جداً بلغ غايته في ” كتاب الموتى ” هذا الاتجاه ينحصر في أن عالم الآخرة هو مكان تحف به الأخطار والمحن التي لا عداد لها، وأن معظم تلك الأخطار مادية، ولو أنها كانت في بعض الأحيان تمس عتاد المتوفى العقلي، وكان السلاح الذي يستعمل للنجاة من تلك الأخطار وأضمن الوسائل التي يمكن الحصول عليها لحماية المتوفى، هي تمكينه من بعض القوى السحرية بتزويده برُقية خاصة تتلى عند اللحظة الحرجة, وقد عظم شأن هذا الاتجاه بعد ذلك، فجعل من “متون التوابيت” ومن بعدها “كتاب الموتى” الذي نبت منها مجموعة من التعاويذ كانت تزداد على مر الأيام، وتعتبر في نظر المصري القديم ذات أثر فعال لاشك فيه في حماية المتوفى وتزويده في الحياة الآخرة بما يلزمه من نعيم”(2)، ومثل كل لحظة تاريخية أتت من بعد ذلك ظهرت في المجتمع فئة استغلت الاعتقادات الخيالية للناس، وسخرتها لمصلحتها الخاصة ابتغاء الكسب المادي والسيطرة السلطوية، إذ كثيراً ما انتمت تلك الفئة إلى السلطة الحاكمة، أو نبتت منها من الأساس، فقد كان من جراء ثقة المصريين القدماء العمياء في تلك التعاويذ أن صار في يد الكهنة فرصة لا حد لها للكسب، وقد ازداد خصب خيالهم في إنتاج التعاويذ الجديدة باستمرار، وقد كانت تباع بطبيعة الحال للمشترين السذج الذين كان عددهم في ازدياد كل يوم، وكلما زادت مخاوفهم من أخطار الحياة الآخرة.

على أن تلك الأعمال السحرية لم تكن وليدة العقل البشرى الذي أنتجها فقط، إنما العقل البشرى أنتجها واستمد أصولها الأولى من عميق فكر الحضارة التي ينتمي إليها وهى الحضارة الفرعونية، هذا الفكر القائم أساساً على الأسطورة والمستمد تفسيره للإنسان والوجود منها، بدءاً من مظاهر الطبيعة التي أشعرت المصري القديم بوجود الآلهة ودفعته إلى تقديم القرابين إرضاءً لها، ووصولاً إلى الآلهة الكبرى ذات الأساطير المكتملة وصاحبة السيطرة السياسية الواسعة، يخبرنا جيمس هنري برستيد بأنه “ليس من شك في أن المذهب الأوزيرى كان له أثر عظيم في انتشار استعمال تلك الوسائل السحرية الجنائزية، إذ أن أسطورة “أوزوريس” التي كانت منتشرة في ذلك الزمن انتشاراً عاماً، قد جعلت لكل طبقات الشعب الماماً بنفس تلك الوسائل التي اتخذتها “ايزيس” لإحياء زوجها من الموت، وهى الطرق التي صار كل مصري قديم يعتقد في تأثيرها العظيم في حالته الأخروية، كما أثرت في أوزوريس من قبل”(3).

هل يمكن أن نقبل هذه الصورة في اتضاحها هذا، نشأ المكان القنائى مع الحضارة الفرعونية، التي نشأت مع الفكر الديني، الذي ارتبط بالسحر ونشأ عن الأسطورة كمصدر أولى لنشأة المكان ونشأة بذرة الفكر المشكلة لوعيه، ذلك الوعي الذي استمر معه إلى الآن مشكلاً جل تاريخه العظيم الممتد في الزمن.

التاريخ والناس إذن محصورون بالأسطورة، وكلاهما مرتبط بالمكان، حيث المكان صنعته الأسطورة وظلت في عقول الناس من بعد، تحدد أفكارهم وسلوكياتهم التي منها سوف يتشكل التاريخ في المستقبل، ولا يهم الناس في ذلك ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي، فالناس ليس لهم إلا مابين أيديهم، ربما لأن حياتهم لا يمكن ربطها بأي حال من الأحوال بالسياقات الكبرى للوعي التاريخي والفكري لحركة الإنسانية، فالناس بشكل عام – وخصوصاً في مجتمعنا القنائى الجنوبي بصعيد مصر– لا يهمهم معرفة اللحظة التاريخية التي يعيشونها، بما تستوجبه هذه المعرفة من حتمية الصدام للمطالبة بالحقوق بعد تأدية الواجبات، وبما تستدعيه وتتطلبه من معرفة اللحظات التاريخية السابقة سياسياً وفكرياً.

إن ما يهم الناس في كل لحظة من لحظات التاريخ – عدا اللحظات الاستثنائية التي تمتاز بالوعي وتتحقق فيها الثورات – هو أكل عيشهم، كيف يتحايلون لكسب الرزق وتعدية اليوم بأقل حد ممكن من حاجيات الاحتياج اليومي، لذلك فهم يتشكلون حسب الطبيعة الفوقية لكل عصر، ويكيفون أنفسهم وأسلوب حياتهم حسب متطلبات وآليات اللحظة الآنية، أما السياقات الكبرى التي تحدد ملامح تلك اللحظة الآنية، وتكسبهم الوعي الذي يحدد الحقوق والواجبات، فإنها لا تعنيهم من قريب أو بعيد، لذلك فقد ظلت المعرفة التاريخية بالسياقات الكبرى الثقافية والسياسية والتاريخية حكراً على فئة محددة وقليلة من فئات المجتمع، اتخذت لنفسها لقب ” النُخبة ” في كل اللحظات السابقة وإلى الآن.

هذه النُخبة هي فقط التي تعنيها مسألة غربلة التاريخ وإفراز الواقعي منه، وتخليصه من كل ما هو أسطوري وغير واقعي، أو غير حقيقي، لأن ذلك إنما يعنى المعرفة الحقيقية التي تؤهل لمعرفة اللحظة الآنية، وترسم خطوات اللحظة القادمة.

أما الناس – عامة الناس – فإنهم مشغولون دوماً بإنتاج أسطورة ما جديدة، تساعدهم على معايشة وفهم اللحظة الموجودين فيها، وتجعلهم في حال أقرب ما يكونون فيها إلى التكيف مع ظروف الحياة، وكأننا نقف أمام إنسان بدائي يحتاج دوماً إلى قوى أكبر منه – سيما لو كانت قوى غيبية – كي تمكنه من الانتصار على اللحظة الآنية المقهور فيها، وهو لا يعي، لا يرفع عينيه لكي يرى أنه مقهور الآن لأنه هو يريد ذلك، لأنه فقد وعيه باللحظات السابقة ففقد معرفة اللحظة الآنية فلم يبق له غير الاستسلام والتحايل, وهما مرادفان للقهر والذل والفقر والجهل والمرض, وإلا ما معنى ذلك الانتشار الكاسح في مجتمعنا لثقافة الجدل والشعوذة, ما معنى ذلك الإيمان الراسخ بأن الغِنَى والثروة لا يأتيان إلا عن طريق ” اللقية” التي تحتاج لكي تفتح إلى ذبح ديك أحمر, أو إطلاق الكثير من الأبخرة وتلاوة الكثير من التعاويذ, ما معنى انتشار ظاهرة المشايخ الذين يمتلكون القدرة على عمل “العمولات” التي تربط الرجل وتقيد رجلي المرأة وتجلب الحب والتعاسة حسب الطلب وتملك القدرة على الإيذاء, ما معنى أن يرتدى العريس في ليلة عرسه ملابسه الداخلية وهى مقلوبة حتى يفسد أي عمل أو حسد يترصده, ويتمكن من الدخول على عروسه, ما معنى الاعتقاد الحاد في الحسد وتعيين فرد ما أو حتى عائلة ما بهذه الصفة, ما معنى الموالد التي يحتفل فيها بالمشايخ والأولياء والشهداء والقديسين لجلب البركة وشفاء المرضى وقضاء الحاجة, ما معنى “فايدة الأربع” وإلقاء ماء الحموم في الشارع, والمشايخ الذين يخرجون الجن من الجسد, ثم أخيراً وليس آخراً ما معنى مفهوم القبلية والتمسك بتقاليدها والفخر والتباهي بالانتماء إليها, ما الذي تحققه القبلية غير معنى الحماية في الحق والباطل، معنى السند الذي يؤهل الفرد المنتمى إليه إلى عيش حياته كما يحلو له بالطول والعرض والاعتداء على حقوق الآخرين, إن الناس في ذلك إنما يستدعون الطقوس القديمة بكل تفاصيلها، ويحققون معنى الأسطورة كما بينه لنا “مرسيا الياد” حين أخبرنا “أن إنسان المجتمعات البدائية القديمة يعتقد أن ما حدث في الماضي / الأصل قابل لأن يتكرر بقوة الطقوس التي تستدعيه وتحينه, وأن الإنسان البدائي حين يفعل ذلك إنما يحاول معرفة الأسطورة واستحضارها, لأن ذلك لا يتيح له تفسيراً للعالم ولأسلوب وجوده الخاص فيه وحسب، وإنما لأنها تتيح له_ إذ يتذكرها ويحيينها_ القدرة على تكرار ما فعلته الآلهة أو الأبطال أو الأسلاف في الأصل”(4)، الإنسان البدائي كان في حاجة دائمة إلى قوى أكبر منه تعينه على لحظته, ونحن الآن لسنا في حال أفضل منه, بل إننا نكاد نكون في نفس الحال وأمرُّ, فإذا كانت حجة الإنسان البدائي أنه لم يمتلك بديلاً عن الأسطورة للفهم, فما هي حجتنا إذن؟ وإذا كانت الأسطورة صالحة في الزمن البدئي فإنها بكل تأكيد لم تصلح الآن، لا الأسطورة ولا التفكير الأسطوري الذي تنتجه، إننا لا نحتاج إلا إلى رفع أبصارنا عن الأرض وعن الوراء, لا نحتاج إلا إلى المعرفة التاريخية باللحظة التي نعيشها, من أين جاءت وإلى أين ستنتهي, لا نحتاج إلا إلى الثقافة لامتلاك الوعي وامتلاك المصير, إن الثقافة بمفهومها العام والشامل ـ باعتبارها مجموعة من المكونات المادية والمعنوية والذاتية، وليس اتكاءً علي مكون واحد فقط ـ وبما تلقيه داخل الإنسان من وعى هي السبيل الوحيد للخروج من كنف التفكير الأسطوري ومعايشة الحقيقة, لكننا فيما يبدو قد استهوتنا الأسطورة بحكاياتها العجائبية, فسكنا داخلها واستطاب المقام لنا، بحيث لا نريد الخروج, وبحيث سنبقى طيبين إلى الأبد.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

المراجع:

  • 1ـ مرسيا الياد ـ مظاهر الأسطورة ـ ت نهاد خياطه ـ دار كنعان للدراسات والنشر ـ دمشق1991م صـ 17
  • 2ـ جيمس هنري بريستيد ـ فجر الضمير ـ مكتبة الأسرة 1997 ـ صـ175
  • 3ـ المصدر السابق صـ 190
  • 4ـ مرسيا الياد ـ مظاهر الأسطورة صـ 21

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى