ثقافة وفنون

مخطوطة مغولية مذهلة تجمع مكتبة من القرن الـ15 في مجلد للجيب!

 

تخيل أنك في موقع يسمح لك بأن تخصص أفضل مجموعة من النصوص التي ترغب في حملها في رحلاتك، كأنها مكتبة شخصية مصغرة في مجلد واحد، ومعك ميزانية مفتوحة لتصنعها، ويمكنك أن تأمر أكبر العلماء وأمهر الخطاطين لكتابتها، وأفضل الرسامين لعمل الرسوم التوضيحية، وأفضل الفنانين لزخرفتها وتزيينها، وأفضل تجليد لحمايتها.. وهكذا

هذا كان من حسن حظ السلطان جلال الدين اسكندر بن عمر الشيخ حفيد غازي آسيا الوسطى المغولي الشهير تيمور لنك، (1409-1414) الذي حكم جنوب بلاد فارس لمدة خمس سنوات فقط، وكان متحمساً فيها للعلوم والثقافة والفنون على عكس الفكرة الشائعة عن التتار/المغول الذي ظهروا على الساحة العالمية كمقاتلين أشداء يحكمون امبراطورية شاسعة بدأت مع جنكيزخان وانتهت مع حفيده هولاكو.

وبعد انكسار المغول في “عين جالوت” ظهر القائد المغولي الأوزبكي تيمور لنك، الذي أتقن الفروسية واعتنق الإسلام أسس دولة جديدة للمغول ضمت معظم مناطق وسط آسيا وحكم البلاد من دلهي إلى دمشق، ورغم أنه عرف بالشراسة والعنف الدموي لكن حفيده جلال الدين كان مهتماً بالعلوم والشعر على خلاف جده؛ وترك عدد من المخطوطات الفارسية الرائعة التي أمر بصناعتها واحدة منها محفوظة حالياً في مؤسسة غولبنكيان في لشبونة والأخرى في المكتبة البريطانية.
درة تاج جلال الدين.. هل هي مخطوطة أم صندوق مجوهرات صغير؟

هي خيال عاشق للكتب، مرسومة ومكتوبة باليد من أعظم الفنانين والخطاطين والعلماء في عصرها، وتم تجميعها من مجموعة واسعة من المصادر والنصوص الأصلية المتنوعة من الشعر الملحمي إلى التنجيم وعلم الفلك، والطب، وتفسير الأحلام، وغيرها، كأنها مكتبة من القرن الخامس عشر تقع في مجلد واحد، في وقت لم يكن فيه حقوق نشر ولا إنترنت وكان يمكن إعادة نسخ النصوص وتدويرها ببساطة.
كان حفيد تيمورلنك وحاكم شيراز وأصفهان محظوظاً، فقد ولد لعائلة ثرية وقوية، لكن النبوءة التي قيلت لجده عند ولادته ورسمها في صورة خريطة فلكية مدورة ومذهبة لم تنجح في تجنيبه مصيراً مؤلماً، فبعد انتهائه من المخطوطة بسنوات قليلة قتل إسكندر سلطان في عمر ٣١ بعد أن تمرد ضد رئيسه القوي.
ورغم ذلك فقد بقي في التاريخ من خلال مخطوطاته الفخمة المحفوظة في المكتبة البريطانية، وهي الأثر الوحيد الباقي من فترة حكمه القصيرة، وتعد هذه المخطوطة أهمها على الإطلاق وأجملها، فهي محاطة بجلد مزخرف وتشبه صندوق مجوهرات صغيراً.

 

كتب علمية أم تحف فنية؟

يمكنك الاطلاع على المخطوط والتقليب بين الصفحات بنفسك من خلال النسخة التي توفرها المكتبة البريطانية (من هنا)

يبلغ حجم المخطوط الذي يشبه الجوهرة (فقط 5×7 بوصات). ومع ذلك، ملأ المنمنقون صفحاته الصغيرة بتفاصيل دقيقة. تقع لوحات المخطوط وسط النص، وهي تشبه النوافذ الصغيرة التي تميل إلى عوالم رائعة من سماء الذهب والبحيرات الفضية. هذه المناظر الطبيعية غير الظاهرة مسطحة ومضيئة كصورة في الزجاج الملون.
ومن المثير للاهتمام وجود لوحة لصورة النبي محمد صاعداً عبر السماوات السبع على ظهر حيوان مجنح “البراق”، بين النجوم وأجنحة الملائكة، رغم أن تصوير النبي غير معتاد ولا مألوف في زمن المخطوط.

نحن لا نعرف من هو الذي قام بتصميم الخلفية والتزيين واللوحات. لكن ربما كانت بعض الرسوم تمت بواسطة أحمد باغ شمالي الذي يعتبر من أعظم فناني عصره.
وتمت إعادة تصميم المخطوطة بمهارة من قبل المكتبة البريطانية بطريقة تحافظ على النمط الإسلامي التقليدي لفتحها بشكل مسطح قدر الإمكان.

إن الإنجاز الفني الرئيسي في المخطوط الذي نشرته المكتبة البريطانية، بصرف النظر عن جودة الصنعة وجمال المواد، هو التركيب المتجانس للكل من عناصر متباينة ولكنها مكملة: وفرة من الأرابيسك، ولفائف نباتية، وفن الخط الرائع الموجود في لوحات من أشكال مختلفة، مع إضاءة ذهبية وملونة بالأحمر والأصفر.

النص في الألواح العلوية والسفلية مكتوب في نسخة مزخرفة خاصة من الخط الكوفي، ويتكون من عبارات دينية باللغة العربية لراعي المخطوطة، إسكندر سلطان، وهو مكتوب بالخط الثلث في الفصوص لوحة مركزية دائرية.
في هذه الصورة المصغرة ، تظهر صورة لملحمة الإسكندر الأكبر، حيث يظهر مع خادمه يراقب فتيات صغيرات يسبحن سوياً في بركة ماء.

وفي مواضع أخرى يحتوي المخطوط على قصائد بليغة في الثناء على النبي محمد أو على أئمة الشيعة، وهناك مجموعة مختارة من أكثر من مائتي قصيدة تحتل الجزء الخارجي لما يقرب من ثلاثمائة صفحة مصنفة حسب الموضوع أو النوع، وتحتوي كذلك على أشعار أخرى لأكثر من ثلاثمائة مؤلف من بينهم ناصر خسرو وجهانجير حافظ وفاروقي وغيرهم الكثير بعضهم لا يعد مشهوراً اليوم لكن المخطوطة توثق لأشعارهم.
أما محتويات النثر فإنها تتضمن ملخصات للفقه وفقاً للمذهب الجعفري، رغم أن الغالبية العظمى من سكان إيران حينها كانوا من السنة، وكذلك نصوصاً من الفقه الحنفي بالفارسية بما فيها فقه العبادات.
وهناك أطروحة عن الخيمياء سميت إسكندر سلطان، وهناك كلام منسوب له عن “الكبريت الأحمر”، إضافة لنظريات هندسية مثل الكتاب الأول لإقليدس مشتملاً على رسوم هندسية توضيحية ومزين بهوامش جميلة في مدح إسكندر سلطان.

وهناك نسبة كبيرة من النصف الثاني في الكتاب تتناول علم الفلك والتنجيم، وتوحي بأن السلطان كان لديه اهتمام كبير بهذه المجالات، خاصة مع وجود حساب للتقويم واستخدام الأسطرلاب وموضوع عن التنجيم، مزود برسوم ملونة ورائعة في الهوامش التي لم يكتمل بعضها في المخطوط.
وإلى جانب الشعر والفقه والفلك، هناك فصل للطهي، وأدلة للصيد والنباتات الصالحة للأكل، وموضوعات عن الجغرافيا والتاريخ، والملاحة في البر والبحر، وجزء متعدد اللغات، وكلمات من الحكمة والأدب.

وتكشف المخطوطة وجهات نظر مثيرة للاهتمام في الفلك، من بينها نظرية عن الخلاف الخارجي للسماء مكتوبة ومدعومة بألوان وتزيين وحسابات رياضية وعبقرية من النصوص والجداول، كل ذلك يجعل من المخطوط تحفة فنية في الفن والرياضيات في آسيا الوسطى في القرن الخامس عشر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى