ثقافة وفنونكتب ودراسات

وزارة الثقافة.. الواقع الفعلي (3- 4)

من النادر أن يجيبك واحد من المثقفين المصريين بكلمة ” لا ” عندما تواجهه بالسؤال: هل تعاني الثقافة المصرية أزمة ما؟! بل سيملأ أذنيك وعقلك بكلمة ” نعم ” حتى لو لم يكن مدركاً، أو مُلماً، بمظاهر هذه الأزمة وأسبابها وأبعادها، فضلاً عن كيفية الخروج منها، فالحديث عن وجود أزمة تعاني منها الثقافة المصرية، وتُنقِص من دورها ومكانتها علي المستوين الداخلي والخارجي، حديث قديم، لن نقول أنه بدأ منذ عقود طويلة عبر انتقادات جادة من كبار الكتاب والمفكرين الأوائل، لكننا سنكتفي للدلالة علي ذلك بالدعوة الرسمية التي وجهها وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني في عام 2010م لعقد مؤتمر ثقافي عام وكبير تحت رعاية المجلس الأعلى للثقافة، بقيادة د. جابر عصفور آنذاك، لبحث الأزمة الثقافة المصرية وتصحيح المسار، ووضع رؤية مستقبلية جديدة ومتطورة لها، وفي مقابل هذه الدعوة كانت هناك دعوة أخرى لا تقل أهمية ولا حجماً من قِبل مثقفين، وصفوا أنفسهم بالمستقلين وقتها، رأوا أن حل الأزمة لن يكون أبداً بيد مَنْ تسببوا فيها، ودعوا إلي عقد مؤتمر ثقافي كبير في مواجهة مؤتمر المؤسسة، بل واستبقوها في بدء الخطوات التحضيرية لمؤتمرهم، حيث كانت المؤسسة مشغولة بالرد علي الانتقادات الموجهة لها، واختيار عنوان المؤتمر ورئيسه والمدعوين له، وغير ذلك من الأمور التي تُسوِّف بأكثر مما تدفع إلي الأمام.

غير أن المؤتمران قد تعطلا، وذهبت أفكارهما ونواياهما أدراج الرياح، بسبب قيام ثورة 25 يناير 2011م، لكن الأزمة بقيت، بل وكشفت عن أوجهها المتناقضة لدي كل المثقفين المصريين عبر عوار كبير، بدا بحجم الدهشة، أصابهم جميعاً في تقدير قيمة الثورة، والانقسام عليها بين مؤيد ومعارض وصامت، انكشاف الغطاء السياسي كشف الغطاء عن وجوه كثيرة كنا نحترمها ونُجل دورها الإبداعي والفكري، ونحن نري تقلبها ذات التأييد وذات المعارضة، ثم ذات الصمت الذي بدا محاولة فاشلة لامساك العصا من منتصفها، ولم يكن له معني سوي انتظار ما ستسفر عنه الأحداث مثل عامة الناس جميعاً، سقطت الأقنعة فانكشفت أبعاد التبعية المقيتة لكبار المثقفين لنظام مبارك، هم الذين طالما أرهقوا ضمائرنا بالحديث عن القيم والحرية.
وكان ما كان، إذ سرعان ما رضي الجميع ببقاء الأمور داخل المؤسسة الثقافية علي ما كانت عليه أيام فاروق حسني، وإن تغيرت الوجوه بعد أن تم الدفع بالصفوف التالية، وقد تجلت مظاهر هذا الرضا واضحة تماماً في نجاح الكاتب محمد سلماوي في أول انتخابات لاتحاد الكتاب المصري بعد الثورة، وبأغلبية كاسحة.
وما زالت الأزمة موجودة، وما زالت رحاها تدور علي الجميع، وهي تأكل من رصيد الثقافة المصرية بنهم لا يكاد يشبع حتى كادت عظامها أن تبين، أزمة طاحنة بحق، انكشف فيها عوار المؤسسة وترهلها وعدم قدرتها علي خلق كوادر قيادية جديدة، وظلت علي حالها من الاستسلام لكبار “الأمس” بذات أساليبهم القديمة، وفي الوقت الذي علتْ فيه أصوات الجميع يحاول كبار الأمس التشبث بأماكنهم ومكانتهم، وهم يصمون أذانهم عن أي انتقادات، ويغمضون عيونهم عن كل نقص، ومظاهر الأزمة يتجلى وضوحها كل يوم، ورحاها تأكل من الجسد العليل ليزداد مرضاً وأنيناً وهلعاً وهو يري ملاك الموت يحوم من حوله.
مظاهر الأزمة الثقافية.
ولأن لكل أزمة مظاهرها التي تكشف عنها، وتشير إلي مواطن المرض فيها، كما يشير الألم إلي مكان الخلل من جسم الإنسان، تجلت مظاهر الأزمة الثقافية من وجهة نظرنا فيما يأتي:
1ـ تراجع مستوي الإبداع المصري في العالم العربي، يتجلى ذلك في بروز أسماء عربية كثيرة في كل مجالات الإبداع وتصدرها لقوا\م الجوائز الكبرى والمؤتمرات الصاخبة، حتى التي تقام في مصر نفسها، كما يتجلى في ظهور أصوات عربية ـ للدول كما للأفراد ـ تنادي بالريادة، وتحاول أن تلعب دور البديل لتسيد المشهد الثقافي العربي، وتُسخَّر في سبيل ذلك كل امكاناتها المالية والثقافية بجهد لافت.
2ـ تراجع دور السينما علي مستوي عدد الأفلام التي يتم انتاجها سنوياً، وأيضاً علي مستوي الجودة والقيمة الفنية التي تحملها الأفلام القليلة التي يتم انتاجها، ويُصنَّف معظمها بأنها أفلام تجارية، وقد أخذ عدد الأفلام في النقصان أكثر فأكثر عقب ثورة يناير.
3ـ استمرار تسيد جيل الستينيات للمشهد الثقافي المصري حتى الآن، وتحكمهم في مقاليد الحياة الثقافية لسنين طويلة، مما أدي إلي ظهور ما يمكن تسميته بمراكز القوي الثقافية، والتي أدتْ بدورها إلي تكلس الرؤية الثقافية وموت الحراك الثقافي، وقنوط الكثير من مبدعي الأجيال التي تلتهم بسبب فقدان الأمل في التحقق.
4ـ تمركز الحراك الثقافي في القاهرة بشكل ظاهر، وإهمال الأقاليم جميعها مهما بلغت قيمة المنتج الإبداعي لها.
5ـ ظهور ما يمكن تسميته بمجموعات المصالح داخل مراكز المؤسسات الثقافية بالعاصمة، وهي ظاهرة تتجلي في تكوين مجموعات مغلقة علي نفسها، وتكريس مبدأ الشللية علي القيمة.
6ـ الهجمة الشرسة التي تواكب إعلان نتائج جوائز الدولة كل عام، وعدم الرضا العام عن كثير من نتائجها، وانتقاد كثير من الأسماء التي حصلت عليها.
7ـ تراجع دور مسرح الدولة انتاجاً وقيمة، وتراجع القيمة الفنية لمسرح الثقافة الجماهيرية بسبب روتين توزيع الانتاج والعرض، وحصر الانتاج المسرحي في مجموعة محددة من المخرجين، وأحياناً المؤلفين، واعتماده حتى الآن علي الممثلين الهواة.
8ـ تراجع دور النقد الأدبي بسبب عدم قدرة النقاد علي متابعة هوجة الإصدارات التي تقدمها المؤسسة الثقافية كل عام، إضافة إلي دور النشر الخاصة، وحصر انتاجهم علي الأصدقاء والمعارف تكريساً لمبدأ الشللية، أو المؤتمرات والندوات تكريساً لمبدأ المنفعة، مما أفقدهم الموضوعية والجدة، وأيضاً بسبب قلة المنافذ الإعلامية التي تعني بالنقد، واعتماد الصحف علي المقال النقدي بديلاً عن الدراسات الجادة التي يتعذر نشرها بسبب قلة المساحات المتاحة، وأخيراً انشغال غالبيتهم بالعمل الأكاديمي داخل الجامعات الذي يستنفذ جل طاقتهم في مناهج الدرس التعليمي، وربما جاء اشتغال الكثير منهم بالإبداع القشة التي قسمت ظهر البعير.
9ـ تراجع دور المؤتمرات الأدبية بسبب عدم انتهاجها للأسلوب العلمي، واقتصارها علي المبدعين المدعوين فقط، وعدم الاستفادة اللاحقة من انتاجها البحثي، أو التوصيات المرتبطة بالشأن الثقافي العام الذي تناقشه.
10ـ اقتصار الأفق السينمائي علي مهرجان القاهرة الدولي فقط، والذي تراجع دوره الاعلامي والدولي كثيراً في الأعوام الأخيرة.
11ـ افتقاد المواقع الثقافية لعلاقتها بالجمهور، بسبب عدم قدرتها علي التطور واتباع ذات الأساليب وآليات العمل القديمة التي تم وضعها منذ عشرات السنين، وأيضاً بسبب المركزية التي تُكبل حركتها، وتجعل منها مواقع تابعة تقوم بتنفيذ ما يُملي فقط، دون اعتبار لسمات المكان الموجودة فيه.
أما عن أهم المعوقات التي تسببت في إحداث تلك الأزمة الكبرى، في واحدة من أهم مؤسسات الدولة، وعن بذور الرؤية التي يمكن أن تضع أيدينا علي الحلول والمقترحات للخروج منها، فهو موضوع مقالنا الرابع والأخير في هذه السلسلة.. يتبع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى