تقارير وتحليلات

إسرائيل: ليس للفلسطينيين “دولة”

لن نستبق الأحداث ونقدم رأينا بشأن مسألة صلاحية محكمة الجنايات الدولية في لاهاي حول الضفة الغربية وقطاع غزة، مثلما طلبت أول أمس المدعية في المحكمة باتو بنسودا، بعد أن أعلنت بأن هناك أساساً لإجراء التحقيق ضد إسرائيل في أعقاب نشاطاتها ضد الفلسطينيين. ومن أجل إبداء الرأي في هذه القضية سيكون من الواجب التعمق في الادعاءات الفلسطينية التي ستقدم للمحكمة، وفي رد إسرائيل الكامل، وفقا لصحيفة “هآرتس” العبرية.

السؤال الأول والأكثر أهمية هو هل توجد دولة فلسطينية؟ وإذا كان الأمر هكذا فما المناطق المسؤولة عنها؟ لأن للمحكمة صلاحيات بحث فقط في الجرائم التي تم تنفيذها على أراضي دولة عضوة موقعة على ميثاق روما. في هذا السياق، ستسأل المحكمة نفسها هل يشبه مفهوم “دولة”- الذي استخدم لتأسيس صلاحياتها- مفهوم “دولة” في السياق الأوسع للقانون الدولي، وإذا تم تبني هذه المقاربة فستكون يد إسرائيل هي العليا. لأن المعيار الأساسي لوجود دولة هو السيطرة الفعلية على مناطق كتعبير واضح للسيادة على الأرض.

وحسب هذا المعيار، فإن الدولة الفلسطينية بالإجمال، لا تعدّ كياناً قانونياً قائماً في الواقع، والدليل على ذلك هو حقيقة أن السلطة تدعي كونها دولة تقع تحت الاحتلال، أي تحت السيطرة الفعلية لإسرائيل، حسب رأي المستشار القانوني للحكومة افيحاي مندلبليت. إن حكم قطاع غزة من هذه الناحية يمكن أن يكون مختلفاً، لأن إسرائيل أعلنت بأنه ليس لها سيطرة فعلية على غزة، بل حماس هي المسيطرة.

مع ذلك، يمكن أن تتبنى المحكمة مفهوم دولة له معنى مختلف وخاص في مسألة صلاحياتها. أي أن صلاحياتها لا تقتصر على دول “كاملة”، لأن مفهوم الدولة يشمل أيضاً “دولاً في الطريق”، مثل وضع الاستيطان اليهودي في أرض إسرائيل قبل إقامة الدولة. في هذا السياق سيثور سؤال مهم، وهو الأهمية والوزن الذي يجب منحه لمكانة السلطة الفلسطينية الدولية. وسيتم فحص الاعتراف الدولي الذي أعطي لفلسطين كدولة من قبل دول غير قليلة، مثل قبول فلسطين كدولة عضوة في اليونسكو؛ وقرار الجمعية العمومية في الأمم المتحدة 19/ 67 من العام 2012 الاعتراف بالسلطة الفلسطينية كدولة مراقبة غير عضوة (بدلاً من مكانتها السابقة ككيان مراقب فقط)؛ وأيضاً انضمامها كعضوة إلى ميثاق روما الذي أسس لنشاطات محكمة الجنايات الدولية في لاهاي.

سؤال آخر سيقف أمام المحكمة، وهو مصدر صلاحياتها الجوهرية. موقف إسرائيل هو أن الأمر يتعلق بصلاحية تأخذها المحكمة من الدول الأعضاء فيها، لا أكثر من ذلك. ولكنها ليست الصيغة المعقولة الوحيدة. ربما ليس أقل معقولية أن المحكمة سترى مصدر صلاحياتها في المقام الأول في المجتمع الدولي وفي مصلحته الواضحة لمنع الجرائم ضده، مثلما يظهر في مقدمة ميثاق روما، وأيضاً من قدرة مجلس الأمن على توجيه التحقيقات للمحكمة.

في هذا الأمر، يحذر مندلبليت المحكمة من المس بمكانتها وشرعيتها، إذا استخدمت صلاحيات مقاضاة كاملة فسيكون الأمر بحاجة إلى تفسير إبداعي. في المقابل، تخشى المحكمة من أن امتناعها عن هذا التفسير سيشكل تأييداً لسلوك إجرامي لا تتم المعاقبة عليه.

الفيل الذي في الغرفة

حول حالة موقف المستشار القانوني للحكومة من الصعب عدم الانفعال من الطريقة التي يحاولون فيها إخفاء الفيل الذي في الغرفة: قرار إسرائيل الامتناع عن المصادقة على ميثاق روما بعد توقيعها عليه، رغم أنه كان لها التزام أخلاقي من الدرجة الأولى لتأييد إنشاء محكمة جنائية دولية، التي هي في المقام الأول عبرة ورد على الجرائم التي نفذت ضد الشعب اليهودي، وعلى رأسها إبادته في الكارثة.

في وثيقة الرأي القانوني للمستشار القانوني للحكومة ورد خوف من تسييس المحكمة. ولكن لا يتم التطرق للمنع الذي يسري على دولة محتلة في توطين سكانها بالمناطق التي احتلتها، الذي كان الاعتبار الأساسي لإسرائيل ضد مصادقتها على الميثاق. يدور الحديث عن حظر مطلوب ومبرر. لأن إسرائيل لو كانت غير متورطة حتى عنقها في مشروع الاستيطان في المناطق، لأيدته. محاولة إسرائيل تدلل إلى أي درجة هي حاضرة وملزمة تلك المبررات التي تقف في مركز هذا الرفض: وضع الصعوبات الكبيرة أمام إمكانية التوصل إلى تسوية، ومنع سرقة الممتلكات من السكان المحليين، وعدم القدرة على تطبيق سلطة قانون مساواتية في الوقت الذي يعيش فيه على الأرض نفسها مواطنو الدولة الذين يقعون تحت سيادتها.

ولكن حتى أفضل الاستشارات القانونية لا يمكنها إصلاح ما فعله الزبون. محاولة الدفاع بأي ثمن عن دولة إسرائيل تمس بالموثوقية، وبالتالي بصلاحية الرأي القانوني. هذا الرأي يصور إسرائيل وكأنها محقة تماماً في تعاملها مع الفلسطينيين، في حين أنهم هم العقبة أمام التوصل إلى التسوية. هم وليس أفعال الحكومة في مجال السيطرة على أراضي فلسطين، التي يتم تعرضها السلطات كأراضي وطن وليس كأراض تضع يدها عليها باحتلال عسكري.

بشكل عام، يتساوق الرأي القانوني للمستشار مع المقاربة المقبولة في العالم حول حل الدولتين، ولكن ليس دائماً. هكذا، في البند 26 الوارد في رأي المستشار تظهر لدينا مقاربة مختلفة توضح فيها إسرائيل بأن حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم لا يجب أن يتم التعبير عنه بدولة.

في ختام الرأي القانوني، ورد بأن تدخل المحكمة سيضر بقيم حاسمة، مثل العدل والسلام، وسيضر بمصالح الطرفين. للأسف الشديد، إزاء نوايا سلطات إسرائيل أصبحت هذه الأقوال فارغة تماماً. ويمكن القول تقريباً بأن العكس هو الصحيح.

منذ سنوات والذيل اليميني المتطرف هو الذي يحرك جسم الحكومة في كل ما يتعلق بالمستوطنات والسلب. القانون الذي يقوم بشرعنة مصادرة الأراضي من الفلسطينيين في المناطق، “قانون السلب”، هو مثال جيد على لك. وخلافاً للتحذيرات، حتى من قبل المستشار القانوني، تنازلت الكنيست عن ادعاء قديم وسائد يقول بأن مشروع الاستيطان هو مشروع خاص لمستوطنين يعملون بصورة حزبية. لقد كرست الكنيست للقانون نفسه قناع أفعال الدولة التي تحول الاستيطان إلى مشروع للدولة المستوطنة، وهذا عمل يمكنه أن يوفر الذخيرة للمحكمة الدولية.

منذ تولي ترامب حكم الولايات المتحدة تقوم الحكومة الإسرائيلية بنثر تصريحات بغطرسة تناقض ادعاءها الرسمي أمام المحكمة العليا والعالم بأن الاستيطان في المناطق أمر مؤقت. وبأفعالها هذه توضح بشكل جيد بأن الأمر يتعلق باستيطان أبدي، وكذا عن نيتها ضم جميع المستوطنات، القانونية وغير القانونية، ومناطق أخرى. وعلى ذلك وجهت بنسودا الانتقاد.

مسألة صلاحية المحكمة هي في الحقيقة أمر أولي. ولكن يصعب القول بأن المدعية التي قررت أنه يجب التحقيق في تنفيذ جرائم حرب وأن المحكمة ستحسم بشأن صلاحياتها، لا تتطرق لسلوك إسرائيل في المناطق التي تضع يدها عليها. من هذه الناحية، الحكومة الإسرائيلية تفعل كل ما في استطاعتها تقريباً لطلب التدخل القضائي من قبل المحكمة.

وفي إطار التقدير الشامل لسلوك إسرائيل، لا يمكن تجاهل السجل غير المرضي لإسرائيل في كل ما يتعلق بالمعالجة المستقلة، غير المتحيزة والسريعة والفعالة، للاشتباه بتنفيذ جرائم ضد الفلسطينيين. وسيكون من الصعب نسيان السلوك المشين للمستوى السياسي في إسرائيل (باستثناء وزير الدفاع في حينه موشيه يعلون) في قضية اليئور ازاريا. وسيكون من الصعب التغاضي عن الهجمات على جهاز إنفاذ القانون: إذا كان المستشار القانوني مستخذياً إلى درجة أنه أصبح غير قادر على الصمود أمام ضغوط شاي نيتسان، الخاضع له، فكيف يمكن الاعتماد على قدرة صموده أمام اشتباهات جرائم الحرب المنسوبة لشخصيات رفيعة في الجهاز العسكري؟ إذا أمكن تصديق أقوال وزيرة العدل السابقة، اييلت شكيد، التي نفذت بحسبها ثورة في الهيئة القضائية وملأتها بقضاة قوميين متطرفين مدينين لها، فهل يمكن الاعتماد على استقلاليتهم في كل ما يتعلق بمعالجة جرائم الحرب؟

إذا قررت المحكمة بأن ليس لديها صلاحية لمناقشة شكاوى الفلسطينيين، فهذا ينبع من حقيقة أن فلسطين ليست دولة، وهذا لن يكون بفضل سلوك حكومة إسرائيل، رغم أفعالها.

إن منظر شخصيات عامة حكومية تقف للمحاكمة أمام هيئة دولية هو أمر صعب وغير محتمل. هو إهانة وطنية. شكلت المحكمة كسيف مسلط على رؤوس الدول كي تفرض عليها التصرف بنفسها حسب قواعد القانون الدولي. دولة سليمة ومسؤولة يمكنها الامتناع عن هذا الحلم المذكور. في المقام الأول عن طريق سلوك لا يخرق القانون الدولي، وعن طريق معالجة ذاتية جدية وموثوقة -بواسطة جهات إنفاذ قانون مستقلة وغير متحيزة- لشبهات ارتكاب جرائم. يجب أن نضيف سلوكاً تمليه اعتبارات موضوعية، وليست اعتبارات حزبية وشخصية، وعن طريق العقل السوي والانضباط. وحكومة إسرائيل لا تتصرف هكذا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى