ثقافة وفنون

التاريخ جزء من المستقبل .. ملتقى ثقافي تونسي يحتفل بفلسطين

بعنوان “العودة” نظمت الرابطة العربية للفنون والابداع بتونس ملتقاها الثقافي السنوي العاشر الذي جمع مشاركات عربية ودولية وكان شعاره لهذا العام “التاريخ جزء من المستقبل” بإشراف وزارة الثقافة التونسية وبالتعاون مع المندوبية الجهوية للثقافة بالكاف.

هذا اللقاء الذي تزامن مع احتفالات ذكرى يوم الأرض الفلسطيني العربي وذكرى الشهداء بتونس حمل رسالة الانتماء للوطن الأكبر بمحبة وانعتاق جمالي ابداعي حر وتبني القضايا الإنسانية العادلة والتعبير الثقافي عن الحياة والأمل والحق برقي فكري وحضاري، وقد ارتكز الملتقى على برمجة تبنت فكرة تعاون الفنون العربية والعالمية التي تبنّت القضية العربية والعالمية الأولى القضية الفلسطينية، ولهذه المناسبة استضاف الملتقى فنانين ومثقفين وشعراء من تونس فلسطين الجزائر المغرب العراق لبنان سورية السويد صربيا والولايات المتحدة الامريكية.

ومن أبرز المشاركين الفاعلين في البرمجة نذكر من فلسطين الممثلة والكاتبة الفلسطينية ومؤسسة فرقة الفنون الشعبية الفلسطينية “ميساء الخطيب” الفنانة الفتوغرافية “ابتسام سليمان” والفنانة المختصة في حفظ التراث الفلسطيني للتطريز واللباس التراثي “مريم عطايا” والفنان المطرب الفلسطيني المقيم بالسويد “هايل دياب”، من المغرب الشاعر والناشط الثقافي “محمد منير”، من لبنان-الولايات المتحدة الأمريكية  “متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية Farhat Art Museum”.

وقد أكدت السيدة فتحية الهاشمي رئيسة الرابطة العربية للفنون ومؤسسة القافلة في مداخلة مع إذاعة تونس الثقافية أن الملتقى رسالة محبة تؤكد أن الانسان أرقى بالثقافة وأقوى بهوية تثبت بقاءه وحقه وأن الوطن الحقيقي هو الذي لا يفصل ذاته الحرة بجدران تحجب أو تعيق الابداع بل يبني لها جسورا للتواصل والفرح والأمل والحياة.”

“وجوه من فلسطين”

حملت ابتسام سليمان فلسطين على طريقتها التي رشحت بوجوه اختزلت تجاعيد الأرض الغارقة في ترابها من خلال انسانها الخالد بالحكاية والواثق بالأمل الباقي جيلا بعد جيل مجموعة صور لملامح فلسطينية من مدن وقرى مختلفة لكل منها حكايته مع الأرض، فكانت صورا اقتنصتها من ثقوب الذاكرة وانتشلتها من غبار الزمن في عمق يستنطق لحظتها وحضورها وانعكاسها الحاضن لعين المتلقي بجماليات التفاعل ومفاهيمها الماورائية، وهو ما عبّرت عنه الفنانة وهي تحكي قصة كل صورها وشخصياتها وتأخذ المتابعين إلى عوالمهم بمرحها ويومياتها المكثفة بالحياة والمتداخلة بالصراع مع الواقع والمتحدية بالأمل.

وتعتبر سليمان زيارتها لتونس مكسبا حقيقيا لأنه عكس صورة فلسطين في تونس التي لم تشعر فيها بالغربة والاغتراب وتعرّفت فيها على حضارة وتاريخ وطبيعة حملتها إلى عمق الأرض والتواصل الذي أقنعها أن الوطن فكرة واحدة وثقافات متنوعة وأن درويش صدق حين قال كيف نشفى من حب تونس.

 

 

كرونولوجيا الأغنية الفلسطينية

النكبة الشتات ومحاولة جمع الذات

محاضرة قدّمها الباحث والناشط المغربي محمد منير عن الاغنية الفلسطينية ومراحل تكوينها وتكوّنها وانبعاثها عبر التوثيق السمعي والبصري والانتشار العربي والعالمي من خلال بحث كرونولوجي لواقعياتها وخصوصياتها الجمالية وتأثرها بالتراث الفني والهوية الخاصة بالفلسطيني وتمازجها مع تفاصيلاته الجزئية وتوليفاته الممتزجة مع التناقضات بجمالياته الخاصة سواء من خلال التراث المحكي والزجل المغنى ومن ثمة اقحام التصورات البصرية والرؤيوية للفكرة الفنية والترويج لها من خلال الرقص التراثي والدبكة والفنون الشعبية، ومن خلال مشاركته أشار محمد منير إلى أن مثل هذه الملتقيات مهمة ولها عمقها المؤثر القادر على الجمع بين المثقفين لمزج أفكارهم ومبادراتهم واستيعاب طاقتهم الإبداعية التي تخدم الوطن الواحد وتكسر حواجز التفرقة الوهمية بين كل الجغرافيا العربية.

 

حصار لمدائح البحر

محاضرة قدّمها الناقد التونسي البشير الجلجلي عن تطور التجربة الشعرية وحداثتها التصويرية ومجازاتها التعبيرية في ديوان حصار لمدائح البحر للشاعر الفلسطيني محمود درويش حيث قدّم رؤية تفصيلية في تعاملات الوقت والتاريخ الأسطورة والطبيعة مع الواقع الفلسطيني وتوظيفه الملحمي والشاعري في هندسة المفهوم وانفصال الذات العابثة من ملامحها المشردة إلى ملاحمها الثابتة في الفعل والحضور وهو ما كسر قواعد النثر الشعري وعبث بالتأريخية المعاصرة في سريالية التصور المجازي للصورة وقد طرح الناقد تساؤلاته التي قارنت بين التصورات التجريبية الأولى ومداها التعبيري والتطور الواضح في جرأة التفعيل الشعري وحركته في المرحلة الثانية من تجربة درويش الشعرية.

 

“من ناجي العلي إلى عائشة عودة”

التجلي الفني الذي قدّمته ميساء الخطيب لم يحمل اعتباطية التنسيق ولا جدلية التناول بل قدّم رمزا وذاكرة فنية تعبيرية حوّلت الكلمة إلى رصاصة والرصاصة إلى فناء والموقف إلى خلود في تجربة رسام الكاريكاتير الفلسطيني ناجي العلي حيث قدّمت ميساء بحثا واقعي التجربة والمعايشة للفنان وتأثيره على مرحلة مهمة من تاريخ النضال الفني والتحوّل بالقضية من حدودها الضيقة إلى عالمية التأثير وهذا الفعل الادراكي الذي تقدّم بالتجربة الفنية من الانفعال والعاطفة إلى المفهوم والادراك والتوعية والموقف وهو ما جعل الخطيب تقدّم بالتوازي عرضها المسرحي لسرد بصرية محكية في تجربة الذاكرة الحيّة للمناضلة الفلسطينية عايشة عودة ورحلة الأسر، في تجربة مونودرامية سردية وحكاية قدّمتها الخطيب في تناغم حسي وحكاية أجادت غرس أضافر الوجع في خيال المتلقي المتابع الذي عايش بألم صاعد وتحمل مقهور تلك المرحلة المعتمة إلى مراحل النور التي ختمها صوت الفنانة الفلسطينية سناء موسى حيث تكامل العمل من خلال هندسة الضوء التي أجادها محمد الفروخ بفنية امتزجت وانسجمت مع إيقاع النص وتكامل الأداء الجسدي والتفاعل الذهني الذي تحكّم فيها بالامكانيات المتاحة والمتوفّرة ليتحدى الصورة والصوت بالابداع المتكامل مع العرض الأوّل للمسرحية ليكون كما يليق بأداء ميساء الخطيب التي تقمّصت عايشة بمعايشة ورمزية وحياة لتقول باقية وثابتة منتصرة ومستمرة، بتصور وذهول مدهش الحركة والتحريك التراجيدي لملحمة صارخة التعذيب، بسياطه الموجعة وجلده الموقّع على جسد الذاكرة والذهنية الخيالية التي أطلقت العنان لسخرياتها من واقع تفوق على واقعيته بالصبر والتحمّل بالتماهي مع الأرض والتراب في رمزية الأنثى والأم الحياة والاكتمال، مجازات بصرية وضوء متراكم العتمة لم يُعجز عايشة عن التمسك بالنور ولم يوقف ميساء عند حدود المسرحية التي عكست واقعا وحقيقة بتجليات جمالية رغم التوتّر والارتباك رغم الارتجال والتفاعل والتماهي مع الحركة والضوء كان العرض مذهلا بواقعيّته التي مسّت عمق الإحساس في الضيوف وحملتهم إلى الخشبة المسرح لا بالمتابعة بل بالمعايشة.

وتجدر الإشارة إلى أن مسرحية عايشة هي قصة حقيقية للمناضلة الفلسطينية عايشة عودة أداء وتمثيل ميساء الخطيب، إخراج جميل السايح، تصميم وتنفيذ الإضاءة محمد فروخ، الأغنية كلمات وضاح زقطان ألحان وموسيقى جميل السايح غناء سناء موسى.

 

 

 

الهوية والأرض في التجربة التشكيلية بين التجربة الفلسطينية وتجربة الهنود الحمر

هي المداخلة البصرية التي تناولت التجربة التشكيلية الفلسطينية وتجربة الهنود الحمر ومداها التعبيري عن الهوية والأرض بالاعتماد على أعمال فنية وصور فوتوغرافية لمتحف فرحات الفن من أجل الإنسانية وهي سرد بصري خلق مقارنة بين التجربتين في التعبير والواقعية في الابتكار ودهشة التواصل العالمي في فلسفة البقاء وجدارة الحياة، ما وازن في تقديم التوافق الفعلي الحركي والجمالي لتجربتين ارتكزتا على نفس المعاناة  من نفس منبع سياسة الوحشية واللاانسانية ليكون الاختلاف إبداعا انسانيا انتشل الفلسطيني من عالمه الى عوالم التعبير الجمالي الحر عن وطنه وانتمائه وحضوره وإصراره على البقاء والمقاومة بسلاح الفن والتشكيل ليقدّم تجربة متنوعة وعالمية لم تتوقف عند حدوده بل اخترقت حواس العالم وإدراكه بالفعل الإبداعي ليقف في وجه الطمس والسرقة ويحافظ على هويته وانتماءه لأرضه أينما كان.

كما استمرت التجربة البصرية في تقديم المتحف أفلام قصيرة عن تجربة العودة وتصورات الوجود من خلال رؤية الفلسطيني الفنان والمبدع المهاجر الذي لا يعرف أرضه إلا في نشرات الأخبار أو الحكايات المتوارثة عن الوطن ليوظّفها بتفاعله الحسي والادراكي مع الأرض واختلافاتها التي تنتمي لاستثناءاتها المتناقضة كطبيعة متغيرة حسب واقعها من خلال فيلمين قصيرين بعنوان “محيط لاعادل” و”في هذا اليوم اعتقلوا ابني”.

 

كما كان الحضور الفني الفلسطيني مرفقا بصوت الفنان الفلسطيني المقيم بالسويد “هايل دياب” الذي عبّر فنا وطربا خلق تفاعلا مع الضيوف قدّم فيها التراث الفلسطيني ومجموعة من أغانيه الخاصة.

معبّرا عن اهتمامه بمثل هذه اللقاءات التي عرّفته على أبناء وطنه فلسطين وجمعته بمثقفي الوطن العربي على مفاهيم وطنية حقيقية وسعي فني وثقافي لبناء المحبة خاصة وأن الحفاظ على أصالة الهوية والتعبير عنها ثقافيا هي مقاومة وصمود واستمرار حر وحي على مبدأ واحد وهدف واحد هو الوطن وقد أكد أن ما يجمع تونس وفلسطين هي محبة كبيرة وعبّر عن هذه المحبة بتقديم أغنية من التراث التونسي بصوته كانت هدية لضيوف الملتقى.

كما قدّم الملتقى تجارب شعرية مختلفة نذكر من بينها الشاعرة ضحى بوترعة التي رأت في مثل هذه الملتقيات “فرصة للتلاقي والتثاقف الذي يحتاج وعيا بما نقدّم ولما ننتمي بما يكثّف النشاط والتواصل ويثبت الذات في وطن يحتاج مثقفيه برقي ووعي لأن الثقافة هي اللغة الأساسية والمطلوبة لمواجهة كل أنواع الإرهاب والاغتصاب السياسي والتفكك الجغرافي.”

 

إن العمل الثقافي والتواصل الإنساني يرتكز على المعرفة والتعمّق في الذات وهوية الأرض وأصالة التقارب الداخلي والخارجي وفكرة الاندماج التراثي الثقافي الذي يبني المحبة التي تحتفل بكل الوطن وتشارك سنويا محبته على أرض تونس، حيث احتفلت العام الماضي بالعراق والأردن وهذا العام بفلسطين والعام المقبل تكون مصر ولبنان حاضرة بتنوعها الثقافي ومثقفيها.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى