تقارير وتحليلاتمصر

السيسي استعاد دور مصر الإقليمي

في عام 2019، سوف تحتفل مصر بمرور 150 عاماً على إنشاء قناة السويس، وفي العام ذاته تبوأت رئاسة الاتحاد الإفريقي بعد أن كان الاتحاد علّق عضويتها منذ بضع سنوات، في مؤشر قوي على استعادة مصر لدورها الإقليمي.

يبدو أن التزامن بين الحدثين يظهر كيفية تأثير الجغرافيا المصرية على تاريخهاز

فمصر أهم من أن يتم تجاهلها أو مقاطعتها، ولكن أحياناً تكون أضعف من أن تتحكم في محيطها.

وتعد قناة السويس الممر المائي الذي يربط بين البحرين المتوسط والأحمر، وتوفر طريقاً مختصرة للشحن البحري العالمي، برهاناً على الموقع الاستراتيجي الكبير للبلاد.

لكنَّ التحكم في نقطة بالغة الأهمية لم يكن كافياً لحماية أهمية مصر من التناقص على الصعيد العالمي، حسب تقرير لمركز Stratfor الأمريكي للدراسات الاستراتيجية والأمنية.

وفي حين أنَّ مقدار أهمية مصر بالنظام العالمي ربما يكون موضع جدل، فقليلون في الشرق الأوسط سوف يجادلون في محورية دورها بالمنطقة.

شروط استعادة مصر لدورها الإقليمي تكمن في الداخل

ومع ذلك، فإنَّ رغبة مصر في إشراك نفسها بالشؤون الإقليمية تزيد وتنقص وفقاً لمدى استقرارها في الداخل.

واليوم، بعد سنوات من الفوضى السياسية منذ الربيع العربي وعودة الجيش إلى السلطة، فإنَّ السياسات الداخلية في مصر قد استقرت.

في ظل هذا النهج المُجدَّد، فإنَّ برلمان مصر يناقش حتى مدَّ حدود فترة ولاية الرئيس، وهي علامة على ثقة الحكومة بحصانتها ضد التحديات الداخلية.

كما أنَّ الاقتصاد قد عاد إلى مساره الصحيح، مع استقرار مؤشرات الاقتصاد الكلي بعد قرب انتهاء برنامج طموح لصندوق النقد الدولي مدته 3 سنوات، حسب وصف التقرير الأمريكي.

لذا، فبينما كان العقد الأخير فترة تركيز داخلي لمصر، فالبلاد الآن في وضع يمكّنها من العودة لدورها التاريخي بوصفها قوة متوسطة، حسب وصف التقرير.

لماذا نجحت مصر في الحفاظ على وضعها كقوةٍ متوسطةٍ فترات طويلة بالتاريخ؟

سلكت مصر، خلال معظم تاريخها الحديث، نهجاً بوصفها قوة متوسطة استراتيجية بالشرق الأوسط، فشاركت في صراعات عديدة أو توسطت فيها، وقدمت دعماً دبلوماسياً للحلفاء الذين يسعون للاستفادة من ثقل البلاد.

إذ تشغل مصر موقعاً محورياً في العالَمين العربي والإسلامي، مع خط ساحلي واسع بطول 3 ممرات مائية رئيسة: البحر الأحمر، والبحر المتوسط، ونهر النيل.

كما أنَّ لديها أكبر قوة عسكرية عربية، وضمن بَحرية ضخمة وسلك دبلوماسي متطور.

لديها تأثير ثقافي وديني لا يضاهى

وفي حين أنَّ السعودية ودول الخليج الأخرى كانت تميل إلى أن تكون أكثر الدول العربية ظهوراً بالدبلوماسية العامة خلال السنوات الأخيرة، فالحكومة المصرية كانت قائداً إقليمياً قبل وقت طويل من إنشاء دول الخليج ذاتها، وقبل أن تكتشف النفط الذي يغذي قوتها الآن.

ثقافياً، تحظى مصر -صاحبة أكبر عدد سكان في العالم العربي بأكثر من 100 مليون نسمة، آخذين في النمو بسرعة- بأهمية قصوى في العالم العربي، والعالم الإسلامي الأوسع مدى.

فجامع الأزهر مع مؤسسته الدينية، على سبيل المثال، يعترف به على نطاق واسع بأنه المركز العالمي للتعليم الإسلامي السُّني.

فدوماً استغلت موقعها لنيل المكتسبات من القوى العظمى

أهمية مصر بوصفها قوة وسطى يندرج تحتها كيفية ارتباطها بالعالم الأوسع.

ذلك أنَّ مصر الحديثة قد استغلت نفوذها الإقليمي لانتزاع الفوائد من القوى العالمية التي تنافس من أجل الهيمنة.

ويعتبر الانتقال الحاد من الملكية إلى الجمهورية، عام 1952، مثالاً كلاسيكياً على هذه الديناميكية.

إذ وجدت مصر نفسها، في ذلك الوقت، بموقع فريد للاستفادة من التوترات الوليدة للحرب الباردة بين الشرق والغرب.

فوازنت في البداية المملكة المتحدة ضد الاتحاد السوفييتي، ثم وازنت الولايات المتحدة ضد الاتحاد السوفييتي، حسب وصف تقرير المعهد الأمريكي.

ولهذا السبب لم تجرؤ القوى العظمى على إغضابها

وقد أكسب هذا الأمر مصر مساعدات عسكرية واقتصادية كبيرة، بالإضافة إلى الدعم الدبلوماسي من جميع الأطراف، لأنه لم يكن أحد من القوى العالمية راغباً في استعداء القاهرة والمخاطرة بخسارة الوصول إلى قناة السويس أو الجيش المصري القوي واقتصاد مصر وسوقها الاستهلاكية الكبيرة.

واليوم، تواصل مصر هذا التوازن، إذ تتلقى أكثر من مليار دولار سنوياً من المساعدات العسكرية الأمريكية، في حين تشتري بالوقت ذاته معدات عسكرية روسية، وتستكشف قدرات تطوير الطاقة النووية مع موسكو.

وتضخ الصين أيضاً استثمارات في مصر، واضعةً نصب عينيها سوقها الاستهلاكية وبيئتها التصنيعية، ولضمان سهولة الوصول إلى البحر الأحمر وقناة السويس بوصفهما جزءاً من مبادرة الحزام والطريق الصينية.

ومع ظهور مصر بوصفها لاعباً إقليمياً أكثر ثقة، فسوف تجد هذه القوى العالمية الثلاث نفسها أيضاً تتنافس للحصول على اهتمام مصر.

ولكن، ظل لها منافسون إقليميون أقوياء

وبالقدر نفسه الذي يصعب معه الجدال بشأن القوة المتأصلة في مصر، فكذا الحال مع نقاط ضعفها.

فعندما كتب الرئيس المصري الأسبق، جمال عبد الناصر، عام 1955، أنه «لا بلد في العالم يستطيع الإفلات من النظر إلى ما وراء حدوده، للعثور على مصدر التيارات التي تؤثر فيه»، كان يعترف بأنَّ مصر الحديثة ينبغي لها أن تموضع نفسها بحكمة، حتى بين القوى الأقوى.

اعترف ناصر بعجز مصر عن محاربة الواقع الجغرافي الذي يربطها بالجيران والمنافسين مثل السودان وإثيوبيا في اتجاه النيل، أو تركيا وهي قوة أخرى تسعى للهيمنة على شرق البحر المتوسط.

ويشتهر ناصر بحشد العالم العربي ضد التعدي الغربي وإسرائيل، على الرغم من أنَّ خلفه الرئيسَ السادات قد تحوَّل عن مساره بخصوص إسرائيل عام 1979، كما هو معروف.

ولكن مشكلة مصر الكبرى كانت تأتي من الداخل

ومع ذلك، فإنَّ فترات النضال والمشكلات السياسية والاقتصادية الداخلية في مصر قد قوَّضت، باستمرار، قدرتها على العمل بوصفها قوة محترمة ووسيطاً بين الدول الإقليمية.

لكنَّ هذه الفترات لم تبدل من الضرورات الإقليمية الأساسية لمصر، وهي كالتالي:

أولاً، مصر ستدافع عن قلبها السكاني على طول نهر النيل الأدنى والدلتا من أي تهديدات أمنية من شأنها أن تتسرب عبر حدودها.

وثانياً، فهي ستحارب أي شيء، سواء كان سياسياً أو مادياً، يهدد وصولها إلى المياه والوقود والإمدادات الاقتصادية التي تحتاجها من أجل سكانها المتزايدين بسرعة.

وثالثاً، فستقاتل للحفاظ على حريتها في اتخاذ القرار حول من تتعامل معه وأي الصراعات التي سوف تتورط فيها.

الربيع العربي.. مطالب الحرية تُضعف النفوذ الإقليمي

كانت احتجاجات الربيع العربي لحظة تفاؤل ديمقراطي نادرة في مصر، بعد الإطاحة بالرئيس مبارك الذي حكم مصر فترة طويلة، عام 2011، وتبعتها الانتخابات الرئاسية عام 2012، التي تلاها تشكيل حكومة للإخوان المسلمين.

وشكلت هذه الاحتجاجات أيضاً بداية فترة مضطربة سوف تشهد تراجع مصر عن دورها الإقليمي التاريخي، رغم أنها كانت جزءاً من لحظة فريدة من التفاؤل الديمقراطي للعالم العربي بأَسره.

ومع ذلك، فإنَّ المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وهو الهيئة العسكرية التي تهيمن على الشؤون المصرية، رأى عامي 2011 و2012 بوصفهما فترة تقلُّب مخيفة.

يقول المعهد الأمريكي إن الأحداث التي وقعت في عام 2013، وانتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسي عام 2014، ساعدا على تهدئة الأجواء السياسية المضطربة.

يرى تقرير المركز  الأمريكي أن استعادة مصر لدورها الإقليمي لا تعود فقط للهدوء الذي فرضه الجيش على البلاد، ولكن أيضاً بفضل تغيُّر الوضع الاقتصادي.

فقد تحسن الاقتصاد المصري الهش، وإن كان الاقتصاد ما يزال نقطة ضعف البلاد، حسب التقرير.

وعلى مستوى الاقتصاد الكلي، فإنَّ اقتصاد مصر بدأ يظهر بشكل أقوى مما كان عليه لسنوات، والفضل في ذلك يعود جزئياً لالتزام القاهرة ببرنامج صندوق النقد الدولي، الذي عادة ما ينتقده المثقفون المصريون بشدة.

إذ حققت البلاد أعلى مستويات النمو منذ عقد من الزمان، وأكبر استثمار أجنبي مباشر من أي بلد آخر في إفريقيا لعام 2018، جنباً إلى جنب مع ارتفاع أعداد السياح.

أبقت مؤسسة موديز العالمية على نظرتها الإيجابية تجاه النظام المصرفي المصري مدفوعة بتحسن البيئة التشغيلية.

ونقلت وكالة رويترز عن المؤسسة قولها إن من المتوقع أن يبلغ نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي في مصر 5.5 % في 2019 و5.8 % في 2020، وإن معدل انتشار الخدمات المصرفية سيزيد مما يدعم نمو الودائع والقروض.

ويؤدي هذا التقدم الذي تحرزه القاهرة إلى استقرار اقتصادها، ويعني نظامها السياسي الداخلي أنها الآن مرتاحة بما يكفي لاستئناف دور أكثر فاعلية بوصفها وسيطاً وقائداً في بعض الصراعات الإقليمية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى