ثقافة وفنون

المرأة والطبيعة في لوحات الفنانة عفاف عبد العال

للفن أوجه عديدة يحاكى بها الظاهر والباطن ـ رغم تعدد لغاته ومشاربه ـ فهو باقي كبقاء الإنسان على وجه الأرض، يفيض هو بكل المعانى الروحية والجمالية، والتى هى دليل أكيد على قدرته فى تشكيل الحياة منذ خلق الله الكون، هو النطفة والجنين والإنسان، هو العلق الذى يُشكل منذ فجر التاريخ كى تستقيم الحياة، وعلاقة الإنسان بالطبيعة علاقة فسيولوجية لا يمكن الفصل بينهما، لذا غالبا ما يعبر الفنان عن ذاته وهواجسه بتوظيفه لكل عناصر الطبيعة من حوله، ولِمَ لا والطبيعة هى التى غرست فيه نبتة الإحساس بمن هم حوله، وهى الواقع والمتخيل، وقد ربطت “عفاف عبدالعال” بين المرأة والطبيعة، وشكلت من البحر والشجر لوحاتا تؤكد علاقة الإنسان بالطبيعة، مستخدمة ألوانا حية تبحث عن حياة جديدة.


عفاف عبد العال إحدى الفنانات اللاتي ترسمن بلغة تشكيلية فصيحة، تخاطب بها العادى بحس فطرى بسيط، لكن فصاحتها تُظهر دلالتها فى التعامل مع مساحة اللوحة، والتى تحلها بعناصر آدمية ترق لها القلوب، حيث تحتل الوجوه انفعالات ساكنة تشى بالغربة والانتظار، وجوه ذات ملامح رقيقة تنظر للبعيد فى تحد لعوالم مجهولة، لكنها حاضرة بإيماءات ذات بُعد نفسى يشدك داخل اللوحة، فتجعلك أسيراً لعواطف جَمَّة، بطلها علاقة الألوان ببعضها، فالأخضر والأزرق عشيقان، يتناسل منهما الأصفر الداكن والأحمر والتركواز، ليشكلوا حالة هيام لاتلبث أن تجعلك تعزف معها على نفس الأوتار، ففيها علاقة الإنسان بالشجرة والبحر والسماء والقارب والشراع، وهى عناصر تعبر بها عن شخصيتها، فشراع المركب وهو يتحدى الريح ليسير فى اتجاهات مجهولة يحقق التعبير المنشود، وأيضاً تجده رمزاً للشموخ والقوة والبحث، والنخلة السامقة غالباً ما ترسمها مكملة لحالة الثبات والتحدي، فتظهر في الخلفية كتاج فوق رؤوس شخوصها، أو مزروعة ملتصقة بجوار صدرها، والبحر وأمواجه ـ رفيقا دربها ـ فتارة تجد الموجة قد كسرت محيط بحرها، وارتفعت لأعلى لتحتضن الوجوه أو تزين الرؤوس بزخرفة وردية، من الجائز أن نراها غطاء رأس يحميها من عواصف ربما تكون قادمة، فهى تدغدغها وتركبها وتراوغها، وتارة تراها قابضة على مكنونات حسها فتتحدث عما يجول بداخلها، ترى ذلك فى ضربات الفرشاة فى شكل لولبى راقص لم تخطئه العين.


إن البحر بالنسبة لها هو السفر والغربة وأيضاً الحضور، أما الخَضار هو الحياة بكل ما يعنيه من فطرة ونقاء، والسماء هى الأفق الشاسع ناصع الزرقة، وأيضاً التخوف الذى هو عنوان كل شخوصها، شخوص “عفاف عبد العال” تحب الحياة بكل تشكيلاتها وموروثاتها البيئية البسيطة، مثل الشباك، والذى نراه مرسوماً مكملاً للوجه أو للجسد، أو نافذه تطل منها على البعيد، القريب، الحاضر، مثل الستارة التى تخفى جزءا من الجسد أو الوجه، لتطل منها على الشارد منها والوارد إليها، مثل البرواز المعلق على جدران وهمية فى الخلفية، فتراه فارغاً أو به ضربات فرشاة توحى بأن بداخلها عوالم بضّة وحية، فإذا كنت قد أشرت إلى التصوف فى لوحات عفاف عبد العال – فإن التصوف بالنسبة لها – تصوف فى حب الجياة وليس الزهد فيها، فنظرات التأمل فى العيون الشاردة بفرح أو بحزن أو بأمل تجسد هذه الفلسفة، واحتواء الإنسان للطائر والنبات وكل عناصر الطبيعة من حوله، يشير إلى الحب الذى يصل إلى درجة العشق المنزه، الصافي دون ضجيج أو تزاحم.
كائنات جامدة على مساحة اللوحة، وغالباً ما تجد هناك ثنائية في اللوحة، إنسان وشجرة، امرأة وقارب، شباك وفتاة، حمامة تطير أو تحط على يد امرأة، زهور تنبت على الصدور أو أمواج – ثورتها احتواءً لوجه أو تزيينة لرأس، إن الحياة عند عفاف هى مهد الأرض، وزخرفها هو البرهان على فلسفتها، وذلك إذا آمنا بأن الزخرف هو الشجر والبحر والعشب النابت على شاطئ نهر، والوجوه الرائقة التواقة إلى الحلم والسكينة، أما لوحات الزهور فقد رسمتها حية نابضة بضربات فرشاة تأثيرية، مع عدم ثباتها فى خلفيتها، إذ أنها تتسم بهرمونية ربطت بين أسفل اللوحة وأعلاها، ولم تنس الزج بدفقات المياة تحت كل زهرية لتغاير المألوف فى رسم الطبيعة الصامتة.
إن إيمان “عفاف عبد العال” بالحياة جعلها تعيد إكتشاف العالم، وذلك من منظور جمالى حطمته الآلة والمادة وعواصف الدخان الذى هب على كوكب الأرض منذ قرن مضى، إنها رفيقة بول جوجان فى جزر تاهيتى، وفان جوخ فى منفاه، وروبنز ووجوهه المتحدية فى ثبات، ومحمود سعيد وعشقه للبحر، والأخوين وانلى فى البحث عن مكنون الأشياء الصامتة، هى تحول شخوصها إلى راهبات منزهة عن كل ماديات العالم، حيث إنهن يلتحفن بالسماء والغبراء، ويتطهرن كل صباح ومساء فى البحر والنهر والندى المتساقط على الأكف وأوراق الشجر.


إن اللوحة لحن طروب، يعزفه تلاطم الأمواج وصفير الريح وتعانق أفنان الشجر، أما العمارة بمناظيرها المتعددة – نراها حاضرة – ولكنها عمارة تشخيصية، تجدها فى الرقاب المشدودة لأعلى مرسومة من أسفل لأعلى، حتى تصل رؤية العين لقمة الهرم، هى رسومات لا تقل تجسيداً عن منحوتات أحمد عثمان وفلاحاته، أو مختار وبحثه عن جذوره فى قطع الجرانيت الصلبة، فهى ابنة تلك البيئة التى شكلها النهر، وحضارة راسخة تمتد لآلاف السنين، والمتأمل فى لوحات عفاف يجد للمرأة الدور الأسمى فى تشكيل تلك الحياة، إذ لا تخلو لوحة من امرأة، ومن الجائز القول إن عفاف ترى المرأة هى محور الكون، أو الكائن الأسمى للتعبير، ولكن رغم إحتلال المرأة لكل لوحاتها إلا أننى أرى أن الرجل أيضاً حاضر بقوة، إذ هو المفقود والغائب والساكن فى صدرها، ومجازاً من الممكن أن يكون هو القارب أو الشراع أو النخلة أو البرواز، الغامض الخاوى فى الخلفية، أو هو الذى تبرق صورته فى عدسة العين أو الموجة التى تحتويها، أو البيت الريفى البسيط الذى بجوارها، أو الحمامات الطائرة حولها، فقد استعارت عفاف فى رسوماتها طريقة كتابة الحكاية، فالرجل هو المسكوت عنه، هو المحسوس لامحالة دون كلام، أو ظهور مباشر بصورته، لذا قد تركت للمشاهد مساحة شاسعة للتخيل ورسم صور يكمل بها رؤيته.
إنها تشركك معها كي لا تنفصل عنها، وتبقى أسيراً لكل عوالمها النقية الفطرية، ربما تذهب وتعود إليها ثانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى