ثقافة وفنونكتب ودراسات

دراسة ترصد المشهد السينمائي في الرواية العربية

 

لا يمكن تحديد المعني الدقيق للكلمة بعيداً عن مفهومها الأصلي اللغوي الأول، فالكلمة / المصطلح مهما توغلت في سياقات أدبية أخرى فإنها تظل مرتبطة بمستوي المعني لهذا الأصل، لذا لا يمكن فهم أي مصطلح خارج إطار معناه اللغوي الأصلي مهما أضاف تجاور الكلمات ـ في حال تكون المصطلح من أكثر من كلمة ـ إلي جوار بعضها البعض من سياقات، أو استعارات، أدبية مغايرة، لذا يصبح من المهم ونحن نحاول فهم المصطلح ” تداخل الأجناس ” أن نعي المعني اللغوي الأصلي لكلماته كلاً علي حدة، ثم نعي ما أضافه تجاورهما من معني.

يخبرنا المعجم العربي بأن ” تداخلت الأشياء ” أي دخل بعضها في بعض، وسيان إن شكل هذا التداخل امتزاجاً لمكوناتهم من بعد، بحيث نصبح أمام شيء جديد ومغاير، أم ظل كل شيء محتفظاً بسماته الأساسية قبل التداخل، أما كلمة ” الجنس ” فهي الأصل، وفي المنطق الجنس هو ما يدل علي كثيرين مختلفين في الحقيقة، وهو أعم من النوع ( 1 )

تداخل الأجناس إذن هو تداخل للأصول واختلاطها في بعضها البعض علي النحوين السابقين ” الامتزاج أو الاستقلالية ” بما يعطينا الحق في فهمه ـ في إطار الفن ـ أنه بغرض الاستفادة أو تحسين الأدوات التعبيرية أو التعميق، يتوقف الأمر علي القدرة الاستيعابية لكل فن، وعلي امكانيات كل كاتب في استلهام تقنيات الأجناس الأخرى الفنية لثقل روايته، وإن شكلت كل إضافة، في ظننا، عمقاً ما، أو قيمة فنية ما، إلا أننا لن نشعر بذلك إلا بقدر حرفية الكاتب في تقديمها لنا.

الرواية هي ” : ” الجنس الأدبي الوحيد الذي مازال مستمرا في تطوره، و بالتالي لم تكتمل كل ملامحه حتى الآن ، فالقوى التي تسهم في صياغة ملامحه باعتباره جنسا أدبيا لا تزال فاعلة و متحولة أمام أعيننا ،..، و ليس باستطاعتنا التنبؤ بكل احتمالاته التشكيلية ” ( 2 ) فإذا كانت الرواية هي قصة سردية طويلة، لا يحدها المكان ولا الزمن ولا الأحداث ولا الشخصيات، وتقوم علي تقديم رؤية متكاملة للذات أو المجتمع أو العالم، فإن هذه القصة الممتدة تظل قابلة لأن تُحكي عبر أشكال لا نهائية من طرائق الحكي، وأن تستخدم في حكيها هذا عدداً لا نهائياً من الأبنية الفنية، التي تخضع لذائقة الكاتب وأسلوبه وأيديولوجيته وموقعه من العالم، وتظل بذات القدر قابلة لأن تستدعي لحكيها كافة الأساليب والطرائق التي تساعدها علي توصيل رؤيتها إلي المتلقي.

لذا كان ولابد، من خلال هذا الاتساع الشاسع الذي لا يكاد يحده شيء، أن تستلهم الرواية كل ما تستطيع من أساليب وأبنية وتقنيات تخص الفنون الأخرى، لكي تزيد من عمق رؤيتها للأشياء، ومن قدرة تأثيرها الدرامي في المتلقي لجذبه نحوها، والبقاء بداخله بأكثر مما تفعل الفنون الأخرى التي تستخدم الرواية تقنياتها الفنية،  وامكانياتها المتعددة، وأخيراً لكي تطور ذاتها من أجل البقاء كفن يقدر علي المنافسة، ويسعي مثل كل كائن حي للوجود الدائم، والحقيقة أن تلك السمة الفنية ” التأثر بالفنون الأخرى ” هي عملية متبادلة بين الفنون جميعها في العصر الحديث، بل إنها تكاد تشكل السمة العامة والغالبة المشتركة بين جميع الفنون بسبب التجاور، والصراع من أجل التأثير في المتلقي، ثم من أجل المنافسة ـ للبقاء كمنتج ـ في عالم تحكمه قوة رأس المال، ويؤمن بالتجارة والربح في كل الأشياء، بما فيها الفن، لذا يبدو التأثير والتأثر السمة الغالبة التي تشكل الطبيعة العامة للفن في العصر الحديث، بما يمكن أن نطلق عليه ” الفن عبر النوعي ” وإن ظل داخل إطار العناصر الأساسية المميزة لكل جنس.

ولأن ” الرواية تمثل في عمقها صورة عن الحياة ذاتها، التي يحاول الروائي الإمساك بها، ليثبت صيرورتها المرنة، فإن النقد ظل عاجزاً عن تقديم نظرية أدبية شاملة عنها، وأفضل ما قام به أنه لاحق التغييرات الجمة التي طرأت عليها ” ( 3 ) لذا فقد تعددت أشكال تأثر الرواية، أو استلهامها، بالفنون الأخرى، فمن الشعر استعارت اللغة التي تتكئ علي المجاز والصورة، بما لهما من قدرات تخيلية قادرة علي إثارة خيال القارئ ومن ثم التأثير فيه، فلم تعد لغة الرواية هي تلك اللغة التي تسرد أحداث الحكاية فقط، بل والقادرة أيضاً علي أن تغوص في أعماق شخصياتها وأماكنها وزمنها وكل مفردات تكوينها، فاكتسبت الكثير من العمق الداخلي الذي مدَّها بقدرات درامية عالية، كما استلهمت الرواية من الملحمة سرديتها القائمة علي وجود الراوي / البطل، ومن الدراما استعارت الحوار الذي يشكل ملمحها الأكثر بروزاً، ومن الفن التشكيلي استلهمت الرواية القدرة علي الرسم بالكلمات، ووعت أهمية اللون واختلاف بنط الكلمات والفراغات البيضاء بين الفقرات، ومن الموسيقي استعارت الإيقاع القادر علي إحداث ذبذباته المتوافقة مع خط سير الأحداث، والمعبرة عن صمتها الداخلي، بحيث أصبح إيقاع الرواية المتراوح بين البطء والسرعة، والعلو والهبوط، وكأنما موسيقي تصويرية تساعد إلي أبعاد كبيرة في التأثير علي القارئ، وتحدد كيفية توصيل الرسالة إليه من خلال تحديد شكل الحكي.

علي أن أهم ما استفادت به الرواية، في اعتقادنا الشخصي، يأتي من فن السينما، فثمة تقنيات متعددة من طرائق الحكي، مثل الفلاش باك، وتجاور الأحداث، والبنية الدائرية، ساعدت علي تعميق الفن الروائي، وتطويره من حيث الشكل وقدرته علي تقديم موضوعاته بطرائق شيقة وأكثر جذباً، علي أن يبقي بناء المشهد من أهم التقنيات التي استفادت بها الرواية من السينما، حيث يشكل المشهد الوحدة الأولية للبناء في كل منهما، رغم شكله المحدد الصارم في السينما، واتساعه اللامحدود في الحكي، فاللغة أسرع من الصورة من حيث حرية الحركة والانتقال في الزمن والمكان، لكن الصورة أكثر قدرة علي التجسيد والرؤية وبعث الروح من داخل الصمت.

تعتمد الرواية في بنائها الفني تكنيك التقسيم إلي فصول أو أجزاء، يستطيع الفصل الواحد أن يحتوي بين جنبيه علي فترات زمنية طويلة، أو علي الأقل يقص علينا جزءاً كاملاً من حياة البطل أو الشخصيات التي يتناولها، لذا يأتي هذا الفصل الواحد ممتلئاً بالمشاهد المتتالية أو المتداخلة، علي عكس السيناريو الذي وإن كانت بنيته الفنية قد اعتمدت علي فكرة التقسيم الدرامي التي بدأت بها الرواية علي شكل بداية ووسط ونهاية، حيث أن ” الفيلم السينمائي ما هو إلا وسيلة بصرية تجسد درامياً الخط الأساسي لقصة ما، فإن للفيلم بداية ووسطاً ونهاية، والبناء الدرامي هو ترتيب لأحداث وحلقات متصلة بشكل خطي متنامي، أو أحداث تدفع باتجاه حل درامي، وهذا الترتيب الخطي يعتمد علي النموذج المذكور ” ( 4 ) إلا أن الوحدة البنائية الأساسية للفيلم تظل هي ” المشهد ” الذي يشكل تتابعه تتابعاً لأحداث الفيلم من البداية إلي النهاية، دونما أن تظهر علي الشاشة تلك التقسيمات الدرامية التي ترتب هذه المشاهد إلي بداية ووسط ونهاية بحسب السياق المتنامي لأحداث القصة، بعكس الرواية التي تمثل التقسيمات الفصلية بها حداً فاصلاً بين كل فصل وآخر، تحدده الأرقام أو العناوين أو حسبما يتراءى للكاتب الروائي.

ويعتمد البناء الدرامي للمشهد علي مجموعة من اللقطات التي تشملها وحدة المكان والزمن، وتنتهي حدود المشهد بتغير أحدهما، أو بتغيرهما معاً، وتتباين اللقطة المكونة للمشهد من حيث الطول إلي لقطة طويلة ولقطة قصيرة، ومن حيث الحجم إلي لقطة عامة، ولقطة ايطالية، ولقطة متوسطة قريبة، ولقطة مكبرة، ولقطة مكبرة جداً، بحسب حركة الكاميرا الأفقية والرأسية، وبحسب رؤيتها في اظهار المنظر، فاللقطة تبدأ من لحظة وقوع عين الكاميرا علي شخص / شيء ما تثبت عليه لإظهار احساس معين كمنظره العام، أو لإظهار لقطة مكبرة للوجه أو لأي جزء من أجزاء الجسد أو الشيء، وتنتهي بالانتقال إلي شخص / شيء آخر، وهذه هي اللقطة القصيرة، وإما أن تبدأ به ثم تتحرك أفقياً أو رأسياً لإظهار شيء آخر يتعلق به، أو يتعلق بالإحساس أو الدلالة المراد ايصالها للمتفرج، ثم تنتهي بالانتقال إلي شخص / شيء ما داخل حدود الزمن والمكان، ويُحَدِّد نوع اللقطات من حيث الطول والقصر ايقاع المشهد، فاللقطات الطويلة توحي بالبطء، والقصيرة توحي بالسرعة، يساعدها في ذلك حركة الكاميرا ونوع المونتاج الذي يربط اللقطات ببعضها البعض، فالقطع يوحي بالسرعة مثلاً، بينما يوحي المزج، أي تداخل نهاية اللقطة ببداية اللقطة التي تليها، بالبطء، بذلك يتم ضبط ايقاع المشهد، ومن خلال ترتيب ايقاع المشاهد في تنغيم معين يتم ضبط ايقاع الفيلم كله، فضلاً عن ترتيب أحداثه حسب السياق الدرامي للقصة، هكذا تتحدد أهمية المشهد السينمائي بالنسبة لأحداث قصة الفيلم، فهو:

1 ـ هو الوحدة البنائية الأولي المكونة للأحداث، والتي تهبنا الشكل العام للبناء الدرامي للأحداث.

2 ـ هو الذي يُحدد ايقاع الفيلم من حيث السرعة أو البطء، وبالتالي يحقق تأثيره الدرامي في المتلقي. والمشهد 3 ـ هو الذي يُحدد بؤرة الأحداث والشخصية المهمة في الفيلم من حيث حجم ظهورها، ودرجة تأثيرها.

وهذه السمات الفنية للمشهد السينمائي هي من أهم ما يمكن أن تستفيد به الرواية، في حال استلهامها له في بنيتها الفنية، فإلي أي مدي تحقق هذا للروايات الجنوبية التي بين أيدينا؟

يبدأ محمد عبد الحكم روايته ” طلب صداقة ” بمشهد سينمائي مفعم بالحركة، الداخلية والخارجية، فعينه الراصدة تفتح الكاميرا علي رجل يجلس أمام صفحته الشخصية علي موقع التواصل الاجتماعي الفيس بوك في جهاز الكمبيوتر، وبينما نستمع إلي حديثه الهامس مع نفسه، كحركة داخلية، وهو يقدم لنا المعلومات التي ستتأسس عليها بقية الرواية، نستطيع أن نتخيل الحركة الخارجية للكاميرا، وهي تدور حول البطل / المؤلف بكل لقطاتها المتنوعة، سواء اللقطات العامة التي تركز عليه أمام جهاز الكمبيوتر، أو اللقطات المكبرة التي تركز علي تعليقات الأصدقاء علي صفحة الفيس، أو علي وجهه الساخر مرة والممتعض مرة أخرى.

إن أهم ما يتصف به المشهد الأول في السينما هو قدرته علي أن يكون مشهداً تأسيسياً لقصة الفيلم كلها، إنه يؤهلنا نفسياً للدخول فيها، ويعطينا الإشارات اللازمة لمعرفة الشخصية والأماكن والزمن وطبيعة الأحداث والجو الاجتماعي والنفسي، تأسيس يشبه أساس البناء ويُشكل هيئته القادمة بحرفية لافتة، هكذا نعرف وفي سطور قليلة جداً لا تتعدي الصفحة الواحدة، أننا أمام مؤلف روائي وكاتب سيناريو واقع في أزمة نفسية عميقة بين بدايته الأدبية الخافتة ككاتب جاد، ومكانته الآنية البارزة ككاتب للأفلام الهابطة، وهو ينقل هذا الصراع من داخله إلي الخارج من خلال بحثه عن الأصدقاء الجادين علي صفحته الشخصية بالفيس بوك لطلب صداقتهم، إنهم بعيدون عن القاهرة ويلحون عليه لتحويل أعمالهم إلي أفلام، لكنه لا يستطيع ذلك، وهنا تكمن المفارقة، إذ لا يحدث ذلك ليس لأن أعمالهم هابطة بل لأنها جادة وفي موقع بعيد جداً عن مكانته الهابطة، إنهم لا يعرفون أن السينما الآن ليست بحاجة إلي كل هذه الجدية التي تحيلنا إلي وجوه المتعبين، وتناقش قضايا الناس الملحة، بل سينما هابطة تهتم بكل ما هو حسي وغرائزي فقط، تلبية لكل مكونات عناصرها الهابطة أيضاً، المنتج وعادة ما يكون رجل أعمال وتاجر خردة، يفرض نوعية معينة من الأفلام لا تهتم سوي بالإفيهات الضاحكة المبتذلة والأكشن ومناظر المنتجعات وملابس الراقصات ومقص الرقيب المترقب لكل ما هو حقيقي، ثم الممثل الذي يصر علي اقحام جمله الخاصة به في أي فيلم، والممثلة التي تختار مناظر الفيلم بحسب ألوان فساتينها، بل إن فكرة الفيلم نفسها عدَّها المؤلف العارف بأسرار الصنعة جنيناً محرماً نبتت بذرته أثناء سهرة خاصة لـ ليل مظلم، وممتد علي أسراره التي اختلطت فيها المساحيق بالكلمات، والغريزة الجسدية بالفكرة، وتسكع علي أرضيتها السُكر والعري، ولا ينسي المؤلف أن يربط هذا التحول في الفن السينمائي، والذي يغيب عن الأدباء الجادين البعيدين، بحركة الانفتاح الاقتصادي في سبعينيات القرن الماضي، التي غيرت الذوق العام للمصريين، ونزلت به إلي أسافل عميقة لآبار لا قرار لها، ولا سبيل للخروج من متاهاتها المتشابكة.

هكذا يمكننا رؤية الجزء الأول من المشهد سينمائياً، والمكون من لقطة واحدة ممتدة بتقاطعاتها المختلفة والسريعة لمؤلف يجلس أمام جهاز الكمبيوتر، بينما صوته الداخلي يلعب دور الراوي، الذي يهبنا المعلومات اللازمة عنه، والقادرة علي تأسيس الحكاية من بعد، هنا ينتهي الجزء الأول من المشهد ليدخلنا محمد عبد الحكم في مشاهد متعاقبة أخرى، تمثل ” فلاش باك ” لـ اللحظة التي تستغرق المؤلف الآن، ونحن نُعده الجزء الأول من المشهد لأن صوت الراوي يظل ممتداً مع المشاهد التالية التي تمثل تقاطعات لـ لحظة المؤلف أمام جهاز الكمبيوتر، يخبرنا فيها عن تجربته القاهرية، وكيف وصل إلي هذه الحال من السوء بسبب معرفته بـ سمير عارف / بابه للوصول، وأن هذه الحال هي التي تجعل كل الأدباء الجادين، الذين تحملوا الفقر والسجن والخوف والنار في سبيل أن يكتبوا ما يريدون، يرفضون كل طلبات الصداقة التي يرسلها لهم، بعدها يرجع المؤلف إلي لحظته الأولي / مشهده الأساسي، فتعود الكاميرا لرصده أمام جهاز الكمبيوتر كأنما لتضع نهاية المشهد، وكأنما كل مشاهد الفلاش باك الفائتة قد شكلت المبرر لوصول المشهد الكلي إلي لحظة ذروته، حيث يرتمي المؤلف منهاراً أمام جهاز الكمبيوتر، ولا يجد سبيلاً سوي أن يخرج قصته الأولي / بدايته الجادة ليعيد قراءتها، وكأنه يعيد قراءة الأمل الذي جاء به إلي القاهرة، وتاه منه في دروب الوصول المزيف.

وفي تجربة مغايرة تماماً يهبنا أيمن رجب طاهر في روايته ” القحط ” شكلاً جديداً من الأشكال اللامتناهية لبناء المشهد السينمائي، يعتمد فيه علي تقنية المشهد الطويل المكون من عدة لقطات طويلة أيضاً، والمحددة حركته وفقاً لحركة عين الكاميرا، بمعني أن ما يبدو في المشهد هو ما ترصده الكاميرا فقط، وما تواري عنها ليس له أن يظهر، إحدى عشرة لقطة هي ما شكلت المشهد الأول للرواية، بدأها أيمن رجب طاهر بلقطة مكبرة ليد أم الحسن، وهي تمسك بحفنة قليلة من رماد الكانون لتخمد بها نيرانه المشتعلة، ثم تتسع عين الكاميرا إلي الوراء في زووم خلفي لتهبنا منظر عام لها أمام الكانون، وهي ترفع غطاء الإناء فتحيط وجهها سحابة من بخار الأرز الناضج، تتشممها ثم تغطيها مرة أخرى بسرعة، وتظل عين الكاميرا عليها تتابعها وهي تقف متكاسلة إلي باب الغرفة، ثم تقف قبل أن تخرج لتستدير باتجاه الكانون وتصوب عينها عليه، هنا تتبني الكاميرا نظرتها في ” كادر شخصي ” لنري من خلالها لقطة مكبرة للكانون وهو مطفأ، وكأنما كانت تتأكد من ذلك، هكذا تنتهي اللقطة الأولي حيث تترك عين الكاميرا أم الحسن في حركتها المتتابعة لتتركز علي الكانون المطفأ، وعندما تعود إليها مرة أخرى تكون قد انتقلت إلي سقيفة البيت، وتكون الكاميرا قد انتقلت أيضاً إلي اللقطة الثانية، وكأن الكادر الشخصي الذي تبنت فيه عين الكاميرا نظرة أم الحسن قد جاء ليفصل بين اللقطتين.

في اللقطة الثانية الطويلة تتتبع الكاميرا خطوات أم الحسن باتجاه باب البيت الخارجي، تفتحه وتطل برأسها، فتهبنا الكاميرا كادراً شخصياً آخر نري من خلاله نظرة أم الحسن للشارع الخالي في هذا الوقت من العصر، ثم تتركز عليها في حجم لقطة قريبة متوسطة، يظهر فيها نصفها العلوي فقط ابتداء من أسفل الصدر، فنري يدها وهي ترتفع فوق عينيها لتدقق النظر، وكأن الكاميرا تنبهنا إلي أهمية الكادر الشخصي الذي يتتبع عينيّ أم الحسن وينبئ عن قلقها الداخلي، فهل كانت بحاجة لكي تتأكد من انطفاء نار الكانون؟ وهل هي الآن بحاجة ـ بعد أن رأت الشارع فارغاً ـ إلي التدقيق فيه مرة أخرى لتتأكد من عدم عودة زوجها ميمون إلي الآن؟ لكن الكادر الشخصي يظهر قلقها الداخلي الذي لا تبوح به الكلمات،  يتكرر متخذاً أهمية تكرار الكلمة في اللغة لتوكيد المعني ” خطت نحو باب البيت ففتحته، وأطلت بوجهها الصغير، فطالعها الدرب خالياً في هذا الوقت بعد العصر، فردت كفها أمام عينيها مدققة النظر، فلم تلمح سوي بعض المارة في الشارع العمومي، طال انتظارها حتى زفرت أنفاس الملل، فلا أثر لعودة زوجها ميمون من دكان الورق ” ( 5 )

وهكذا يتوالى تتابع اللقطات الطويلة المكونة للمشهد، ولأنه المشهد الأول التأسيسي، الذي ستبني عليه بقية أحداث الرواية من بعد، فهو لا ينسي في تتابع لقطاته الوئيد أن يعطينا المعلومات الأساسية اللازمة لشخصيات الرواية وأحداثها وزمنها وصفات الشخصيات وأعمالهم التي يمتهنونها، وكذا بعضاً من ماضيهم الذي أرساهم علي هذه الكيفية، ولأن المشهد ارتبط منذ البداية بحركة عين الكاميرا، فكل الأشخاص والأحداث التي تظهر أو تدور خارج إطار الكادر لا تبدو فيه.

تنتظر الكاميرا ولوجه إليها ليخبرنا ماذا كان يفعل، هكذا لا يبدو الحسن في الصورة إلا بعد خروجه من الكنيف وهو يبحث عن شيء ما يجفف به يديه، وهكذا لا يبدو ” ريان ” الساقي وهو يدخل بيت الشيخ الضرير ليفرغ قربته الأخيرة، بل تنتظره الكاميرا ـ التي تكون مشغولة بتتبع حركة أم الحسن وأم بشير في الشارع أمام بيتيهما المتجاورين ـ حتى يخرج، ثم تقوم برصد حركته من خلال عينيّ المرأتين وهو يجمع قِربه الفارغة في العربة، ثم تقبض يده علي لجام الحمار ليلف خارجاً من الدرب حتى يغيب، فتلتقي عيونهما علي نظرة خوف متبادلة بينهما من الجفاف القادم، وفى المشهد الذى يجمع عالية ( أم الحسن ) بأختها ثريا في ساحة بيت أم الحسن لا تتبع الكاميرا حركة عالية وهى تذهب للداخل لإحضار أكواب منقوع النعناع فوق الطاولة الخشبية، بل تبقى في مكانها معلقة على ثريا وهى تمسح بعينيها أرجاء البيت المتواضع، بينما ابنها الفضيل يمسح كفه من التراب، هكذا يتحدد المشهد بحركة عين الكاميرا، بحيث لا يتم رصد الأشياء والأحداث إلا من خلالها، مما قد يعتبره البعض تضييعاً لأفق الحركة والأحداث في النص الروائي، حيث تقدر اللغة على تتبع كل الأشياء عبر الانتقال السهل والسريع في المكان، بل وفى الزمن أيضاً، لكن ستغيب عنهم آفاق التجديد والتنوع السردي، كما سيغيب عنهم، بكل تأكيد، هذا التعبير التصويري صامت البلاغة، الذي يغني عن آلف الكلمات بفضل الرصد السينمائي، تعبير قادر علي تجسيد القلق والانفعالات الداخلية بسهولة أكبر، وبتجسيد أكثر وضوحاً، بحيث تصبح الحركة الخارجية للأشخاص والأحداث أسيرة لعمقه الغويط، وليست مجرد صورة مسطحة تمشي علي الورق.

 

   البداية هي وهج الرواية الأول، الذي يقدر علي جذبك كقارئ إلي الدخول فيها، والغوص في حبائل أحداثها المتشابكة، وليست أفضل من بنية المشهد السينمائي لكي تحقق لك هذا الوهج الناصع، حيث الحركة والسرعة والتجسيد والتقطيع المرتب، والتأسيس المتدفق، والتشويق اللا حدود لقدراته الجاذبة، هكذا استطاع محمد عبد الحكم، وأيمن رجب طاهر أن يدخلانا إلي عالميهما بسهولة ويسر، وأن يوقظا وعينا ببنائهما الفني من أول لقطة، وأن ينتقلا بالرواية الجنوبية خطوة هامة إلي الأمام، تؤهلها للاعتناء بالشكل الفني والاعلاء من قيمته وقدراته التأثيرية، جنباً إلي جنب، وكتفاً بكتف، وإلي جوار المضمون الذي ظل مسيطراً لعقود طويلة حتى استنفد كل أغراضه الممكنة، وراح يكرر ذاته بسخف شديد، وجد مَنْ يؤصل له، ليس من أجل الفن، بل ربما لأجل أن نظل هكذا دائماً في العربة الأخيرة من القطار الذي شارفت مقدمته علي الوصول.

لقد أخذت هذه القراءة علي كاهلها مهمة تبيان كيفية بناء الوحدة الأساسية للنص الروائي، لكنها لم تهتم بأي حال من الأحوال، ولا يعنيها ذلك في شيء، بأن تصدر أحكاماً قيمية علي النصوص، لا ما لها ولا ما عليها، إنها قراءة جمالية فنية، تهتم بالتقنية وايضاح كيفية بناء التفاصيل، وتدعو إلي تعميمها، وإن كانت تري أن جودة بناء التفاصيل دليلاً قوياً علي جودة بناء النص بأكمله.

المراجع

ـــــــــــــ

1 ـ المعجم الوجيز، مادة ” دخل ” و ” جنس “.

2 ـ د. صبري حافظ ـ الرواية وإشكالية التجنيس ـ مجلة فصول ج 2 ـ صـ 41.

3 ـ د. صبحة أحمد علقم ـ تداخل الأجناس الأدبية في الرواية العربية، الرواية الدرامية نموذجا ـ المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الأردن 2006، صـ 7.

4 ـ د. مني الصبان ـ فن كتابة السيناريو ـ دراسات موقع المدرسة العربية لفنون السينما والتليفزيون.

5 ـ أيمن رجب طاهر ـ رواية القحط ـ دار الأدهم للنشر ـ صـ 8

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى