ثقافة وفنون

تأملات البحث عن المفاهيم من الرؤية إلى الصدمة ومن المفهوم إلى اللامعنى

الفن التشكيلي والقيمة الإنسانية

تأملات البحث عن المفاهيم من الرؤية إلى الصدمة ومن المفهوم إلى اللامعنى

 

 

إن البحث عن القيمة في الفنون الحديثة والمعاصرة هو المطلب الذي أصبح يرتكز عليه الحضور البحثي والفكري والرؤى النقدية التي تطرح نفسها كلما ثارت ضجة العالم المتسائل عن الفن كقيمة وحضور بين الاستهلاكي والمادي والقيمي والتعبيري، خاصة بعد التناقضات الأخيرة التي أصبحت تثيرها معارض الفنون المعاصرة مثل الضجة التي أحدثها عمل الفنان الإيطالي “مورسيو كاتالان-  Maurizio Cattelan بما قدّمه في معرض بايزيل للفنون المعاصرة بتجسيد “موزة مُلصقة على الحائط” بيعت بثمن خيالي رغم أنها لم تحمل من الجوانب الفهمية والجمالية الإنسانية ما يشهد لها بالإبداع أو الابتكار والخلق ومن هنا كانت الصدمة والدهشة التي تبعتها حركة من الفنان “دافيد داتونا” الذي أكل الموزة في حركة صنّفها ضمن فن الأداء وسماها “الفنان الجائع” وعبّر أنه أكل موزة بقيمة 120 ألف دولار، كردة فعل على كاتالان أو كسخرية استهزائية مما وصل إليه الفن في التعبير المبالغ في الإثارة التي بدورها تستقطب أغبياء الاقتناء الباحثين هم أيضا عن لفت النظر.

 

*فرناز شدرفان

 

فما المقصود من كل هذه الحركات الفنية وما هي درجاتها القيمية وعلاقتها الجمالية بالفنون الإنسانية وما هي مبرراتها التفاعلية التي خلقت نوعا من المزاحمات على الغرابة المثيرة والإثارة المبالغة التي جرّدت الفن من قيمه ومن دوره وهدفه كأن أصبح مجرّد لعبة لفت للنظر ومنافسة على الغرابة دون تمسّك بالقيمة؟

 

Suzanne Klotz

 

إن الفن هو عمل ونشاط إنساني بدرجة أولى وله من القيم الإنسانية ما يبقيه خالدا على كل مراحل التكوين    فكل عصر وحضارة ومرحلة نتاجها التعبيري الواقعي والابداعي والابتكاري هي الفنون والعمارة النحت والتشكيل الصورة والتوظيف الجمالي التي تكوّن أساسا من أسس التغير والتجريب وهو ما صنّفه مؤرخو الفن بالفنون الكلاسيكية ثم الفنون الحديثة وفنون ما بعد الحداثة والفنون المعاصرة.

 

Ian Everard

وبالتالي تشكّلت وفق التصنيف وتفرّعاته وتقيّمت طبيعتها التي لم تنفصل عن الانسان والإنسانية والكون وتفاعلت وفق المُحدثات التاريخية رغم الصدامات والتواترات ظلّمت قيمها الجمالية مثيرة للفكرة والجدل والفلسفة والمفاهيم في النقد والقراءة وبقيت علاقة الفكرة بالجمال علاقة جدلية التعبيرات ورمزية العلامات جمعت البصري بالذهني والحسّي بالإستشرافي، ما ثبّت القيمة الإنسانية حتى باعتبارات مسميات الفن من أجل الفن والفن الملتزم والفن الحر والفن التجاري، لم تختلف الرؤى ولم تتجرّد من قيمتها التي تنافست من أجل الابداع والابتكار والتجريب والمعنى.

 

Eddie Colla

 

فالفن هو ردة الفعل المنعكسة من الذات على الذات المُلتقطة بذاكرتها وذكرياتها بأمكنتها وخيالها بواقعها واستشرافها بحنينها الماضي ورغباتها التغييرية بواقعها المُتخيّل وحضورها المُشتهى، فالفن هو نتاج المقاومة الإنسانية المُبدعة من أجل الأجمل حتى لو بالصدمة والصدام والجدل الحاصل من الفكرة لأن هذا الأجمل مؤثر بدرجاته ومغيّر بإنشاءاته التي تُقدّم الدليل أن الفنان هو إنسان له موقف وله حضور خال من التفاهة والسطحية وسخافة الانفعالات المُزيفة حتى لو بدت بعض الأعمال غريبة، كما حصل مطلع القرن العشرين وبعد الحرب العالمية الثانية التي تُعتبر أكبر رجة تعبيرية خلقت مسميات الحداثة وما بعدها إلا أنها لم تُجرّد الفنون الجميلة من قيمها ولم تستثن الفعل الابتكاري في هندساته المتشابكة للتعبير عن المفاهيم والمفهومية الذاتية والجماعية والنفسية والحسيّة المتفاعلة مع العناصر التعبيرية في الفنون.

 

 

Will Cloughley

 

فلو قسنا الإثارة التي أحدثها مارسيل دوشامب على الفن من حيث المفهوم فإن المجال مختلف عن كل ما يحدث من تجريد للقيمة والأسلوب والابتكار والفعل والإنشاء لأن دوشامب أسّس مستوى آخر ماورائي استطاع أن يتقبّل النقد بالنقد والبناء بالهدم وأسّس لفوضى التعبير التي بنت مرحلة جديدة أسّست قيمها المرحلية التي خرجت عن القوالب الجامدة لأن الهدف منطلق منها فمن تمرّدوا على القواعد الفنية لم يكسروا الفن ولم يهدموا الجمال بل أسّسوا للتجريب والابتكار وأثار منحى جدلي لمفهوم الجماليات أو الاستيتيقا برؤاها الجديدة في العصر الذي عرف تغييرا جذريا فكريا علميا اجتماعية صناعية تقنيا وحتى سياسيا وعسكريا وهذا في المقابل نشّط حركة الفن والنقد فكريا وذهنيا وتأسيسيا وتأريخيا.

 

محمد السعدون

 

إن الفن المبني على الإثارة إنما هو فقاعة وإن الإثارة المبنية على العناصر المادية المُفرغة من قيمها الجمالية إنما هي “سوق” ومُجرد تنافس على السخف والتفاهة التي تستقطب الأغبياء وتستبعد النقاد والباحثين عن العمق الإنساني وتعبّر عن حركة استهلاكية بلا معنى، فحتى لو كان المفهوم غرائبيّا فالصورة التعبيرية يجب أن تحافظ على أهميّتها كما قال “فرانكستال-Francastel” “الفنان الحقيقي يبتكر الخامة التي يحتاجها في منجزه خدمة لمفاهيمه وتعابيره”.

ما يشهد به تاريخ الفن لفنون الحداثة وما بعدها هو أنها خرجت من تلك الأطر والحواجز والصالونات خرجت من ضيق الخيال المُقلّد في التعبير ومن موديلات الفنون المُسقطة لأنها سمحت للمفاهيم بالإنشاء والبحث كما سمحت للتعبير أن يخترق عوالمه ويُعبّر عن ذاته النفسية وواقعه وأحداثه وهويّة انتمائه لمبادئه وهو ما أسّس لفكرة الانسان التي خرجت من القدسيّة وألوهية المنجز الكلاسيكي ذي التوجه الكلاسيكي.

 

Tim Nordin

 

إن المقصد من تحرير الفن والخامة هو الانطلاق بالقيمة والمفهوم لأن العملية الإبداعية في الفن المعاصر أهم من حيث القيمة فهي ثبّتت لتكون أكثر تدقيقا وأشمل معنى كتعبير عام عن الموقف الخاص بكل فنان ودرجاته الابتكارية وحضوره الفاعل في المجتمع وبيئته وضرورته الوجودية البالغة التأثير من حيث الهُوية الثقافية مثل التجارب العربية المعاصرة والأمريكية الهندية و”المستشرقين الجدد” وتجارب العرب المهاجرين والتجربة الآسيوية المعاصرة وبالتالي تمكّنت كل تجربة من إثبات القيمة الفنية والابتكارية والانشائية ذات التفاعل الذي لم يلغ الزمان والمكان والقيمة نفسها والإنشاء والتثبيت، إنه التحدي الذي بالغ في تعبيراته عن الإنسان كقيمة لها جمالياتها البصرية وماورائياتها المعنوية لا كمجرّد استهلاك وإنما كذات تحتاج لمن يدعم قضاياها وتوجهاتها ورغبتها في الحياة وهنا فالفن هو الذي يوجّه المقتني نحوه وليس المقتني هو الذي يبني مستويات الاستهلاك والإثارة المرحلية التي تنتهي بانتهاء الدعاية والتركيز الإعلامي لها إن الفن إنسان وإنسانية تستمر بقيمها.

 

*الأعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى