تقارير وتحليلات

ترجمة خاصة|| إني من ثوار كردستان!.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة ٣٢)

 

هكذا كانت أيامي الأولى في العمل. لكني تأقلمتُ مع الوقت، وازدادت وتيرتي. فسُررتُ بوضعِ العمالة، واشتغلتُ بسرور، وشعرتُ بالمتعةِ في العمل. لكنّ مشاكل أخرى كانت تُضاف إلى حياتي فور عودتي إلى المنزل. إذ بقينا لمدةٍ مع إيبو في المنزل. ثم جاء باقي أيضاً بعد أن تَركَ عمله في المطعم. كان عملهما مرهوناً بالصدفة، ولم يعثرا على عمل دائم. بالتالي، كنتُ الشخص الوحيد الذي يعمل بانتظام واستقرار. وهذا ما أثار حفيظتهما فشعرا بالانسحاق والنقص. وقد عبَّر إيبو عن ردة فعله ذات مرةٍ بقوله: “هذا غير مقبول. أختنا تعمل ونحن نأكل. لا أستطيع قبول هذا”. أما باقي، فكان أهدأ وأكثر صمتاً.
“كنا ثلاثة أشخاص ذوي أهداف مختلفة في منزل مشترك”.
مَرّ الوقت بالعمل الحثيث، فلم أستطع مطالعة كتاب، ولا متابعة المستجدات العامة. حاولتُ نسيان تداعيات الموقف الذي صدر مني بالانكباب على العمل. لكنّ هذا لم يَحلّ المشكلة. كنتُ أشتغل ستةَ أيام في الأسبوع، وتبقى أيام الآحاد للعطلة. لكني كنتُ أنتهزها في معرفة المحيط وزيارة بعض الجمعيات تدريجياً. ففي حيّ “كامارالتي” هناك مراكز حزب التحرير الشعبي والجمعية الثقافية لثوار الشرق. أما في “بورنوفا”، فهناك مركز اتحاد الشباب الثوري. وجميعهم ينشطون تحت اسم الجمعية الثقافية الديمقراطية. بدأتُ بمطالعة المجلات والصحف وبمتابعة المستجدات السياسية. وواظبتُ على النقاش في المنزل حول المقالات المكتوبة في المجلات. لكنّ باقي وإيبو لم يَفِيا تماماً بالوعد الذي قطعاه على نفسَيهما في ديرسم. فكِلاهما يدافعان عن تيارهما بحرارة. وقد ركّز باقي بالأكثر على مطالعة الكتب المعنية بـ”القضية الوطنية”، وتدوين خلاصاتها.
ما يزال اختلافُ وجهات نظرنا حول أن “كردستان مستعمَرة” قائماً. بل وتَجادَلنا أحياناً لساعاتٍ طِوالٍ حول الفوارق الرئيسية بين الاستعمار الحديث والاستعمار الكلاسيكي. كما دارت نقاشاتنا المكثفة مع أصدقائهما الذين يزوروننا في المنزل. وهذا ما حثّني على المزيد من المطالعة. فلو أننا كنا في ديرسم، لَقصدتُ الرفاق فوراً، ولَوفّرتُ دخولَهم على الخط فيما يتعلق بالمواضيع التي ألاقي الصعوبة فيها. أو لَكنتُ صحَّحتُ الخطأ أو النقصان في تشخيصاتي إن وُجِد. لكني الآن في إزمير. ولم أصادف حتى الآن شخصاً قال عن نفسه “أنا كردي أو كردستاني”. كم هو أمر مؤلم. كان أبناء مدينة “وارطو” يسكنون في حيّ “تشيغلي الأكبر”. أي أن أغلب سكانه من النازحين من “وارطو” أو “خنس” بعد أن ضربتهما الزلازل. وقد وجدتُ الجوّ الكردي الذي أحنُّ إليه، عندما كنا نذهب إلى هناك أحياناً. مع ذلك، لم يَقبَل أحدٌ منهم توصيفَ “كردستان مستعمَرة”. فمجموعات اليسار التركي هي التي نظّمَت صفوفها هناك. وعليه، ينتسب الشباب بأجمعهم إلى اليسار التركي. وهكذا هي حال حيّ “غولتبه”. أما حيّ “غوموش بالا”، فأغلب سكانه كانوا من الكُرد.
تَسبَّبَت مقارباتُ باقي بالمشاكل في المنزل. فهو يلتزم بالحدّ الأدنى من التوافق في النقاشات، محاوِلاً إظهار نفسِه أنه يجهد لتوفير الوحدة الأيديولوجية. لكني لا أرى ثباتاً ضمنياً لديه. أجل، كان يبحث ويطالع ويتعمق، لكنه لا يَمَسُّ روابطَه التنظيمية بشيء بتاتاً. فالكادر النضالي في اللجنة المركزية يعتمدُ وجهةَ نظره الأيديولوجية والتنظيمية أساساً في علاقاته. لكنه ليس حميماً جداً في علاقاته معي. بل يُولي الأهمية إلى ترسيخ الوحدة العاطفية معي، على الرغم من ثقته بأني لن أتجاوب معه في حال عدم ترسيخ الوحدة الأيديولوجية والتنظيمية. وقد عَبَّر عن رأيه هذا بين الحين والآخر، فكنتُ أواجهه بالانفعال في البداية، وبقطع النقاش أو بتذكيره مجدداً باتفاقنا الأولي.
أي أن مقارباتي تضمنَت التهرب والجدال المنفعل، ولم أستطع اتّباع سلوك الإقناع. ثم أصبح موقفي هذا أكثر مرونةً. يبدو أن الحالة النفسية الناجمة عن هروبي من البيت قد أثّرَت فيَّ. إذ كان تفكيري على النحو التالي: “أنا التي فعلتُ ذلك. لذا، فأياً كان تصرف الآخرين، فهو طبيعيٌّ ولا يحقّ لي الرد عليهم”. هذا ما حال دون تحقيق التوازن في مقارباتي المُغالى فيها. وعليه، فإن باقي يستفيد من الجو في كلتا الحالتَين. إنه مدرك لنقاط ضعفي ويأسي في هذا الشأن. ركّزتُ على عدم الاستسلام وعدم التحرك وفق مشيئته أو مدى فهم الآخرين، مهما كان الثمن. وقلتُ في قرارة نفسي: “أياً يَكُن، فإنني أعمل. ثم إني تعرّفتُ على العديد من الفتيات، ولن أعاني من مشكلة المَبيت مؤقتاً عند إحداهنّ. وقد أستأجر منزلاً منفصلاً فيما بعد”. بدأتُ أشعر بفقدانِ ثقتي بنفسي، ورحتُ أواسي نفسي بمقدرتي على التصدي لهؤلاء بكل عناد.
كنتُ هربتُ من ديرسم في شهر أيار. واستمرّ تخبُّطي حتى شهر آب. لقد أصبحنا خمسة أشخاص في المنزل: “حيدر” ابن عمتي، وأختُه آينور التي كنتُ طردتُها من قبل، إيبو، أنا وباقي. أما صائمة، فلم تَكُن قد أتت بَعد. استأجرنا منزلاً جديداً في نفس الحيّ. لكنه قريب من المقهى والمراكز التي يَرودها الفاشيون على الدوام. لقد استأجرناه هناك عمداً، كي لا يلفت الأنظار من ناحية، وكي نرصد تحرك الفاشيين عن كثب من ناحية أخرى. لقد أفشى باقي بهذا “السر التنظيمي” لي أيضاً.
ازدادت مشاكلنا الاقتصادية مع ازدياد عددنا. فنحن في منزل يتكون من غرفتَين وصالون. لكنّ أَجرَه الشهري ليس غالياً. بدأ حيدر وآينور أيضاً بالبحث عن عمل. عثرَت آينور على عمل في معمل العنب على طريق “آلسانجاك” القريب من المنزل. الحياة في المنزل جماعية، وثمة تقسيم واضح للعمل. فمَن يبقى في المنزلِ يقوم بتأمين الاحتياجات الأساسية وبتنظيف المنزل وطهي الطعام. ومَن يطالعون الكتب مساءً يبقون معاً في غرفة واحدة، مع إقرارنا بعدم خوض النقاشات عشوائياً، لأنّ كل واحد منا ينتمي إلى تيار مختلف. فهناك أعضاء “جيش تحرير العمال والفلاحين في تركيا” و”الحركة الفكرية البروليتارية الثورية” و”حزب التحرير الشعبي” و”ثوار كردستان” المُلَقَّبون بـ”الوطنيين”. لكنّ هذا اللقب غير دارج في إزمير. لذا، عندما كنتُ أُسأَل أثناء نقاشاتي في مراكز الجمعيات، كنتُ أردّ عليهم: “الاسم ليس مهماً. لكني من ثوار كردستان”.
يُعَدّ “حيدر” أخرقاً وثقيل الحركة وغير ماهر في شؤون المنزل. فإما أنه يحرق الطعامَ أو يطهوه بنحو عجيب. لذا، عادةً ما كنتُ أكتب وصفات الأطعمة، وألصقها على الجدار لأجله. كل واحد منا يغسل ثيابه بنفسه، في حين نغسل البطانيات واللوازم المشتركة معاً دون أية مشاكل. لكنّ إيبو ما يزال رثاً ولا يراعي النظافة. فلا يغسل قدمَيه أو جواربه، ولا يغتسل هو بانتظام. وبما أن حرارة إزمير خانقة صيفاً، كنا لا نطيق الدخول إلى المنزل أحياناً، بسبب رائحة العرق الفائحة. وأستمرّ في صراعي معه في هذا المضمار أيضاً قائلةً بإلحاح: “لنجعل مِن غَسْلِ أقدامنا وجواربنا عادةً راسخةً كل مساء”. وعندما لا يلتزم إيبو بذلك أقول له: “أعطِني إياها، فسأغسلها إن كنتَ تتكاسل”. حينها يرفض خجلاً وينهض لغسل جواربه. وهدفي أصلاً هو إرغامه على غسلها. وإلا، فلا رغبة لي في غسلها. فأنا حساسة جداً في هذا الأمر.
فإذا ما ذَكَّرَتني مقاربةُ أحدهم بالمقاربات العائلية التقليدية، فإني لا أقوم بالعمل المطلوبِ حتى ولو قامت القيامة. لكننا كنا حذرين في هذا الشأن، ونحترم بعضنا بعضاً. وهذا ما أثّر إيجاباً في علاقاتنا. لكنّ أحداً منا لم يَكُن يلتزم بالقواعد في النقاشات. فبمجرد أن يبدأ أحدُهم الجدال، يشارك الآخرون فيه ليَتَّحِدوا في النهاية ضدي. فتحتدم النقاشاتُ وتصل حدّ المناوشات الكلامية القاسية. إذ يبدأ حيدر كلَّ نقاشاته بموضوع الإمبريالية الاجتماعية السوفييتية ويُنهيها به. فهو سطحيُّ المعرفة ولا يطالع الكتب كثيراً. وينبغي عليه تدريب ذاته. لذا، قررنا معاً ضرورةَ المطالعة الفردية. ومع ذلك، يتملص حيدر منها ولا يقرأ. وعندما أسأله في هذا الشأنِ يجاوبني أنه قرأ بضعة صفحات، أو يتذرع بضيق الوقت وعجزه عن القراءة. وعندما أناقشه في ما قرأه، تتبين مقاربته السطحية والحفظية من المطالعة.
إن إيبو رجلٌ عملي. وجانبه هذا يبعث على الثقة. هو أيضاً يبدأ أحاديثه بمقتبساتٍ من إبراهيم كايباكايا ويُنهيها بها. إنه متعلقٌ بكايباكايا لدرجةِ التأليه. أجل، الارتباط شيء جميل، وطالما احترمتُ فيه هذا الجانب. إنه يحبّ السلاح أيضاً. فعندما ذهبنا إلى قريته سويةً ذات مرة، علّمَني الرمي من مسدّسه. فهو يعلم حبي للسلاح أيضاً، فقال لي: “سأُهديكِ هذا المسدس، لو قَبِلتِ أن تنتسبي إلينا”. إنها مقاربة غريبة جداً. فهو يحاول خداعي وكأنه يخدع طفلاً بإعطائه السكاكر. والآن، كثيراً ما يمازحني قائلاً: “سكينة متمردة، ولا يمكن أن تنتسب إلا إلى “جيش تحرير العمال والفلاحين في تركيا”، وكأنّهم يمثّلون القوة الثورية أو القتالية الوحيدة! لكني أردّ عليه بالقول: “في الحقيقة، سوف تصبح أنتَ رفيقاً لنا في نهاية المطاف. إذ لديك جوهر ثوري”.
لم تَعُد آينور جبّارةً كما في السابق. بل باتت أكثر نضجاً نوعاً ما. لكنها لا تشارك كثيراً في النقاشات. علاقتها مع باقي حميمية، ولم يتناقضا كثيراً. فباقي يودّ تعليمها وإثارة اهتمامها عبر طرح الأسئلة عليها. لكنها تهتمّ بالأكثر بطراز حياةِ المدن الكبرى، وتحبّ أن تَكون ربة منزل نموذجية. لذا، فهي تملّ من المطالعة، بل وتلاقي الصعوبة في القراءة، على الرغم من إنهائها المرحلة الابتدائية.
استمرّ باقي في تعريف أصدقائه عليّ. إذ يزوره الكوادر السرّيّون، الذين لم أشاهدهم في المراكز. شدَّدَ باقي مراراً على أنّ الخلاف في وجهات النظر بيننا ليس جذرياً، وأنه بالإمكان تجاوزه. يبدو أنه يودّ التأثير عليّ بصورة غير مباشرة، ويطرح موضوع الزواج بي: “إن الخلاف الأيديولوجي بين الثوريين أمر مؤقت. وينبغي عدم تجذير التناقضات. وعلاقةٌ كهذه قد تؤدي إلى الوحدة الأيديولوجية وقد تُسرّعها أيضاً”. لكني أرفض ذلك بحِدّة، وأشرحُ له علناً عدمَ ثباتِه في مقارباته. استمرّت نقاشاتنا في هذا الاتجاه لفترة. لكنه شعر بثبات موقفي، وأَدركَ انتباهي إلى عدم صدقه أو حميميته عندما يقول أنه يقوم بالبحث والدراسة. قرّرنا عدم خوض النقاشات لفترةٍ لأنّ تناقضاتنا تتفاقم مع استمرار الجدال.
كتبتُ رسالةً مطوَّلةً إلى متين، ذكرتُ فيها الوضع وما أعانيه بكل شفافية، وبلغةٍ أقرب إلى النقد الذاتي. كما سردتُ له الظروف التي دفعَتني إلى الافتراق عنه، مؤكدةً عدم صواب خطوتي هذه من دون النقاش معه أو الحديث إليه. ومن بين ما كتبتُه: “لقد كانت علاقةً متأسسة بناءً على طلب العائلتَين. لكني شعرتُ بالودّ بعد ذلك. اعتمدَت مقاربتُنا على مواكبة التقاليد والالتزام بها. وهذا ما أضفى الشرعية عليها. إنه حبّ من دون أساس. ولو أن الأحداث سارت في وجهةٍ إيجابية، لربما كان بالإمكان الاستمرار بالعلاقة. لكنّ كل شيء أثّر سلباً فيها: المستجدات الجارية ومواقف الحظر التي اتَّبعَتها العائلتان. كل ذلك خلقَ معه أجواءً من التناقضات المحتدمة. فإما كنتُ سأستسلم لها أو سأرفض العلاقة. هكذا ظهر لديّ قرارُ الرفض. ثم إنك لم تساعدني. بل طالما نصَحتَني أن أكون “فتاة عاقلة”. والعائلتان أيضاً أرادتا أن أكون فتاةً أو عروساً عاقلة”.
وأتابع: “ربما أصبح المسار مختلفاً لو توفّرَت حينها أجواء التحدث والنقاش. رغبتُ بشدة البحث عنك في أنقرة. أشعر بالذنب وعذاب الضمير. لم نستطع الالتقاء هناك. ومَن يدري، ربما لأنني خفتُ أن يتغير الوضع، فأتأثر بك أو تُحِيدني أنتَ عن وجهتي. وحينها ما كانت لِتحصلَ أية مشكلة. لكني استمريتُ في عنادي. إذ كنتُ غاضبةً من أمي، وأقول لنفسي أنها لن تستطيع منعي من ممارسة العمل الثوري، ولن تستطيع فرض زواجٍ تُصرّ هي عليه. أنا الآن في إزمير وأعمل في أحد المصانع. لا أستطيع الكتابة أكثر. إذ ثمة مشاكل لم أقدر على حلها بَعد. إنها مشاكل خلقتُها بيدي. لذا، عليّ أن أحلها بنفسي. ومع ذلك، بإمكانكَ مراسلتي إن شئت، ولنناقش الأمرَ كأصدقاء”.
لم أكتب له بصريحِ العبارةِ عن مشاكلي مع باقي، لأنه يعرف موقفي منه سابقاً. إنه أمر مثير حقاً. فأنا عند شخصٍ لا أرغب فيه ولكني هربتُ إليه. فكيف لي أن أوضح ذلك؟ إنها مفارقة كبرى. بل وعدم ثَبات. ربما بالمقدور النقاش حول جانب الصدق فيها. لكنّ كل هذه الأمور تؤلمني جداً. هذا هو الواقع الموضوعي، وعلى هذه الشاكلة سوف يُفسَّر. وما كان لي أن أَحُول دون ظهور هكذا تفاسير أو تآويل.
اطّلعَ باقي أيضاً على الرسالة، فاستاء منها وادّعى أنني ما أزال أحب متين. هذا ما استخلصَه من الرسالة. ناقشتُه حول الحب وأكدتُ له أنه من غير الصواب توجيه الاتهام إلى متين أو التحامل عليه، وأنني كتبتُ الحقيقة كما هي. لكنّ باقي لا يميل إلى استمرار المراسلة بيننا. وبالطبع، لم يَقُل ذلك صراحةً بل عبَّر عنه بتصرفاته. لم آَبَه بتداعيات إرسال هذه الرسالة. لكني لا أستطيع تذكُّر عنوانه تماماً، ولا أودّ إرسالها عبر عناوين أخرى. لذا، بقيَت الرسالة في حوزتي لمدة، وعجزتُ عن إيصالها إليه.
لم يَفهَم مَن في المنزل، ولا الآخرون، طبيعةَ علاقتي مع باقي. فلا نتشاطرُ الأيديولوجيا عينَها، ولا نحن متزوجان، ولكننا نعيش معاً. وتنتهي نقاشاتنا بمَشادّات كلامية حادّة في كل مكان نذهب إليه. فالمواضيع التي كان باقي مرناً فيها لاعتقاده أن الخلاف بشأنها سيزول، بات يدافع عنها بكل حدّة. إذ كان يراعي الحفاظ على مكانته داخل تنظيمه، وعدم مخالفة النظام الداخلي لحزبه. وفي الحقيقة، إنه يعاني التناقض. ويتجذر هذا التناقض لديه كلما استمرّ نقاشنا حول القضية القومية من جهة، وكلما ثابر على البحث والدراسة من جهة أخرى. لكنه متعلقٌ بنحو غريب بحزب التحرير الشعبي، لدرجةِ أنه يرى كل شيء مغاير على أنه نشاز. بالتالي، وحصيلة هذه الحالة النفسية، فإنه بات يعجز عن الدفاع علناً عمّا يراه صحيحاً. إنها حالة روحية نموذجية للبورجوازية الصغيرة! لقد سادت بين هؤلاء وجهات نظر هي كنايةً عن خليط من الإقطاعية والبورجوازية الصغيرة!
أثرت هذه الحالة الروحية لهؤلاء سلباً على خوض نقاشات سليمة ضمن المجموعة. لكن، وكأنّ الكوادر الكُرد بين صفوفهم يشكلون درعاً حصيناً. فالمقاربة التي تنكر وجودَ كردستان، وإحلالُ نزعة الإنكار هذه محلَّ الأممية، قد شكَّلَا منذ البداية حاجزاً أمام التطور الإيجابي للمجموعة. فحسب هؤلاء، فإن الفضيلة العظمى تتمثل في مزاولة العمل الثوري متحصنين بالحقيقة العامة المنادية بـ”أخوّة الشعوب”. إلا إنهم يجهلون معايير ذلك، وباسمِ مَن، أو باسمِ أيّ شعب أو أية أُخوّةٍ يزاولون ثوريتهم. من الطبيعي التأثر بذلك في البداية. ذلك أن الجامعيين الكُرد تأثروا بكل التطورات التي عَدُّوها ثوريةً أو ديمقراطية أو تقدمية، وانفتحوا عليها، واتخذوا أماكنهم فيها. ولكن، لا بد من التسلح برؤيةٍ واضحة وسديدة بشأن المواضيع الثورية الرئيسية، للتمكن من صياغة تحليلات أيديولوجية سليمة.
ما هي المهامّ الثورية؟ وعلى أية أرضيةٍ يمكن إحياؤها؟ لا أحد منهم يطرح هذه الأسئلة. إن جميع أعضاء تلك المجموعات يأخذون أماكنهم في الممارسات العملية بكل جرأة وشجاعة. ولكنّ الأرضية التي ينطلقون منها لا تصقل مهاراتهم أو قدراتهم بنحو صحيح، ولا تكشف عن طاقاتهم الكامنة، ولا تتسمُ بالخصائص الطبقية القادرة على تحويل تلك المجموعات إلى قوة ريادية. لذا، فإنّ ثورةَ عامَي 1969 و1970 وأسماءَ الكوادر الطليعية لتلك الفترة، لم تتعدَّ إطار الدعاية الفظة والتحريض العاطفي والشعارات الطنانة. بل وكانت المجموعات تتنافس فيما بينها على تَبَنّي كل هذه المقاربات. لكن، مَن مِن تلك المجموعات أو الشخصيات تمثِّل حقاً أو تدافع عن ثوريةِ “الجيش الشعبي لتحرير تركيا”؟ ومَن منها يمثل فعلاً أفكارَ “صبحي” أو “كايباكايا”؟
إني أسخط بالأكثر من هؤلاء الشباب الكرد، الذين يأخذون أماكنهم في تلك المجموعات. فماذا يفعلون هناك؟ كلا، لا أُكِنُّ ولو مثقالَ ذرّةٍ من العداء تجاه الأتراك. إذ طالما كانت لي علاقات كثيبة معهم طيلة حياتي. فهناك أصدقاء أتراك منذ أيام المدرسة الابتدائية. وهناك جيراننا ومعلمتي. وأنا أحب كل هؤلاء، وأُعبّر عن حبي لهم في علاقاتي معهم. ثم إنني اندفعتُ نحو النشاط الثوري متأثرةً بـ”دنيز كزميش” و”ماهر تشايان”. فهل لي أن أنسى ذلك؟ ولكن، هناك مهامّ تخصّ ثوار الأمم الساحقة، ومهامّ أخرى تنتظر ثوار الأمم المسحوقة. وعليه، فمَن لا يحبّذون الثورةَ في وطنهم، ولا يتحلّون بمقاربة سديدة من قضية شعبهم، فأيةُ مسؤوليةٍ ثورية لأيِّ بلدٍ يمكنهم أن يتحملوها؟ هذا تحديداً ما لم أقتنع أو أثق به.
يمكنني بهذا الشكل أو ذاك أن أتَحَمّلَ التحليلات التي يصوغها الرفاق الأتراك في نقاشاتهم بشأن كردستان. لكني لم أتحمل بتاتاً أية مقاربات كهذه من الأشخاص الكُرد. لذا، عادةً ما تحتدّ نقاشاتنا معهم لتصلَ حدّ أفظع الشتائم السياسية. وأنا صاحبةُ مبادرةٍ في هذا الشأن، لا لأنني أعرف الكثير أو لأنني أتقن عملي. إذ ما زلتُ مؤيدةً وأفتقر إلى المعرفة العميقة، ومايزال مستوى مقاربتي السياسية واهناً. لكني أقوم بكل ما أقوم به دون التفكير في ما إذا كان ذلك يناسب علاقاتنا العامة أم لا، ولا في مدى كونِ استخدامي لاسمِ المجموعة أمراً مُلزِماً أم لا. إنني لوحدي، ولكني لا أترك مكاناً إلا وأدخله لخوض النقاشات فيه. وهذا ما يمدّني بثقةٍ مذهلة بذاتي. فهذا الانفتاحُ المتحقق إلى جانب العمل في المصنع، يزودني بالقوة والمعنويات. إذ أقرأ المجلات ثم أزور الجمعيات فوراً لأجل النقاش.
كل ما طالعتُه من الكلاسيكيات الماركسية يؤكّد صحة رؤيتنا، ولا تبقى بعد ذلك أهميةٌ لوجودِ كلمة “كردستان” فيها من عدمه. ذلك أنه باتت هناك مصادرُ بالغة الأهمية مثل: مسار القضية الوطنية قبل ثورة 17 تشرين الأول/أكتوبر، والمستجدات اللاحقة لها، وكفاحات التحرر الوطني المتصاعدة والتي بلغَت السلام والاستقرار في العديد من البلدان. بالتالي، أصبحتُ قادرةً على تفسير كل ذلك وفق ما تعلمتُه وعرفتُه من تشخيصاتنا الأيديولوجية، وعلى استخلاص زبدة الكلام منها.
وعليه، لا أرى نواقصي الأخرى عائقاً أمامي، ولا أتردد في شيء. فأياً يَكُن، فأيديولوجيتُنا صحيحة، ونحن على حق. هذا يكفيني. وكل مَن يؤمن بها، يستطيع الدفاع عنها ونشرها في كل مكان يتواجد فيه وفي كل الظروف والشروط. وليس من الضرورة تكليف أحد رسمياً بهذه المهمة، وليس مهماً أن تَكون هناك روابط عضوية. فأنا بعيدة ومنقطعة عن نظام العلاقات السائد في المجموعة. لكني أواسي نفسي بالقول: “سأعقد العلاقة معهم مجدداً دون بد”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى