منوعات

تعرف علي مرض الصداع النصفي

يصيب داء الصداع النصفي أو “الشقيقة” واحدة من بين كل خمس سيدات، ويحتل المرتبة الثانية بين الأمراض التي تعيق المريض عن ممارسة حياته الطبيعية، قياسا بعدد السنوات المعدلة حسب العجز والإعاقة. ورغم ذلك فإن هذا المرض لم يستوف حقه من البحث والدراسة، وبعض الأخصائيين لا يعترفون بأنه مرض عصبي حقيقي.

وبحسب اذاعة “بي بي سي” البريطانية، داهمتني أول نوبة صداع نصفي في إحدى الأمسيات بعد عودتي من المدرسة. كان صداعا عاديا في البداية ثم تحول إلى ألم مبرح كأنه يشق رأسي من شدته، وصاحبه تشوش في الرؤية وصار الضوء في الغرفة يؤلمني، وبعدها بدأ الغثيان والقيء.

هذه النوبة عاودتني مرات لا تحصى في السنوات الأخيرة، واضطررت بسببها أن أترك وظيفتي وأصبحت أشعر أنني ضعيفة ومعدومة الحيلة.

ويصنف مرض الشقيقة عادة ضمن أنواع “الصداع”. لكن الصداع المعتاد يمكن السيطرة عليه بقرص أو قرصين من مسكن يحتوي على باراسيتامول، في حين أن الشقيقة هي ألم عنيف يمزق الرأس، وأحيانا يكون من الشدة بحيث يوهن المريض ويعيقه عن ممارسة أنشطته المعتادة.

ولم يتوصل الأطباء بعد لسبب واضح للشقيقة، فقد يكون مرده تغير الهرمونات أو نشاط غير طبيعي للدماغ، وبالتالي لا يوجد بعد علاج للقضاء عليه أو الحد من نوبات الصداع النصفي على المدى الطويل.

ليس من المستغرب إذن أن تنتهي دراسة شملت 195 دولة عن العبء العالمي للأمراض، إلى أن نوبات الصداع النصفي تحتل المرتبة الثانية بين الأمراض التي تعيق المرضى عن ممارسة أنشطتهم اليومية المعتادة قياسا بعدد السنوات المعدلة حسب الإعاقة أو العجز.

وتلقي نوبات الصداع النصفي بظلالها القاتمة على الاقتصاد أيضا، فقد قدرت دراسة إجمالي عدد الأيام التي تغيبها الموظفون في المملكة المتحدة بسبب الصداع النصفي بنحو 25 مليون يوم في السنة.

تمثال خشبي يجسد داء الشقيقةء

غير أن الصداع النصفي، رغم ما يسببه من عبء اقتصادي وصحي ثقيل، لا يزال واحدا من أقل الأمراض التي تمول علاجاتها في العالم.

ويعد هذا الاضطراب أيضا أكثر انتشارا بين النساء، إذ يصيب واحدة من بين كل خمس سيدات، بينما يصيب واحدا من بين كل 15 رجلا.

وفي أبريل/ نيسان 2018، أجرت جامعة في أريزونا دراسة على فئران نصفهم من الذكور والنصف الأخر من الإناث، وتوصلت إلى أن سبب انتشار الصداع النصفي بين النساء قد يكون سببه ارتفاع مستويات الإستروجين وانخفاض نسب نواقل أيونات (شوارد) الصوديوم والبروتونات NHE1، التي تنظم نقل البروتونات وأيونات الصوديوم عبر أغشية الخلايا.

وإذا انخفضت مستويات هذه النواقل، ستزيد إشارات الألم التي يرسلها الجسم للدماغ.

وتقول إميلي غالوواي، إحدى الباحثات في الدراسة: “استنادا إلى نتائج الدراسة، نرى أن النساء أكثر عرضة للإصابة بالصداع النصفي بسبب زيادة اضطرابات الهرمونات الأنثوية، وهذه التغيرات تؤثر على نواقل أيونات الصوديوم والبروتونات”.

لكن مرض الشقيقة هو الأقل حظا بين الأمراض بحثا وتمويلا، إذ تشير إحصاءات إلى أن مرض الشقيقة، رغم ما يسببه من خسائر اقتصادية فادحة، يظل الأقل تمويلا بين الأمراض العصبية في أوروبا.

وفي الولايات المتحدة أنفق على أبحاث الربو ما يعادل 13 ضعف المبالغ التي أنفقت على الصداع النصفي، وأنفق على مرض السكري 50 ضعف المبالغ التي أنفقت على الصداع النصفي، رغم أنه يصيب 15 في المئة من السكان. لا أحد ينكر بالطبع أن الربو ومرض السكري من الأمراض المهددة للحياة.

وكشأن سائر أبحاث الرعاية الصحية، فإن أغلب أبحاث الصداع النصفي أجريت على الذكور من الحيوانات، رغم أن الصداع النصفي أكثر انتشارا بين النساء.

وقد يعكس إهمال النساء في أبحاث الصداع النصفي اتجاها عاما في مجال الرعاية الصحية للاستهانة بآلام المريضات. وقد يجسد أيضا أشكال التعميم والتنميط الجنسي المرتبطة بالصداع النصفي الضاربة بجذورها في أعماق التاريخ.

مرض الشقيقة يصيب واحدة من بين كل خمس سيدات وواحدا من بين كل 15 رجلا

تاريخ الصداع النصفي

يعد هذا الصداع النابض من أقدم الأمراض التي سجلها البشر على الإطلاق. إذ عثر على مخطوطات مصرية قديمة تعود إلى عام 1200 قبل الميلاد تصف بالتفصيل حالات صداع تشبه أعراض الشقيقة. وكتب أبقراط أيضا عن الاضطرابات البصرية والقيء وهي أعراض تصاحب عادة الصداع النصفي.

وينسب الفضل في اكتشاف الصداع النصفي للطبيب الإغريقي أريتايوس من كبادوكيا، الذي وصف بدقة في القرن الثاني بعد الميلاد آلام الصداع النصفي التي تتركز في جانب واحد من الرأس والفترات التي لا يعاني فيها المريض من أعراض.

وارتبط علاج الصداع النصفي وأسبابه تاريخيا بالكثير من الخرافات والشعوذة، وظهرت ممارسات عديدة لعلاج الصداع النصفي في العصور الوسطى غير مثبتة علميا بداية من العلاج بالفصد أو الحجامة والسحر إلى إدخال فص ثوم في شق داخل المعبد.

وبعض الخبراء الطبيين أوصوا بعملية التربنة، أي حفر ثقوب في الجمجمة لعلاج الصداع النصفي. وكانت هذه العملية البشعة تُجرى عادة لإخراج الأرواح الشريرة من أشخاص كانوا أغلب الظن يعانون من أمراض نفسية، ولكنها ربما كانت بداية الربط بين الصداع النصفي والدماغ.

لاحظ الأطباء للمرة الأولى أن الصداع النصفي أكثر شيوعا بين النساء منه بين الرجال في القرن التاسع عشر. واعتقدوا أن الدماغ هو أصل الداء، إذ وصفوا الحالة بأنها اضطراب يصيب “الأمهات من الطبقة الدنيا”، لأن عقولهن ضعفت بسبب العمل اليومي، وقلة النوم، والرضاعة وسوء التغذية.

وكثيرا ما كان الناس يسخرون من النساء اللائي يصبن بنوبات الصداع الحادة، ومن هنا بدأت وصمة الأمراض العصبية التي تلاحق المرضى حتى الأن.

تقول جوانا كيمبنر، أستاذة مشاركة لعلم النفس بجامعة روتجرز، بالولايات المتحدة: “ظل الناس لوقت طويل ينظرون للصداع النصفي على أنه مرض يصيب الرجال والنساء المثقفين من الطبقة العليا. إذ كان يُعتقد أن الأجهزة العصبية الرقيقة لدى الأشخاص الذين نشأوا في هذه البيئات تساعد الرجال على الأقل على ارتياد أفاق العلوم والفنون”.

وتضيف: “كان الناس يعتقدون آنذاك أن النساء أقل قدرة من الرجال على العمل الفكري والإبداعي، وأن ‘أجهزتهن العصبية الرقيقة’ لا تحتمل تدفق المعلومات”.

أول من وصف آلام الشقيقة التي تتركز في ناحية واحدة من الرأس هو طبيب إغريقي

 

وميّز طبيب الأعصاب الأمريكي هارولد وولف، الذي يعد من أكبر الباحثين في مجال الصداع في العصر الحديث، بين مرضى الصداع النصفي الرجال ونظرائهم من النساء. إذ كان يرى أن الرجال طموحون وناجحون ولا يصابون بالصداع النصفي إلا من أثر التعب، في حين أن النساء يصبن بالصداع النصفي بسبب عدم تقبلهن لدورهن في المجتمع، وبخاصة كراهيتهن للعلاقة الحميمة.

وتضيف كيمبنر: “في نهاية القرن العشرين، اقترن الصداع النصفي بالزوجات المصابات بمرض عصبي…”

العلاقة بين الدماغ والصداع

لا أحد ينكر أن اضطراب الصداع يرتبط بالصحة النفسية. وأكدت دراسات عديدة وجود علاقة بين الصداع النصفي ومجموعة من الاضطرابات النفسية.

إذ خلص استعراض لمجموعة دراسات أجريت عام 2016 إلى أن أغلب المصابين بالاضطراب الوجداني ثنائي القطب يعانون من الصداع النصفي، وأن المصابين باضطراب الصداع النصفي أكثر عرضة بمقدار مرتين ونصف للإصابة باضطراب القلق العام، وأن المصابين بالاكتئاب أكثر عرضة من غيرهم بثلاثة أمثال للإصابة بنوبات الصداع النصفي.

وخلصت دراسة أخرى إلى أن نحو واحد من بين كل ستة مصابين باضطراب الصداع النصفي قد هموا بالانتحار في مرحلة ما من حياتهم.

ولكن الدكتور مسعود أشينا، أستاذ طب الأعصاب ومدير وحدة أبحاث الصداع النصفي لدى البشر بمركز الصداع الدنماركي يقول: “لا نعرف بعد طبيعة العلاقة بين الصداع النصفي وهذه الأمراض النفسية. فإن الصداع النصفي اضطراب واسع الانتشار، ولذا، فإن احتمالات تزامن الإصابة بهذا الاضطراب وأمراض نفسية أخرى مرتفعة أيضا”.

ورغم ذلك، لا شك أن المعاناة من الصداع النصفي قد تؤدي إلى تدهور الصحة النفسية.

في القرن التاسع عشر، اعتقد الأطباء أن ضعف القوى العقلية للنساء ورِقة أجهزتهن العصبية هما سبب الإصابة بالصداع النصفي

 

ويقول إيسم فولر تومسون، مدير معهد يُعنى بالحياة والشيخوخة بجامعة تورنتو: “ليس من المستغرب أن تزيد مستويات القلق لدى شخص لا يعلم متى ستداهمه نوبه الصداع النصفي، وما إن كانت ستتداخل مع أعباء الأسرة والعمل”.

كما يؤدي الشعور بالعجز والوهن المصاحبين للصداع النصفي إلى تفاقم أعراض الاكتئاب.

إلا أن اضطراب الصداع النصفي لا يزال في نظر الكثير من علماء الأعصاب وأفراد المجتمع، على حد قول أشينا، مرضا حميدا. ويتابع: “ولكن إذا نظرت إلى انعكاسات هذا الاضطراب على حياة المصاب والمجتمع ككل، ستجد أن الصداع النصفي يمثل مشكلة جسيمة”.

وتقول أمال ستارلنغ، أستاذة مساعدة لطب الأعصاب بمؤسسة “مايو كلينيك” بولاية أريزونا، إن بعض المختصين لا يصنفون الصداع النصفي كمرض عصبي حقيقي. ولهذا عجز أخصائيو الصداع عن إيجاد مسوغ مقبول لإجراء أبحاثهم وإقناع الأخرين بضروروة الحصول على التمويل.

وقد يكون التحيز ضد المرأة هو أحد أسباب صعوبة الحصول على تمويل لإجراء أبحاث عن اضطراب أكثر انتشارا بين النساء. إذ تعاني النساء لإقناع الأطباء بأن آلامهن ليست وهمية، وتزيد نسبة الخطأ في تشخيص حالاتهن مقارنة بالرجال.

حالة شائعة

يقول خبراء إن حجم المصابين بمرض الشقيقة كفيل بأن يجعل الأخصائيين على دراية واسعة بهذا الاضطراب. ولكن كيبمنر تقول: “الصداع هو أكثر الأعراض شيوعا بين المرضى في قسم الأمراض العصبية وأقلها تناولا في كتب ودراسات طب الأعصاب، وهذا يعني أن الأطباء المتدربين لا يعرفون الكثير عنه.”

المصابون بداء الشقيقة أكثر عرضة للإصابة بالاكتئاب والقلق والتفكير في الانتحار

لكن علاجا جديدا من المتوقع أن يطرح قريبا للحد من نوبات الصداع النصفي، وهو دواء يسمى “إيرنوماب”، يؤخذ عن طريق الحقن مرة شهريا، ويعمل على حجب مستقبل الببتيد المرتبط بجين كالسيتونين في الدماغ، والمعروف بأنه يحفز نوبات الصداع النصفي.

وفي مايو/ أيار عام 2018 وافقت هيئة الغذاء والدواء الأمريكية على عقار أخر يستهدف نفس المستقبل في الدماغ.

وتقول ستارلنغ: “الجديد في هذا العقار أنه معدّ خصيصا لاستهداف الصداع النصفي، وهذا يزيد من فعاليته في علاج المرض ويقلل من أعراضه الجانبية”.

وقد وصف لي بالفعل أحد الأطباء “حاصرات مستقبلات بيتا” لعلاج الصداع النصفي، إذ اكتشف الأطباء أن “حاصرات البيتا” التي توصف لعلاج الذبحة الصدرية وارتفاع ضغط الدم، تمنع أيضا نوبات الصداع النصفي.

غير أن حاصرات البيتا، رغم فعاليتها في علاج الصداع النصفي، فإنها تسبب أعراضا جانبية عديدة، بداية من الإنهاك والدوار، ووصولا إلى السكتة القلبية إذا توقفت فجأة عن تناولها.

وظهرت أيضا أجهزة حديثة كهربائية ومغناطيسية، منها أجهزة محمولة ترسل نبضات مغناطيسية إلى الدماغ لتغيير البيئة الكهربائية للألياف العصبية والحد من استجابتها المفرطة للمثيرات.

وبعد أن مرت ستة أشهر، لم أعان خلالها إلا من نوبة صداع نصفي واحدة، أحاول الآن تقليل جرعات حاصرات البيتا وإيقافها تماما. إذ نُقلت إلى المستشفي منذ شهرين بعد أن اشتبه الأطباء في إصابتي بنوبة قلبية.

لحسن الحظ أنه كان إنذارا كاذبا، ولكنه نبهني إلى أهمية وجود علاج للصداع النصفي لا يؤثر على سائر أعضاء الجسم. ولعل هذا الدواء الجديد يساهم قريبا في القضاء على آلام مرضى الشقيقة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى