وجوه

تعرَّف على الرجل الغامض مؤسس داعش وحقيقة علاقته بالإخوان والأمريكيين

«إنه كبيرهم الذي علمهم الذبح»، معلومات جديدة ظهرت تكشف عن هوية الشخص الذي يُعتقد أنه المؤسس الحقيقي لتنظيم داعش، والذي قدَّم التأويلات الدينية التي أنتجت الوحشية التي تميز بها التنظيم.

تقليدياً، يتفق معظم مؤرخو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على أنَّ الجماعة قد انبثقت عن تنظيم القاعدة في العراق، رداً على الغزو الأميركي عام 2003، وأنَّها تشكلت في الأساس على يد الجهادي الأردني، وآخر قادة تنظيم القاعدة في العراق أبو مصعب الزرقاوي.

ولكن هناك معلومات جديدة تكشف أن رجل دين عراقي كان صاحب تأثير على الزرقاوي، وأن أفكاره كانت الرافد الرئيسي لأيدلوجية التنظيم المتطرفة، ناهيك عن تأثيره على خطط وتحركات التنظيم، بحسب ما ورد في تقرير لمجلة The Atlantic الأميركية.

كاتب التقرير هو حسان حسان، الكاتب المتخصص في قضايا الإرهاب ومؤلف كتاب «داعش: داخل جيش الإرهاب» (Co-author of ISIS: Inside the Army of Terror) قدم معلومات جديدة عن المؤسس الحقيقي لتنظيم داعش.

البداية من زعيم القاعدة.. قصة الخلاف بين أسامة بن لادن والزرقاوي

غالباً ما تركّز الروايات التي تدور حول أصول أيديولوجية داعش على حقيقة التضارب بين الزرقاوي وأسامة بن لادن، وكلاهما من السنّة المتطرفين، فيما يتعلق بفكرة محاربة الشيعة والمسائل المتعلقة بالتكفير أو الحرمان.

إذ يبدو أن بن لادن كان متحفظاً على فكرة استهداف الشيعة في العراق، بينما الزرقاوي كان مصراً على ذلك.

وحسب هذه الرواية كان لدى الزرقاوي رؤية دموية، إذ كان يرغب في تأجيج حربٍ أهلية بين السنة والشيعة وإنشاء نظام الخلافة.

ومع أنه قُتِلَ عام 2006، تحقَّقت رؤيته عام 2014، أي في السنة التي اجتاح فيها داعش شمالي العراق وشرقي سوريا.

وتقول واحدة من هذه الروايات إنَّ مثل تلك الاختلافات تعزَّزت في العراق، وأدت في نهاية المطاف إلى الانشقاق بين داعش والقاعدة. واستناداً إلى تلك الافتراضات يخلص الكثيرون إلى أنَّ الزرقاوي هو حتماً من شكَّل الإطار الفكري لتنظيم داعش.

ولكن كاتب المقال يقول إن هناك شخصاً آخر غير الزرقاوي كان هو بمثابة القوة الخفية الدافعة وراء هذا التحول من القاعدة التي تركز على محاربة الأميركيين إلى داعش التي تحارب الجميع: احتلال، حكومات، معارضين، إخوان مسلمين، إسلاميين آخرين، وبطبيعة الحال الشيعة.

المؤسس الحقيقي لتنظيم داعش ليس الزرقاوي

يقول كاتب  المقال «لقد راودتني الشكوك مؤخراً حول تلك التفسيرات التقليدية لنشأة داعش».

إذ يمكن القول إنَّ أصول داعش قد أُرسِيَت قبل فترة طويلة من الغزو الأميركي، وإن كان ثمَّة مسؤول عن أسلوب إدارة الجماعة فهو عبدالرحمن القادولي، وهو عراقي ينحدر من مدينة نينوى، وعُرِف باسمه الحركي أبوعلي الأنباري، وليس الزرقاوي.

إذ إنَّ الأنباري، وكان الرجل الثاني في تنظيم القاعدة بالعراق بعد الزرقاوي، هو من يُنسَب له وضع النهج المتطرف لداعش بدرجة لا يضاهيه فيها أحد، وكانت سلطته أكثر منهجية وأطول أمداً وأعمق عن سلطة الزرقاوي، حسب الكاتب.

ولكن من أين جاءت هذه المعلومات الخطيرة؟

يقول الكاتب «قبل شهر حصلتُ على وثيقة تتألف من 93 صفحة، تؤرِخ لحياة الأنباري، بالإضافة إلى المشهد المتطرف المحيط به في العراق في التسعينيات من القرن الماضي».

إذ كتب عبدالله، نجل الأنباري السيرة الذاتية لوالده ليستفيد منها داعش، التي بدورها نشرت أجزاءً منها في المجلة العربية الأسبوعية الخاصة بها، النبأ، عام 2016، أي بعد فترة وجيزة من مقتل الأنباري.

ونشر المنشقون عن داعش مؤخراً الوثيقة كاملة على الشبكات الاجتماعية، الأمر الذي مكَّنني من الاطلاع عليها صدفةً.

وذكر عبدالله أنَّ السيرة الذاتية استندت إلى 16 عاماً من العمل بشكل وثيق مع والده، إضافة إلى مذكرات احتفظ بها الأنباري، وروايات مباشرة من زملاء الأنباري في داعش.

ويقول الكاتب: «إلى جانب السيرة الذاتية التي قدمها عبدالله، اعتمد في هذا المقال على سلسلة من المحاضرات التي قدمها الأنباري في عامي 2014 و2015، وملاحظاتي من مقابلات أجريتها مع أعضاء التنظيم ومعارضين سوريين».

ومن من الواضح أنَّ الزرقاوي هو من تأثر على الأرجح بالأنباري وليس العكس، حسبما خلص الكاتب.

من هو عبدالرحمن الأنباري الرجل الذي أشعلت أفكاره العالم؟

المؤسس الحقيقي لتنظيم داعش عبدالرحمن الأنباري وُلد في شمالي العراق عام 1959 لعائلة تركية من أصل عربي وأرمني، ونشأ وسط أجواءٍ متدينة.

ويحكي نجله عبدالله قصةً عن الأنباري، عندما كان صغيراً، وود أن يشتري حماماً.

فأخبره والده أن عليه أن يسأل إمام البلدة أولاً عمّا إذا كانت تربية الحمام صحيحة من وجهة نظر الشريعة الإسلامية. فأخبره الإمام أن تلك عادة «من الشيطان»، وبالتالي تخلى عن الفكرة.

وفي بعض الدول العربية، لا تقبل المحاكم شهادة مربي الحمام، وتعتبرها غير جائزة، لأنَّ صفة عدم الأمانة تقترن بهم عند العرب، نظراً للاعتقاد بأن مهنتهم تنطوي على سرقة حمام الآخرين ثم الكذب حيال ذلك.

ودرس الأنباري الشريعة بعد أن أكمل دراسته الابتدائية في معهد في مدينة تلعفر شمالي العراق. وتخرج في جامعة بغداد عام 1982، بشهادة في الدراسات الإسلامية. (وقد ارتاد الجامعة مع زعيم داعش الحالي أبو بكر البغدادي).

لقد خدم في الجيش العراقي لمدة سبع سنوات، ومن هنا اكتسب قدراته العسكرية

انضم الأنباري إلى الجيش العراقي بعد تخرجه وخدم فيه لسبع سنوات.

وشارك في الحرب الإيرانية العراقية (حرب الخليج الأولى). وكتب ابنه: «تلقى والدي تدريباً عسكرياً ودينياً وهي تركيبة نادرة الحدوث».

ووفقاً لما ورد في السيرة الذاتية، كُلِّفَ الأنباري، بعد أن أنهى خدمته العسكرية، بتدريس الشريعة في بلدة صغيرة متعددة الأديان والأعراق تُسمَى مجمع برزان.

وهذه الواقعة كانت بداية وَلِعه بالحرق

وفي أحد الأيام، دعا مواطن ثري من المدينة جماعة الغجر، لنصب خيمة وتقديم عروض موسيقية ورقص.

وأثار الخبر غضب الأنباري، إذ ارتأى أنَّ تلك الحفلة تدنيس للمكان بدرجة كبيرة.

وعرض 10 درجات إضافية لكل طالب لا يحضر الحفل، لكن ذلك لم يكن كافياً للتعبير عن موقفه.

ففكر الأنباري في قتل الغجر، بيد أنه لم يكن يمتلك بندقية، ثم طلب من أحد تلاميذه أن يحضر له البنزين، بعد أن فكر في حرق الغجر أحياءً داخل الخيمة.

وفي نهاية المطاف، ألقى خطبة واعظة بشأن الغجر والاحتفال المُدَنس المخطط لإقامته. وتحت ضغط شديد صرف راعي الحفل الثري الغجر عن المدينة.

لكن تلك الحادثة خلّفت شيئاً في ذهن الأنباري: ثمَّة خطأ ما في حكومة قد تفكر أصلاً في السماح بإقامة مثل هذا الحدث.

ومن تلعفر بدأ صدامه مع الشيعة

في منتصف التسعينيات، عاد الأنباري إلى مدينة تلعفر، وهي مدينة مختلطة تجمع بين الشيعة والسنّة. وعُين في مدرسة محلية بواحد من أكبر أحياء الشيعة في المدينة، حي الخضرا، وأصبح بعد ذلك إماماً في مسجد قريب.

ومن ثم استخدم المنبر لمهاجمة الشيعة والصوفيين، باعتبارهم أتباع طائفة منشقة.

وفي وقت لاحق من العِقد ذاته، انضمَّ الأنباري إلى منظمات جهادية كردية في الشمال.

وبدأ يتعرف على زملائه الجهاديين

وتوضح السيرة الذاتية له أنه قد تأثر بمصادر ترويج الأفكار الجهادية، بما فيها الخطب السماعية، التي ينشرها جهاديون من أفغانستان والشيشان.

إلى جانب ذلك، كوَّن الأنباري علاقات مع ثلاثة رجال أصبحوا فيما بعد جهاديين بارزين. قُتِل أحدهم على يد قوات البيشمركة الكردية في الموصل، في الأيام الأولى من حرب العراق، وأصبح الاثنان الآخران من كبار قادة داعش في العراق، التي عُرِفَت في أواخر عام 2006 حتى توسعت إلى سوريا عام 2013.

وقبيل أحداث 11 سبتمبر/أيلول، زاد الدعم للجماعات الجهادية في العراق. وكان نجاح الهجمات بالطبع أحد العوامل التي ساهمت في زيادة هذا الدعم قبيل الغزو الأميركي.

ولكن يعتقد أن ازدياد قوة الجماعات المتطرفة في العراق يعود إلى ما قبل بذلك بكثير.

وهذه علاقة صدام حسين بالمجموعات التي ستشكل داعش

ففي أعقاب حرب الخليج عام 1991، دشّنت حكومة صدام حسين ما سُمِيَت بالحملة الإيمانية الإسلامية، التي شجعت على أسلّمة الرأي العام.

وقبل سبعة أشهر من الهجمات، حشدت الحكومة العراقية مواطنيها للتطوع للانضمام إلى جيش القدس، الذي تمثلت مهمته في طرد اليهود من المدينة المقدسة.

وقال أبو ماريا القحطاني، أحد مؤسسي تنظيم القاعدة في سوريا، لكاتب  المقال «خطاب صدام حسين المناهض لأميركا باستمرار حضّ كثيرين على القتال ضد النفوذ الأميركي قبل الغزو وبعده».

حتى إنَّ القحطاني نفسه قد تدرَّب على يد نظام صدام حسين استعداداً لمهمة انتحارية محتملة في إسرائيل.

وما لَبِثَت أن اجتاحت تلك الاتجاهات فكر عبدالرحمن الأنباري.

ثم قرر الأنباري إنشاء إمارة في شمالي العراق.. ولهذا السبب بدأ في استهداف الإخوان المسلمين

فبعد أحداث 11 سبتمبر 2001، أنشأ مع مجموعة من طلابه السابقين «نواة إمارة» في شمالي العراق، كدولة إسلامية بدائية.

وتدرَّب الطلاب على سفوح التلال المحيطة بتلعفر، على يد مساعد مقرب للأنباري يُدعى إياد أبو بكر.

وعلاوة على الترويج للأفكار الجهادية، يبدو أن هجمات 11 سبتمبر قد أعطت زخماً للمشهد المرتبط بالحركات المتطرفة في العراق.

إذ بدأ الأنباري والجهاديون على شاكلة تفكيره ينظرون إلى الإسلاميين المنافسين، مثل جماعة الإخوان المسلمين، باعتبارهم أعداء، وهو موقف سيتحول بعد ذلك إلى سِمَة ملحوظة في أيديولوجية داعش.

حتى إنه وصفهم بإخوة الشيطان

واعتبر الأنباري أن تبنّي الإخوان المسلمين الأعراف السياسية ورفضها أفكار تنظيم القاعدة خيانة. وبات واضحاً أيضاً انقطاعه إلى الحديث عن الإخوان المسلمين في محاضراته الصوتية، التي أشار فيها إلى أعضائها بـ «إخوة الشيطان».

ونَهَل الأنباري العلم من مجموعة جديدة من الكتب الجهادية، التي أصبحت تُتداوَل في العراق بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، وفي مقدمتها تلك التي كتبها الأردني ذو الأصول الفلسطينية أبو محمد المقدسي، أستاذ الزرقاوي في السجن، وعبدالقادر بن عبدالعزيز، وهو مصري مُعتَنِق للأفكار الجهادية.

وكتب ابنه أنَّ تلك المواد «صقلت مفاهيم الشيخ» و»صحَّحت عقيدته» بشأن مسائل مثل الردة وتبني قوانين من صنع الإنسان. فغدا الرجل الذي لم يسبق له أن اعتنق تفكيراً معتدلاً رافضاً للقوانين الوضعية لتنافيها تماماً مع الإسلام.

إلى أن التقى بالزرقاوي تحت مظلة البعث

ويرى كاتب التقرير أنَّ آراء الأنباري المتطرفة، التي انعكست بعد ذلك في أفعال جماعة داعش، قد تشكَّلت قبل الغزو الأميركي للعراق، وحتى قبل أن يقابل الزرقاوي.

بحسب ما ورد في السيرة الذاتية التي كتبها عبدالله، قَدم الزرقاوي إلى شمالي العراق من أفغانستان في ربيع عام 2002. ثم التقى به الأنباري بعد شهر من ذلك في بغداد، حيث استضاف الزرقاوي مبعوثٌ من جماعة الجهاد الكردية «أنصار الإسلام»، وصديقٌ للأنباري.

وأثناء تلك الفترة، انتقل الأنباري ذهاباً وإياباً من وسط العراق إلى شماله سعياً في تسهيل النشاطات الجهادية.

«وورد في السيرة الذاتية أنَّ «الاستعدادات للجهاد كانت في طور النضوج من حيث التمويل والرجال والأسلحة. وكل ذلك كان تحت مظلة جماعة البعث».

ولكنهم بدأوا ينقلبون على صدام حسين

وشملت تلك «الاستعدادات للجهاد» التأهيل المهني للحركة الإسلامية قبيل الغزو، إذ شرعت عناصر سابقة في حركة البعث، كانت قد أعلنت «توبتها» قبل الحرب، في ضم مجندين جدد للجماعة.

ودرّب أبوالمسلم التركماني، الذي كان عقيداً في جيش صدام حسين ويُعَد الرجل الثالث في تسلسل القيادة في جماعة داعش بالعراق، مجموعةً جهادية مناهضة لصدام حسين، التي انتقلت فيما بعد تحت قيادة الأنباري.

وصنّع رجال التركماني والأنباري كاتمات صوت للأسلحة النارية وقنابل بدائية من أجل الزرقاوي.

وعندما غزت الولايات المتحدة العراق، كان قرارهم الانضمام للقاعدة

وعندما غزت الولايات المتحدة العراق عام 2003، قاد الأنباري والزرقاوي جماعات منفصلة لم تكن قد انضمت بعد إلى تنظيم القاعدة في العراق.

وأقسم كلاهما يمين الولاء للقاعدة عام 2004، وعليه أصبح الأنباري نائب الزرقاوي.

وهناك أدلة كثيرة على أنَّ الأنباري، وليس الزرقاوي، هو من حدَّد وتيرة خطى التطرف، ودفع بالسياسات التي شكَّلت ملامح داعش.

وبدأ عداؤه للشيعة وحتى للإسلاميين السنة الآخرين يتحول إلى حرب حقيقية

وبعد فترة وجيزة من الغزو، استهدفت جماعة الأنباري في تلعفر أي شخص اعتبرته مُضلِّلاً أو مُعرقلاً لخططها.

فهاجمت جماعته الشيعة وأعضاء جماعة الإخوان المسلمين والمستنيرين المحليين، بصرف النظر عن القبيلة التي ينتمون إليها.

وعلى النقيض من ذلك، استغرق الزرقاوي عاماً آخر ليعتنق ذلك التحيز الطائفي المتطرف.

ويبدو أن الزرقاوي تأثَّر به وقرَّر جعل الصراع الطائفي وسيلته للحشد

وبعدما تعهَّد الزرقاوي رسمياً بالولاء لأسامة بن لادن، وأصبح رئيس تنظيم القاعدة في العراق، كتب خطاباً إلى القيادة المركزية للقاعدة يرسم فيه خطةً لمهاجمة المدنيين الشيعة وأماكن عبادتهم.

وربما أتت فكرة استهداف الشيعة من مواطنين عراقيين على شاكلة الأنباري، وربما كانت فكرة الأنباري نفسه، حسبما يرى كاتب المقال.

فقبل عام 2004، وجَّه الزرقاوي أنظاره إلى الأنظمة العربية العلمانية، وتجلَّى ذلك في تفجيره السفارة الإيرانية في بغداد في صيف 2003.

وفي هذا الصدد، قال ليث الخوري، الذي يرصد عن قرب تحركات الجماعة، وهو مؤسس مشارك لشركة الاستخبارات Flashpoint في مدينة نيويورك، إنَّ الزرقاوي وجد الآراء المعادية للشيعة مفيدة من أجل حشد السنة في العراق في 2005؛ مما أفضى به إلى إعلان حرب شاملة على الشيعة «أينما كانوا».

وأخبرني مراد بطل الشيشاني، وهو خبير جهادي بارز ينحدر من مسقط رأس الزرقاوي، أنَّ محاكمات الزرقاوي في الأردن في منتصف التسعينيات، على خلفية تورُّطه في منظمة إسلامية سرية، لم تسفر عن أي دليل على اعتناقه لوجهات النظر المتطرفة المرتبطة بداعش بعد 2003.

وأضاف الشيشاني: «لم يختلف الزرقاوي عن أقرانه الجهاديين في إيران إلا من خلال شخصيته. كان أكثر تطرفاً وكان سفاحاً وما شابه ذلك، لكنه أيديولوجياً لم يكن ذا ثقل، بل كان يتأثر فقط بما يحدث حوله في العراق».

وهكذا أصبح العراقيون يسيطرون على التنظيم

وإلى جانب ذلك، كان للأنباري دورٌ مباشر في تحويل تنظيم القاعدة في العراق من قوة يسيطر عليها قادة أجانب إلى قوة يديرها العراقيون.

وتكشف السيرة الذاتية التي كتبها عبدالله أنَّ الزرقاوي أرسل الأنباري إلى باكستان أواخر عام 2005، مروراً بإيران بوثائق هوية مزيفة.

وكان هدف الرحلة ليوضح لقادة القاعدة حقيقة الشائعات التي تردَّدت بأنَّ فرع الجماعة في العراق ينبذ الجهاديين التابعين للتنظيم. وتفاصيل رحلة الأنباري هي اعتراف نادر بحقيقة أنَّ إيران استُخدمت ممرَ عبور في المنطقة.

ثم ترأس مجلس شورى المجاهدين

ولدى عودة الأنباري، قدَّم خطة لدمج فرع القاعدة في العراق مع القوات المحلية الأخرى لإنشاء مجلس شورى المجاهدين في العراق، في يناير/كانون الثاني 2006. وترأس الأنباري المجلس مستخدماً اسمه الحركي الجديد، عبدالله رشيد البغدادي.

وبعد عام واحد، أعادت جماعة العمليات الجهادية المحلية «التي باتت خاضعة لقيادة العراقيين فقط» هيكلة نفسها لتصبح جماعة داعش للعراق، وبعدها تضاعفت هجماتها ضد الشيعة والأميركيين كثيراً.

وبعد أن اعتقلته القوات الأميركية تم إطلاق سراحه بطريقة غريبة

وفي عام 2006، اعتقلت القوات الأمريكية الأنباري في بغداد، وبعدها بشهرين قُتِلَ الزرقاوي.

وبرغم أنَّ الأنباري ظل محتجزاً حتى مارس 2012، فقد ظلّ ضالعاً في الأحداث عن طريق تجنيد زملائه السجناء وغرس مبادئ الجماعة فيهم.

وبعد ذلك تم إطلاق سراح الأنباري.

إذ يبدو أن داعش في العراق قد رتَّبت له الخروج من السجن بمنح رشوة لمسؤولين عراقيين.

ثم دعاه أبوبكر البغدادي إلى بغداد وأوكل إليه مهمة خطيرة في سوريا

وتمثلت مهمة الأنباري الجديدة في التحقيق فيما إذا كان فرع الجماعة في سوريا، الذي كان يُعرف آنذاك باسم جبهة النصرة، لا يزال مخلصاً للبغدادي أم لا.

فوجد الأنباري أنَّ أبومحمد الجولاني، زعيم الفرع السوري للجماعة «شخص ماكر ومنافق»، وفقاً لإحدى روايات داعش المنشورة، لذا تآمر الأنباري والبغدادي ضده.

فكوَّن الاثنان علاقات مستقلة مع أعضاء رئيسيين في جبهة النصرة، ثم أعلن البغدادي من جانبه فقط دمج فرعي الجماعة.

ومع أنَّ هذا الدمج لم يدم، فقد تحول كثيرٌ من قادة جبهة النصرة إلى جماعة البغدادي، ليصبحوا لاحقاً جزءاً من داعش.

وكان الأنباري مُكلَّفاً أيضاً بالتواصل مع القاعدة، تحت الاسم الحركي أبوصهيب العراقي، لتسوية الاقتتال الداخلي بين صفوف الجهاديين. لكن فشلت جهود المصالحة، وما لبث تنظيم القاعدة أن تبرَّأ من داعش، في فبراير 2014.

من جانبهم، كان المعارضون السوريون يعتبرون الأنباري ممثلاً لداعش؛ إذ كان هو من يلتقى بهم ويتفاوض معهم منذ أواخر عام 2012 حتى صيف عام 2014.

وأصبح المروج الرئيسي لأيديولوجية التنظيم.. وأشرف على إحراق الطيار الأردني

وعقب استيلاء داعش على الموصل، وجَّه الأنباري اهتمامه بأكمله إلى صَقل أيديولوجية المنظمة. وبالفعل، أصبح هو مروج أيديولوجية التنظيم الرئيسي، وأهّلته مكانته لتدريب كبار رجال الدين، وإصدار الفتاوى في قضايا رئيسية تؤثر على الخلافة، وإرشاد الأعضاء لصياغة نصوص دينية.

وبإشراف منه، حُكِم على طيار أردني بالموت حرقاً، ليحقق بطريقة أبشع رغبته حين كان شاباً بحرق الغجر الذين قَدِموا إلى مجمع برزان.

وذُبِح الإيزيديون الذين كانوا على اتصال بالمجموعة أو أُسِروا، وذُبِحَت كذلك قبيلتان في سوريا والعراق للتحذير ضد التمرد، وذلك في أعقاب سيطرة الجماعة على ثلث العراق ونحو نصف الأراضي السورية.

ووصف الأنباري المعارضين المعتدلين السوريين بأنَّهم مرتدون عام 2013، وألّف فتوى مفصلة ضدهم.

حتى في نهايته كان دموياً مع نفسه

وفي وقت لاحق، عَيَّن البغدادي الأنباري المسؤول المالي في المجموعة، وهي وظيفة انطوت على إجراء رحلات مستمرة بين العراق وسوريا.

وفي مارس/آذار 2016، وفي إحدى تلك الرحلات المتكررة، قُتِلَ الأنباري بالقرب من مدينة الشدادي السورية، على طول الحدود مع العراق.

ووفقاً للسيرة الذاتية، شنَّ الجنود الأميركيون غارةً في محاولة لقتله، لكنَّه فجَّر نفسه بحزام انتحاري. عمّرالأنباري لعشر سنوات بعد الزرقاوي، وفاق نفوذه ما وصل إليه الزرقاوي.

لماذا لم يلتفت أحد من قبل إلى دوره في بناء تنظيم داعش؟

ربما تجاهل الباحثون مساهمات الأنباري لأنه كان مراوغاً، حسب كاتب التقرير حسان حسان.

فعلى سبيل المثال، كان لديه ما يزيد على عشرة أسماء حركية.

ولسنوات عديدة ظنَّت الولايات المتحدة أنهما شخصان مختلفان على الأقل. ولم يكن لدى المسؤولين سوى صورتين مختلفتين له.

وعندما أُلقي القبض عليه لفترة وجيزة في الموصل عام 2005، لم يعرف معتقلوه هويته الحقيقية، لأنه استخدم وثائق هوية مزورة.

وفي المرة الثانية التي ألقي القبض فيها عليه، عام 2006، تمكنوا من التعرف عليه باعتباره رجل دين محلياً إرهابياً من تلعفر، وليس قائد مجلس شورى المجاهدين الذي يهيمن عليه تنظيم القاعدة.

ولهذا السبب فإن الباحثين متأكدون أن التحول من القاعدة لداعش لم يكن فكرة الزرقاوي

إذا كان الزرقاوي قد قاد جماعة جهادية تطورت بعد ذلك إلى داعش العراق، ثم أصبحت تنظيم داعش الرسمي، لكان القول بأنَّ داعش كانت من بنات أفكار الزرقاوي يعد سرداً منقوصاً لتاريخ التنظيم.

إذ يتفق الخبراء الذين تابعوا عن قرب نشاط الزرقاوي المبكر على أنَّه لم يكن يعتنق أية أفكار طائفية قبل وصوله للعراق، وأنَّ أفكاره قبل ذلك لم تكن بعيدة عن وجهات النظر العالمية الجهادية السائدة (التي لم تركز على العداء للشيعة بل للأميركيين).

وفي هذا الصدد، تقول ندا باكوس، وهي محللة سابقة في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية ومؤلفة كتاب The Targeter: My Life in the CIA, on the Hunt for the Godfather of isis الذي سيصدر قريباً، إنَّ الزرقاوي كان «مخططاً ماهراً، ولم يكن مفكراً استراتيجياً، وكان يستجيب للظروف المحيطة به. أما المحيطون به فهم من وضعوا استراتيجية لما أراد تحقيقه».

كما أن هؤلاء المنظرين العراقيين الثلاثة شكلوا نهجه

ودَرَس هشام الهاشمي، وهو مؤرخ عراقي للجماعات الجهادية ومستشار للحكومة العراقية بشأن داعش، حركات التمرد ضد الولايات المتحدة مباشرةً منذ بدايتها.

وقد أشار إلى ثلاثة مُنظّرين عراقيين، شكَّلوا تفكير الزرقاوي ونهجه بشكل مباشر.

ويتشابه ثلاثتهم مع الأنباري فيما يتعلق بحصولهم على تدريب ديني وأنهم جميعاً كانوا مطلوبين لدى النظام العراقي السابق لأفكارهم ونشاطاتهم المتطرفة؛ وهم:

أبو عبدالرحمن العراقي مساعد سابق للزرقاوي وقابع حالياً في السجون.

ونظام الدين رفاعي الذي سُجِنَ عدة مرات ابتداءً من عام 1978 لتورطه في حركة الموحدين السلفيين والمحتجز حالياً في السجن.

وعبدالله عبدالصمد المفتي المطلوب منذ عام 1991 ومُنظّر سلفي بارز في العراق.

فأفكارهم كانت متطرفة لدرجة أن القاعدة رفضتها

فرجال الدين الجهاديين العراقيين هؤلاء قدموا أفكاراً رفضتها القاعدة في النهاية، في حين اعتنقتها داعش، وانطوت على الطائفية المتطرفة ومفهوم إقامة دولة إسلامية، حسب الهاشمي

وأوضح: «وضع رجال الدين هؤلاء مدرسة كاملة لعلوم الفقه والمنهجية، فضلاً عن النصوص الدينية التأسيسية.

ولم يكن الزرقاوي سوى مجرد قائد يطبّق نهجهم، وهذا هو السبب في أنَّ منهجه حاد عن المقدسي (يعتبر أستاذه الأول) وبن لادن بعد اختلاطه بأهل العراق».

وما يميز الأنباري عن رجال الدين الثلاثة أنه بالإضافة إلى تشبثه بآراء طائفية متطرفة قبل عقد على الأقل من ظهور الزرقاوي، أنه اضطلع بدورٍ تنظيمي رفيع المستوى داخل تنظيم القاعدة في العراق وبعدها في داعش.

وتُعَد مدة خدمته في الجماعة الأطول من بين رجال الدين كافة وكان أعلاهم شأناً داخل التنظيم منذ بداية إنشائه إلى حين وفاته.

وإجمالاً، يُبَرهن الاعتراف بالدور المركزي الذي ضلع فيه الأنباري في تشكيل داعش، والأحداث التي أدت لظهور قادة مثله قبل غزو عام 2003، أنَّ الجماعة لم تكن مجرد تشكيل ابتدعه جهادي أردني ماكر.

إذ يبدو أن الزرقاوي نزل إلى بلدٍ تحددت فيه بالفعل الملامح الأيديولوجية لمجموعة قُدر له أن يتولى قيادتها يوماً ما. وقد تأثر بالبيئة الموجودة وبالمُنظّرين الأصليين الذين شكَّلوا تلك الملامح على مرأى منه.

فقصة المؤسس الحقيقي لتنظيم داعش عبدالرحمن الأنباري تفسر سر نجاح التنظيم في السيطرة على العراق.

فنظراً لأن داعش تطوَّرت في العراق دون مؤثرات خارجية قبل عِقد واحد على الأقل من الغزو الأميركي وقبل وصول الزرقاوي، فهذا يساعد في تفسير قدرتها على النهوض، ومن ثم السيطرة على دولة متنوعة من الناحية الديموغرافية مثل العراق.

فالجماعة لديها جذور متأصلة في العراق أعمق بكثير مما عُرِف عنها سابقاً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى