تقارير وتحليلات

خاص||العودة إلى ديرسم.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة الثالثة عشر)

 

ارتفعَت معنوياتي بعد الإقرار بالعودة إلى ديرسم. لقد أرسلوني بِنِيَّةِ مساعدة أمي بالأكثر. في حين أني لم أرغب في رعاية الأطفال والانشغال بغسل حفاضاتهم. إذ كنتُ اهتممتُ بشقِّ الأنفس برعاية التوأم سابقاً. والآن سوف نصبح ثمانية إخوة في العائلة. كان أبي وأمي يستشيطان غضباً من كثرة الأولاد، ولكنهما بالمقابل ينجبان دون توقف. ازداد حنقي من ذلك، لكني بالمقابل سررتُ لعودتي مجدداً إلى ديرسم. إذ سأستأنف دراستي بعد انقطاع دام أحد عشر شهراً بالتمام والكمال! لقد كبرتُ كثيراً في تلك السنة، وتغيرَت ملامح جسدي. هذا عدا عمّا عايشتُه ورأيته في ألمانيا. بمعنى آخر، ربما انقطعتُ عن مدرستي سنةً كاملة، ولكني لا أستطيع القول أن تلك السنة مرّت سُدى.
تحمستُ كثيراً لدى وصولنا إلى ديرسم. إذ لم أبتعد عنها سابقاً كل هذه المدة. في حين كان أخي معتاداً على فراقها. كان الجميع يترقبنا لدى نزولنا من الحافلة. لم أنتبه حينها أنني جذبتُ أنظار الجميع، بسبب شعري الأشقر المستعار وبنطالي الواسع. إذ ظنّوني فتاةً ألمانية. لم أتصور أنهم سيفكرون هكذا. وهذا ما تسبَّب بتحفُّظ أقربائي وفتورهم معي بدايةَ الأمر، ما حزَّ في نفسي، ولم أدرك سببه بدايةً.
ولهذا السبب، قالَ الشاب الذي ذهب ليُبلّغ أمي الخبر: “لقد أتاكم حيدر، ومعه فتاة ألمانية”. ولدى وصولنا الحي، اتّجه أطفال الجيران ونساء أقاربنا وأمي نحونا. لم تَعرفْني أمي إلى أن اقتربَت مني. ولم تَزُل دهشتُها إلى أن قلتُ لها: “أمي. هذه أنا. ألَم تعرفيني؟”. لم يتصور أحد أنني سأستخدم يوماً ما شعراً مستعاراً، أو أنهم سيستقبلون “سكينة” وقد تبدلت ملامحها الجسدية إلى هذه الدرجة خلال أشهر معدودة. تصرفتُ بالمقابل وكأنني في وضعٍ اعتيادي للغاية. اعتاد الجميعُ على شعري المستعار خلال فترة وجيزة. لكني لم أَعُد أستخدمه كثيراً، ثم تركتُه تماماً.
لقد حدثَت تغيرات ملحوظة في ديرسم منذ أن فارقتُها. فبَعد الحديث عن “دنيز كزميش” و”ماهر تشايان”، بات الجميع يتحدثون عن “إبراهيم كايباكايا” ، وكيف قامت القوات العسكرية بتقييد رفاقه إلى السيارات العسكرية، وجابوا بهم الشوارع، وكيف حاولوا ترويع الشعب بإظهار أجسادهم المُنَكَّل بها، وكيف عرّضوهم للتعذيب الوحشي. كان “علي حيدر يلدز” قد قُتِل، بينما فرّ إبراهيم كايباكايا واختبأ في منزل أحد الفلاحين. لكن المعلم/مختار القرية شعر بوجوده، وبلَّغ عنه، فاعتُقِل، ثم قُتِلَ تحت التعذيب في “سجن ديار بكر”. كانوا يذكرون بغضبٍ وألمٍ كبيرَين كيف انتَزَعوا أظافره وقطعوا أصابعه. هكذا صار اسمُ إبراهيم “البطل الذي ضحى برأسه ولم يُفشِ سرّه”. وبدأت الأغاني تُقال عن إبراهيم كايباكايا وعلي حيدر يلدز.
لقد شهدت مدرسة المعلمين في ديرسم أيضاً أحداثاً مختلفة. إذ حصلت اشتباكات بين التلاميذ الفاشيين والتلاميذ الثوريين القاطنين في النُّزُل. بل ويقال أنه تم الهجوم على الحي السفلي أيضاً، وأنه تم ضرب الوالي هناك. إذاً، لقد مرّ عام 1974 عامراً بالأحداث في ديرسم.
استمتعتُ في المنزل لفترةٍ بامتيازِ العودة حديثاً من ألمانيا. إذ لم تتحاملْ أمي عليّ كثيراً، ولم تشتمني أو تضربني أو تنفجر في وجهي غضباً عندما تجد خطأً ما. بل بدأت تضغط على نفسها كي تتحمل. يبدو أن دخولي سن الشباب بدأ ينفع. كذلك كانت علاقة الفتيات الشابات المحيطات بنا مختلفة مع أمهاتهن. إذ لا تتحكم أمهاتهنّ بإراداتهن. بل هنّ اللواتي يقررن الكثير من أمورهن. ولم يَعُد ثمة إرغام على التنزه الجماعي. فالفتيات يذهبن بإرادتهن لزيارة صديقاتهن أو يستضيفنهن في منازلهن. كانت “بريخان” و”جميلة” و”نعمت” من أترابي.
أدركَت أمي أيضاً أنني كَبرت. وكان يُسعِدها إعجابُ المحيط بي، فتسعى إلى حمايتي. كانت تتدخل في شؤوني بالتأكيد، ولكن بمرونة. إذ تفرض رغبتَها في كل شيء، بدءاً من طراز ملابسي وحتى شكلِ تسريحة شعري. تشاجرنا كثيراً على الرغم من عدم تبدّل النتيجة عموماً. لقد كانت كثيرة التذمر. وهذه خاصية منفّرة ومزعجة حقاً. سيما وأنها لَم تُراعِ المكان أو الزمان أو الدواعي لذلك.
وبالمقابل، ازددتُ تمرداً وعناداً. فموقفها هذا يجعلني أعيش حالةً روحيةً معاكسة، ويدفعني نحو العناد وعدم فعل ما تطلبه. لكنني أحياناً أضغط على نفسي، وأتحرك حسب هواها مُكرَهةً وحانقةً، فقط لكي أُسعِدها. لكنها رغم ذلك لا تُسعَد، بل تتذمر حتى من موقفي هذا. فمثلاً، وبعدما أنتزع منها إذناً بالذهاب مع صديقاتي إلى السينما أو إلى مكان آخر، بعدَ طولِ رجاء وإلحاح؛ كانت تتدخل وتلجأ إلى سلوكٍ كهذا. فأتراجعُ بالتالي عن الذهاب، وتغضب صديقاتي ويتأسفن على عدم خروجي معهن. بل وكانت أمهاتهن أيضاً يتأسفن ويغضبن من أمي. حينها فقط تبدأ أمي بالإلحاح عليّ والرجاء مني كي أذهب. لكنّ ذلك لم يَكُن يكفي لإقناعي. كان عنادنا المتبادل يُحزِننا سويةً، ويترك خدوشاً في قلبَينا.
حقاً، علاقتنا هذه غريبة. فالشجار والصراع كانا حاضرَين دوماً. إذ تعتقد أمي أنها بذلك تُعَبِّر عن حبها لي وتفكيرها فيّ كأمّ، أكثر حتى من باقي الأمهات. ولكن، هل فرضُ الذات والرغبة الشخصية هو الحبّ حقاً؟ وما الذي تجنيه من استقطاب ردودِ أفعالنا جميعاً بهذا الشكل؟ إن الحب لا يعني التبعية. وعلى العكس، فالتبعية تفضي إلى تعزيز التمرد والعصيان.
لقد حمَّلها غيابُ الأب أعباءَ كافة المسؤوليات. وهي بذلك تتحمل عبئاً ثقيلاً، وتوجّبَ عليها لعب دور الأم والأب. فالمشاكل المادية، وذهابنا جميعاً إلى المدارس، وتداعيات الأحداث الجارية؛ كل ذلك يدفع أمي إلى فرض المزيد من الرقابة بهدف حمايتنا وإبعادنا عن “العادات السيئة!”. هذا ما جعلَها امرأةً عصبيةً ومتوترة على الدوام، ولا تعرف الهدوء أبداً. لقد أدركَت وانتبهَت إلى الخلل في نمط علاقتها معنا، فقالت رداً على ردود أفعالنا: “أنا أمكم، ولستُ عدوكم. فلماذا تتصرفون هكذا معي؟”، معَبِّرةً بذلك عن أسفها ويأسها وقلّة حيلتها. ويختلجني الشعور بالحزن والألم تجاهها ثانيةً. في الحقيقة، لو أنها استوعَبَتنا بوعي، ولم تتدخل في كل شؤوننا، لكانت ارتاحت وتلقّت الدعم والمساندة، وما كنا سنعاني من أية مشكلة جدية.
لقد أصبحنا ثمانية إخوة مع شقيقي الأصغر. بالتالي، فإن رعايةَ ثمانية أطفال، وتدبيرَ شؤون المنزل يخنقها حقاً. ثم إن علاقاتها مع الأقارب أيضاً محدودة. ولا تُسَرُّ إلا بتلقّي الرسائل من أبي، أو بعودته إلينا في إجازة. إذ يناقشها أبي، ويهدئ من روعها، ويَحُول دون ظهور ردود أفعالها غير المُجدية. بل وينتقدها على سلوكها معي، ويحاول إقناعها بخطئها: “إنها ابنتك. وقد صارت شابة وعليك مساعدتها. اتركيها تفعل ما تشاء أحياناً. لا تتدخلي في شؤونها. لا نريد أن يُشبهَنا أطفالنا، ولا أن يتصرفوا أو يفكروا على غرارنا. فهذا ليس صحيحاً. ثم إنهم لا يفعلون أي شيء سيئ والحمد لله. لذا، علينا الافتخار بهم”. وبالطبع، فإن هذه العِظات أفادت في تقويم العلاقة بيننا، ولو لفترة محدودة.
كان أبي يتأسف ويتألم من استيقاظي الباكر يومياً، لأتدبر شؤون المنزل قبل الذهاب إلى المدرسة. بل ويغضب عندما يرى أمي تتذمر غيرَ راضية عني رغم ذلك، فيؤنبها قائلاً: “اتّقي الله! فهي تستيقظ باكراً وتقوم بشؤون المنزل. ما من فتاةٍ تفعل هذا. ورغم ذلك تبحثين عن نقيصةٍ أو عيبٍ فيها؟!”. ومع ذلك، لم تُعجَبْ أمي بسلوكي، وظلت تفتش عن نقائصي.
لم يعارض أحدٌ رغبتي في الذهاب إلى المدرسة. وعلى النقيض، فالجميع يودّ أن أدرس، بل وأن أدخل المدارس العليا. ولم يصبح موضوعُ الزواج حديثَ العائلة حتى ذاك الوقت. بل ولم يتطرق أحد لهذا الموضوع حتى بخصوص أخي، مع أنه الابنُ البِكر. وهو أيضاً كان على ثبات في هذا الشأن. أو على الأقل، لم يسمح بطرحِ حديث كهذا بخصوصه. فعلى الرغم من صداقاته المتعددة مع النساء، إلا إنه يرى أن الزواج ليس أمراً بسيطاً أو يسيراً، بل شكل من أشكال التقيّد. ومَن يدري، ربما جعلَ نظامُ العائلة السائد ونمطُ العلاقات الرائجة من موضوع الزواج أمراً بلا جدوى في نظره.
كان زواج خالتي “سكينة” على وجه الخصوص مثيراً. وكنا نسخر منها أحياناً. إذ تزوّجَت حسب العادات والتقاليد. وقد رغبَت ذات مرة في رؤيةِ مَن يطلب يدَها. لكن، وبما أنه لا يُسمَح لها بالخروج معه، اضطرَّت للنظر إليه من النافذة. وعندما حاولت النظر إليه ذات مرة من فوق برميل الماء، سقطَت، فانقلب البرميل، وانسكب الماء. هكذا، تزوَّجَت خالتي الرجلَ الذي طلب يدها، دون أن تراه، ولو حتى من بعيد. كان زوجها سائق سيارة. وقد أنجبا سبعة أو ثمانية أطفال. لقد كان مجرد رؤيتِهما تحت سقفٍ واحدٍ يتطلب الصبر والجَلادة. فهما أقرب ما يَكونان إلى شخصَين غريبَين عن بعضهما بعضاً. وتفوح رائحةُ الرجعية والبَلادة من علاقتهما، لدرجةِ أن المرءَ يخالُ تلك العلاقةَ بلا معنى. فقلّما يتحدثان إلى بعضهما بعضاً. ومع ذلك، أنجبا هذا الكم من الأولاد! ما زلتُ أذكر كم كنا نأسف ونَسخَر من حالهما هذه.
كانت علاقة أمي وأبي أفضل حالاً نسبةً إليهما. إذ تقوم القيامة في حالِ الإقرار في موضوعٍ ما دون مصادقةِ أمي. فيتحول الأمر إلى إشكاليةٍ وإلى موضوع سجالٍ مدةً طويلة. لكنّ خالتي “سكينة” لم تَكُن كذلك البتة. أما خالاتي الأخريات، فهُنّ ذوات نفوذ واضح، وكأنهنّ يواظبن على هذه العادة السائدة في العائلة. إذ كانت جدتي لأمي معياراً للجميع. فبمجردِ أن تكونَ فتاةٌ ما “ابنتَها”، فكأن هذا يقتضي حتماً التشبث ببعض خصائصها بأقلّ تقدير. وإلا، فسيُقال عنها: “إنها لا تُشبه “أزي” بتاتاً”.

ترجمة:بشرى علي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى