تقارير وتحليلات

خاص|| الفتيات الباسلات! .. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة 16)

خاص|| الفتيات الباسلات! .. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة 16)

بات موضوع الفتيات المُخلى سبيلهن بعد احتجازهن يوم الإضراب، حديث الساعة، مما أزعجَ عوائلهن التي تحاشَت النقاش حول هذا الأمر، وعَدَّته يمسُّ بشرفها، بسبب ما رُوِّجَ عن المقاربات السيئة والشنيعة لعناصر الشرطة إزاء فتياتهن. لكنّ تلك الفتيات كسبْن تعاطف المجتمع عموماً، إذ عَدَّهنّ المجتمعُ “فتيات باسلات”.
أثّرت الأحداث اليومية في حياتي وبدَّلَتها مثلما غيَّرَت مسار اهتماماتي، مما انعكس على علاقاتي مع أمي والمحيط. إذ ازدادت خصائص التيارات اليسارية الثورية والتكتلات وضوحاً، وتقاربَت الأفكار المتناغمة الموجودة، والتفَّ المؤمنون برؤى معيّنة حول بعضهم بعضاً مع الزمن. كما تغيَّرت نوعية الشعارات، وتبدّلت المقاربات من الأحداث. لم يَكُن هذا التبدُّل بارزاً تماماً. لكنّ كل نشاط كان يؤدي إلى تشتيت وانقسام المجموعات والتيارات، سواء على صعيد الصياغات النظرية أم المواقف العملية.
لم يَعُد للدراسة والدروس أي معنى لديّ، وأصبح ارتيادُ المدرسة مجرد وسيلة للعمل، على رغم أني لم أخطط لذلك عمداً. فاعتمدتُ النجاح في الدراسة وعدم الرسوب في المواد أساساً، وركزتُ على نقل المستجدات وخوض النقاشات بين الطلاب، أكثر من تركيزي على الدراسة. وبات النقاش أسهل في حصص المعلّمين المعروفين بميولهم التقدّمية والثورية. أما ذوو الميول الفاشية منهم، فجعَلنا حصَصَهم لا تطاق. وصاروا يتجنبون النقاش معنا، وعاجزين حتى عن إعطاء دروسهم. كان عدد الطلاب الحاضرين في الدروس يتغير باستمرار، لكنّنا راعينا أن يَكون التوقيع على دفتر الحضور “تاماً” في الحصة الأخيرة دون بد. لم يَكُن مهماً “تمامُ” الحضور، بقدر أهمية إظهارِ الغائب حاضراً في الدرس! وبطبيعة الحال، ثمة طلاب مزاجيون أيضاً.
اعتمَدنا خدمةَ “العمل الثوري” في أوقاتِ الغياب عن الدروس. أي أنه توجَّب علينا أن نُوظّف المدرسة في خدمة النشاطات الأخرى، لا أن نتحجج بها. لم يَكُن أحدٌ منا يعي تماماً ما يفعله. بل غلبَت التلقائية لدينا. ولكن، وجَبَ علينا الحذر التام، لأن انتباه العوائل لأحوالنا يُزيد من ردود الأفعال. فقد تؤدي كلّ مغالاة في السلوك إلى نتائج مضادة. لقد تحوّلت المدرسة تدريجياً إلى أرضية لعقد لقاءات أخرى مختلفة تماماً.
وجَبَ علينا تعلُّم قراءة الأحداث بعين سليمة، واختيار التيار الصحيح. وباسمِ “الروح الثورية”، قمنا ببعض النشاطات بأشكال مختلفة وبمسمّيات متعددة. لكنّ أياً منها لَم يَرقَ إلى مستوى طموحاتي. وكُثُرٌ أولئك الذين يفكرون مثلي. فالثوريةُ ليست موضوع تسلية أو مراعاة للخاطر. فالمقرّبون مني يهتمّون بي خصيصاً، ويحاولون استمالتي إلى صفهم، فيُعطونني الجرائد أو المجلات أو البيانات التي تَعكس آراءهم السياسية، ويطالبونني بالتبرعات الشهرية. بل وأعطيتُ الاشتراكات حتى لأعضاء “الحركة الفكرية البروليتارية الثورية”، وقرأتُ جرائدهم، على الرغم من أني لم أحبّذهم منذ أول لقاء، ولم أنجذب إليهم، بل وشعرتُ بردود فعل تجاههم، بسبب مضامين شعاراتهم ومواقفهم وسلوكياتهم. لكنني كنتُ أُحسَبُ فوراً على كل تيارٍ أستلم منه جرائده أو بياناته أو مجلاته! راجَت هذه المقاربات في البداية بهدف تدوين كلِّ أسماء مَن يستميلونهم في خانتهم، والتملق بالتالي للآخَرين. لطالما نفرتُ من هذه المقاربة الاستئثارية.
كانت مطالعةُ كتابٍ ما في المنزل مِن أخطر الأمور وأكثرها إثارة للسجال. لم يَفُتْ أمي تغَيُّرَ شكل دراستي في المنزل. فكيف تأججت لديها كل ردود الفعل هذه ضد مطالعة الكتب؟ إنها حقاً نبيهةٌ وتدرك متابعتي للمستجدات والأحداث. إذ اختلّ عالَمي كفتاة يافعة، وتبدّلَت مطالبي وسلوكياتي يوماً بعد يوم. كما تغيَّرَ أصدقائي ومحيطي، وباتت الزيارات وسهرات “احتساء الشاي” مجرد مظاهر شكلية، إذ تبدَّلَ الهدف من اللقاءات والتجمعات كلياً.
ثمة أجواء إيجابية في نقاشاتنا، إذ تمحورَت حول طموحاتنا، ومحاولة فهم المستجدات السياسية، وسرد قصص الثوار الأبطال الذائعي الصيت؛ بعدما كانت تجمعاتنا في الماضي تقتصر على الرقص على أنغام الموسيقا، والمشاكسات الساذجة، والحديث عن اللباس وجهاز العرس. واتَّسَع نطاق صداقاتنا بعدما كانت محصورة بأصدقاء الحي أو المدرسة. كما تولَّدَت في هذه الفترة إمكانية التواصل المستمر مع الطلاب من مدرسة المعلمين ومع الطالبات من مدرسة الفنون للفتيات.
تجسَّدَت القواسم المشتركة بيننا في تشاطر نفس الأفكار والمشاعر. وبطبيعة الحال، راقَبَتني أمي بصورة مثيرة، مدركةً تماماً أين وكيف تبدَّلت تصرفاتنا في تلك الزيارات والتجمعات. وقد تَمَثَّلَ أحد أبرز التغيرات في تلك الفترة، في بدء الشابات بالتدخين حتى في الأوساط العامة، وكأن ذلك مقياس للحرية. لكني لم أستسغ هذا الأمر بتاتاً.
تبعَتني أمي كظِلّي، محاوِلةً فهمَ ما أقوم به. فباتت مواقفُها لا تُطاق كلما عُدتُ من لقاءٍ مع زميلاتي. إذ حاولَت شمّ رائحتي، لتعرفَ إنْ كنتُ أدخّن السجائر أم لا. ووضعَت أحياناً إشارات مخفية على التطريزات التي أشتغل عليها، كي تُبدد شكوكها وتعرف مدى انشغالي بها من عدمه. وبالطبع، علمتُ ذلك من خلال اعترافاتها لي أثناء حديثي معها، مع أني لا أقوم بأي عمل، ولا أذهب إلى أي مكان إلا بإذنها. كما إني لا أكذب عليها إطلاقاً.
ولكن، كان من الخطرِ الإفشاءُ لها بكل شيء يخص علاقاتي الجديدة. فلو أنها استوعَبَتني، لَسَردتُ لها الكثير من الأمور. إلا إنها لم تَكُن كذلك. لذا، لم أَذكر لها كل شيء. وبطبيعة الحال، كانت تخمّن وتدرك الكثير من الأمور بقوة حدسها. فانكَبّت على متابعة تصرفاتي والتحكم بي وكبح جماحي. لم يَكُن أخي متواجداً في المنزل في تلك الفترة، بسبب مكوثه في المتروبولات في أغلب الأوقات. لذا، عُدِدتُ عملياً أكبرَ أفراد العائلة. وعلى رغم عدم قيامي بَعدُ بأي نشاط ملموس، إلا إن أمي قلِقةً من ميولي نحو العمل الثوري، ومن إصراري العنيد عليه، واختياري إياه بنحوٍ يزداد وضوحاً مع الأيام. زد على ذلك أنها تفكر بإخوتي أيضاً، لأنهم جميعاً يَصغرونني سنّاً.
أولُ مؤلَّفٍ قرأتُه هو كتاب “تحت أعواد المشنقة” لكاتبه “يوليوس فوتشيك”، ثم كتاب “الأم” لـ”غوركي”. وتأثرتُ بهما كثيراً. كنا نتداولُ هذَين الكتابَين فيما بيننا، ثم يناقش كل واحد منا حول أهم النقاط التي تأثر بها، لنصبح وكأننا قرأناهما عدة مرات. كما كنا نَقيسُ مدى فهمِنا إياهما بنحو صحيح في كل مرة. كانت صديقاتي في الحي “بريخان” وجميلة ونعمت وفتحية يُطالعن كتباً من هذه النوعية. وانتشرَت عادةُ مطالعة الكتب تدريجياً في الحي. إذ نعلَم سريعاً بأسماء الكتب الموجودة عند أي شخص في الحي. فالذين يبتاعون الكتب كُثُر.
كانت “توركان تشاكماك” زميلتي في الدراسة. ثم أكملَت دراستَها في مدرسة المعلمين. وهي تتحرك بحريةٍ أكثر من أي شخص آخر وبلا عوائق عائلية. لذا، كانت تدخل كل مكان تريده، وتتسم بروح المبادرة. أما “علي آيدن”، معلم التربية الرياضية، فأتمّ دراسته الثانوية في ديرسم، والتحقَ بالجامعة، ثم عاد وأصبح معلّماً في نفسِ مدرسته. لذا، أَحبَّه الجميع لأنهم رأوا أن تدريسه في مسقط رأسه خدمةٌ جليلة، سيما وأنه يهتم بأنواع مختلفة من فروع الرياضة مثل الكاراتيه، التايكوندو ، رمي الرماح، والقفز.
كان على الثوار أيضاً أن يتمتعوا بقوة عضلية بالغة لحماية أنفسهم. فالكل يعلم أن الفاشيين يهتمون جداً بتعلُّم الكاراتيه. والحال هذه، فلماذا لا تُنتَهَز هذه الفرصة في “ثانوية تونجلي”؟ وعليه، زاد الاهتمام برياضتَي الكاراتيه والتايكوندو، واللتَين كانتا تُعرَفان بأنهما “من شؤون الفاشيين”، فتغيَّرَ الانطباع السائد في هذا الشأن. ثم إن معلّم الرياضة ثوري ومن ديرسم. بالتالي، استقطَبَتنا هذه الرياضة. من جانب آخر، افتُتِحت دورات لتعليم البزق، وتزايَدَت أعداد الشباب والشابات المسجّلين فيها. وعلى رغم تطوُّر هذه الميول طبيعياً، إلا إنّ عدم رفض العوائل لهكذا نشاطات، وعدم عَدِّها أمراً خطيراً، حوَّلَ هكذا نشاطات إلى وسيلة للّقاء والنقاش. فجميع العائلات تتشاطر نفس المخاوف وتُنبّه أولادها على ذات الأمر: لا تصبحوا ثواراً، ولا تنشغلوا بالسياسة، فهذه أمور كارثية.
تغيَّرَت ميولي تجاه أجاويد تزامناً مع مواقفه الغريبة في إحدى احتفالياته. وقد أبلى بذلك بلاءً حسناً! أجل، إذ طغى لديه شعار “الحرية للشعوب!” على ميوله الكمالية. لكنه في تلك الاحتفالية صرخ قائلاً: “لا وجود للشعوب هنا، بل ثمة شعب واحد. هؤلاء حفنة استفزازية من أعداء الشعب. إذ رماني مناصرو “حزب الحركة القومية” في قضاء “كوفانجيلار ” بالحجارة. إنهم أعداء الشعب هنا أيضاً. إنهم ليسوا أبناءَكم. اعرفوهم جيداً! لا تحتضنوهم!”. كم أبلى “أجاويد” بلاء حسناً بكلامه هذا، الذي يؤلّب الشعوب على بعضها بعضاً، ويستفزها!
في الحقيقة، لم أعبِّر عن ميولي الأجاويدية بنحو بارز في تلك الاحتفالية كما كنتُ في السابق. ولم أكتب أية عبارة على الجدران. لكني ارتديتُ القميص “الأجاويدي” الأزرق اللون، وأخذتُ مكاني بنحوٍ يمكّنني من رؤية المنصة أثناء حديثه. ما زلتُ أُعرَفُ حتى ذاك اليوم بميولي الأجاويدية التي لا تتناقض مع ميولي الثورية العامة. لكنّ التبدل الأساسي حصل في تلك الاحتفالية، التي قضت نهائياً على ميولي الأجاويدية. فعبارة: “لا وجود للشعوب هنا، بل ثمة شعب واحد” قضَت على مكانةِ أجاويد لديّ ولدى الكثيرين. فكأن تلك العبارة فتحَت أعيننا على الحقيقة فأدركنا أن اليسارية الأجاويدية لا تختلف بمثقال ذرّة عن التيار اليميني، وأن أجاويد يشكل نسخةً مختلفةً من النظام القائم، وأنه ممثل حقيقي للكمالية، ومدافع عنها، وحارس لها.
كان يوماً ربيعياً مشمساً، فعجّت ساحة البلدية بالمحتشدين، لدرجةِ أنه إذا رميتَ إبرةً لَما وقعَت على الأرض. وفورَ بدءِ أجاويد حديثَه، بدأت مجموعةٌ تحمل العديد من اللافتات المختلفة بإطلاق شعار “الحرية للشعوب!”. ولكن، لماذا أغاظ “قره أوغلان ” تلك الشعوب إلى هذه الدرجة؟ لم يصبح هذا الفتى الأسمر قبيحاً إلى هذا الحد مثلما هو عليه الآن. فسابقاً، كانت حتى تشنجاته اللاإرادية جذابة. أما الآن، فباتت ملامح وجهه بالكامل غريبة عنا، وأصبحتُ أراه بعيداً كل البُعد عن الإنسانية. لقد أدركتُ كل ذلك، أجل كله، في ذاك اليوم. إذ تَحَوَّل كل شيء جميلٍ فيه إلى قبحٍ في تلك اللحظة. ولم يَذكُر أحدٌ أي شيء آخر.
لَم يُولَدْ آلهةٌ آخرون في ذاك اليوم. لكنّ صورةَ “الفتى الأسمر”، الذي كان “مُنقذاً” و”إلهاً صغيراً” في الأذهان، تحطَّمت في غمضة عين. وكأن مفردة “الشعوب” باتت معياراً لكل شيء. وإلا، فما معنى القول: “لا وجود للشعوب هنا، بل ثمة شعب واحد، وهو الشعب التركي”؟ إنها عنصرية سافرة تدل على إنكار وجود الشعب الكردي والشعوب الأخرى! والحال هذه، فمَن تكون هذه الجماهير المحتشدة وهذا الشعب، الذي طالما ناشده “قره أوغلان” على مر السنين؟ هل هو الشعب التركي؟ كلا! هكذا، ولَمّا سقط القناع عن وجه “الفتى الأسمر”، اتّضحَت العنصرية المتخفية في طوايا هذا الشخص الذي يزعم أنه “يساري!”. بالتالي، ما عاد يُجدِيه أن يقول كلمةَ سُوءٍ واحدة بحقّ “التوركيشيين” من أنصار “حزب الحركة القومية”. إذاً، لقد خاضوا معاركهم بهذا الشكل طيلة سنين، بهدف تمكين اغترابنا عن حقيقتنا. لكنّ الجميع يعلم ويرى أن أولئك الذين يُطلقون الشعارات ليسوا أعداء الشعب. بل هم أبناؤه، والكل يعرفونهم جيداً.
تلقّى عناصر الشرطة تعليمات أجاويد، فهاجمونا وضربونا بعُصِيّ اللافتات. بل وأصبح أولئك الذين وقعوا في فخّ الاستفزاز يضربون أبناءهم بعُصِيّ اللافتات. أي أنّ مَن يهاجمونهم لم يكونوا “ذئابَ توركيش الغبراء” ، بل إنهم أولادهم. لكنهم عَدّوا حملَ اللافتات شغَباً، وأنه وَجَبَ عليهم إنزالها لأنها سبب الفوضى والتطرف تجاه الدولة!

ترجمة: بشرى علي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى