تقارير وتحليلات

خاص|| قُيِّدَت حماستي ومشاعري الطفولية بالسلاسل.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة ١٤)

 

تبدَّلَت الظروف نوعاً ما. فالمعايير والقوالب التقليدية بدأت تشهد الانهيار، وإنْ بدرجةٍ غير بارزة. وباتت الفتيات والشبان يستطيعون التحدث والتعرّف إلى بعضهم بعضاً. هكذا تزوّجَت خالتي الصغيرة “غونيش”. كذلك تمكَّنَت ابنةُ الجيران “فتحية” من رؤيةِ حبيبها والتعرف إليه والاتفاق معه، قبل أن يخطبها. بل وعاشت في منزل عائلة حبيبها فترةً قبل أن يخطبها، ما أدى إلى استياء وتذمر المحيط من هذه المغالاة. كما أصبح تنزُّههما وتَجوالهما سويةً موضوع نميمةٍ في بعض الأحايين.
ورُفِعَت عادةُ المهر تدريجياً، ليبدأ شبابُ ديرسم “اليساريون الثوريون” بتكريسِ عاداتٍ جديدة. وقد اغتبط لذلك كثيرون. بل وغدَت حالاتُ زواجِ المتعلمين في المدن الكبيرة من فتيات تركيات أو شركسيات أو من قوميات أخرى أمراً طبيعياً للغاية؛ وذلك على حساب زواج الأقارب الذي كان يسود قديماً، ولكنه أصبح مع الوقت عادةً غير اضطرارية وغير إرغامية. كما لم تَعُد ظاهرة اتفاق العوائل على تزويج الرُّضَّع سائرة. لكن الأهم في الأمر هو: هل أدت هذه التغييرات إلى تبدّلاتٍ مصيرية؟ وكم تمّ تخطي العادات البالية؟ إذ كان هناك مَن يفكرون فيّ، أنا الطفلة، كي أكون عروساً لأطفالهم.
كانت علاقاتنا مع أعمامي محدودة، فلا نراهم إلا نادراً. وغالباً ما كنا نلتقيهم عندما يأتي أبي في إجازة. كان لثلاثةٍ من أعمامي أطفالٌ من أترابي. لكن المحيط لم يَكُن يعلم أننا أقارب، بسبب عدم معرفتنا لبعضنا بعضاً. وعليه، كانت علاقاتنا فاترة بنحو ملحوظ. أما مقاربات أعمامي مني، ووصفهم إياي بـ”عروسُنا”، وأنا ما أزال طفلة، فكانت تواجَهُ برَدّة فعل عنيفة من قِبَل أمي، التي كانت لا تحبّهم ولا تتفق معهم، بل وتستصغرهم وتحقد عليهم. إذ لَم تنسَ أمي قطّ عدم مساعدتهم لها أثناء غياب أبي عن المنزل. وطالما عبَّرت عن ذلك بقولها عن وجه حق: “الصديق وقت الضيق” أو: “يداي أفضل لي”. لكنّها كانت تعتمد أساساً في مقاربتها هذه على معاييرها الخاصة، أكثر منها ردةَ فعل على التقاليد البالية. أما أخوالي، فكانوا أكثر يقظةً في هذا الأمر. إذ يدركون بنحو أفضل حقيقة أولادهم، الذين أصبحوا متسكعين بعد أن تركوا المدرسة. فمَن ذا الذي يرضى الزواج بهكذا أولاد؟ كان أخوالي يحبونني، ويرون أن أولادهم غير لائقين بي.
كان العنفوان يختلج أبي كلما صار عرسٌ حولنا: “ليت مُرادي أيضاً يتحقق!”. إذ يفكر دوماً في تزويجنا، ولكن، دون إكراهٍ أو إرغام. إلا إن موقف أخي الأكبر كان مؤثراً في تحديدِ مقاربةِ أبي منا، إذ يقول: “حتى أنا لا أطيق العيش مع أمي، فكيف للعروس أن تحتمل؟”.
لم يتجاوزْ أبي وأمي أفكارهما وآمالهما المحصورة في هذا الإطار فيما يتعلق بنا نحن الأطفال. إذ أرغمَتني أمي على تحضير “جهاز العروس”. فأينما وجدَت نماذج من التطريزات أو المُخَرَّمات أو الدَنتيل، كانت تنتقي الأصعب والأجمل منها، وتأتي بها، لتبدأ بالتطريز على شاكلتها، وتُجبِرني أيضاً على فعل ذلك.
كانت بعض الفتيات يحبّذن تحضير “جهاز العروس” بشغف وهَوَس كبيرَين، ليتحوَّل التجهيز للزفاف ورؤية ذواتهن على أنهن جاهزات للزواج إلى خيال أساسي لديهن. أما أنا، فكنتُ على النقيض منهن. فعندما رجعتُ من ألمانيا، لم أجلب معي “جهاز العروس”. بل كانت هداياي مختلفة تماماً. فالزواج والعلاقات المادية لا تناسبُ طباعي بتاتاً، بل كنتُ أنفر منها. ذلك أن رؤية أبي إلى الحياة أثرت فينا بالأكثر. فالجانب المادي للحياة يذكّرنا دوماً بالمصالح والظلم والصراع والنفور. كان أبي يبدأ باللعنّ والشتم، كلما تداخل الجانب المادي مع أمرٍ ما. إلا إن العالَم الذي نعيشه، عادةً ما كان مضبوطاً وفق المعايير المادية.
بدأت العائلةُ تشهد هكذا مواضيع تزامناً مع عودتي من ألمانيا. فالعمّ “خضر”، الذي يسكن في البناية المقابلة لمنزلنا، كان من الوافدين مراراً إلى منزلنا. وهو شخص طويل القامة، ضخم الجثة. وعلى الرغم من إحالته على التقاعد، إلا إنه يتمتع ببنية جسدية متينة. أما زوجته التركية، فهي على العكس منه قصيرة القامة وبدينة. وقد أحبّ الجميعُ هذَين العجوزَين المتناقضَين في الشكل، واللذَين اعتادا زيارة كل مَن في الحي، ليَقضيا بذلك على وحدتهما. وكانت ابنتهما المتزوجة في أنقرة قد أتت مع أولادها لزيارتهما في تلك الفترة.
زارنا الكثيرون للترحيب بعودتنا من ألمانيا، بمَن فيهم هذان العجوزان، اللذان كانا آخر مَن ذهب. لقد فحصاني بنظراتهما بكل دقة. وأكثر ما أَحَبّاه فيّ هو هِمّتي في النشاط داخل المنزل. ذلك أن الفتاةَ تغدو محطّ إعجاب عندما تَكون نشيطة! كم كان مثيراً أن يُعجَب الآخرون بي، عوضاً عن أن أُعجب أنا بهم. لا ريب أن محبة الآخرين واهتمامهم أمر مهم. وحبُّ الخصال الحميدة أو حتى الملامح الجميلة أيضاً أمر مقبول، بل ويؤثر في الحياة المشتركة. إذ ما من أحد يود العيش مع شخص مُنفّر. لكن المقاربات كانت مختلفة تماماً.
كنا جيراناً وإياهما في مساكن الموظفين أيضاً. لم تَكُن علاقاتنا معهما حميمية حينها، ولا أتذكر إلا ولدَيهما “دوغان” و”متين”. فقد جذبَ “متين” انتباهي حينها بقامته الطويلة وسيره السريع، وبما شاع عنه من عصبية. كنتُ صغيرةً آنذاك. ومَن يدري، ربما كنتُ في نظره طفلةً مشاكسة ومَخّاطة، عندما كنتُ ألعب الكرة مع أترابي في الحديقة الوسطى. كان يحاول إفهامَنا انزعاجَه من مشاكساتنا، بمداعبةِ شعورنا ورؤوسنا. وحصل أنْ صرختُ غير ذات مرة: “يا أخ متين، يا أخ متين”، كي ألفتَ انتباهه بشتى الأساليب وببراءة الطفولة.
لكني كبرتُ الآن. لذا، أتظاهر بتجاهُله كلما التقيته أو رأيته. لقد أتى، هو أيضاً، في إجازةٍ في تلك الفترة. لمحتُه عن بُعدٍ بضعة مرات في الشارع أو واقفاً في شرفة المنزل. كان متين “الأخَ المشهور” في مساكن الموظفين. ولم يترك وجودُه فيَّ أي أثر غير ذلك. إلا إن الاهتمام المفرط لوالدَيه وأخته بي لفتَ انتباهي.
كما كان أعمامي أيضاً يفكرون في ذلك في تلك الأثناء. لكنّ كل واحد من أبناء عمومتي يتميز بخاصيات مختلفة. كان “جلال”، ابن عمي مصطفى، في المرحلة الثانوية من الدراسة. وحيدر، ابن عمي الثاني، يدرس في “مدرسة الفنون الجميلة”. أما إبراهيم ومحمد علي وباقي، فهم أولاد عمي محمد. يقطن محمد علي في أنقرة، وقد انتسب منذ مدة طويلة إلى “الحزب الشيوعي التركي”. وهو معروف بصراعه ضد الفاشيين أثناء دراسته في أرزنجان. وقد كان إبراهيم وباقي أيضاً حماسيَّين.
كنا نحب إبراهيم بالأكثر، لأنه يهتم بنا ويسأل عن أحوالنا كلما زارنا، على الرغم من ندرة زياراته إلينا. لذا، فعلاقاتنا معه حميمية أكثر. أما باقي، فكان في مرحلة دراسته الثانوية، وعلاقته معنا محدودة للغاية. كنا نناديهم جميعاً بصيغة الجمع من باب اللباقة، على الرغم من فارق السن القليل بيننا وبينهم لصالحهم. كان قد زارنا باقي قبل ذلك ذات مرة للاطمئنان علينا. لكنّ زيارته إلينا هذه المرة هي لغاية مختلفة. وكان أخي الأكبر وأمي على علم بالأمر. وقد قال أخي لأمي بخصوصي: “تكلمي معها أنتِ. فهي ما تزال صغيرة. ومن الأفضل لكم ألاّ تطرحوا عليها هذا الموضوع”.
ثم خرج أخي من المنزل، منَبِّهاً أمي أن تتركنا لوحدنا، أنا وباقي. حينها أدركتُ الأمر. انشغلتُ بترتيب المنزل لكسبِ الوقت. لكنّ الأمر كان غريباً عليّ. كنتُ واثقةً من نفسي، ومسرورةً بقدرتي على اتخاذ قراري بذاتي. إذ أصبحتُ فتاةً يانعة، وباتت أمي تعترف بحقي في اتخاذ القرارات في ما يعنيني. وهذا ما يصبّ في صالحي. احتسَينا الشاي سويةً مع ابن عمي، ورفضتُ عرضَه الزواجَ مني. لقد أوضح لي أنه معجب بي منذ أيام الدراسة الإعدادية. كان حديثه ناضجاً. لكني بيَّنتُ له أنني لا أفكر بالزواج، وأني أودّ إكمال دراستي. إلا إنه أكد على عدم رغبته في الزواج فوراً، وأنه يكتفي حالياً بالخطوبة، حتى يُكمل هو أيضاً دراسته. لكني بالمقابل جزمتُ له أني لا أشعر بعاطفة مختلفة تجاهه. خرجَ حزيناً وعيناه تكادان تدمعان. أصاب الفضولُ أمي وهي تنتظرنا في الحديقة. لكنها خمّنَت النتيجةَ من حُزن باقي، ومن خروجه المبكر. فرحَ أخي الأكبر لقراري حين عودته مساءً، وقال: “حسناً، ماذا عسانا نقول، ما دمتِ قررتِ ذلك!”.
هكذا بات الموضوع طيّ النسيان. أصاب الفضولُ صديقاتي في الحي، وأردن معرفة سبب رفضي الزواج من ابن عمي الذي بدأ دراستَه الجامعية. إنهنّ لم يحسمن الأمر أبداً. زادت ثقتي بنفسي بعد ذلك، وأثّر موقفي في أمي أيضاً. إذ أعتقدُ أنها أدركَت أنها لن تستطيع فرضَ رغباتها عليّ بسهولة بعد ذلك. جاء أبي في إجازة ذاك العام. فبدأ أعمامي بالحراك لنفس الغاية. حاول أبي إقناعي بالزاوج، ظناً منه أن أمي هي التي أثَّرت عليّ. وبطبيعة الحال، لَم تَكُن محاولاته تلك فظة.
بعد ذهاب العم خضر وزوجته، التي كنا نلَقّبها بـ”الأم تونتون”، مع أبي، باتوا لا يفترقون عن بعضهم بعضاً أبداً. وقد أفصَحا، هما أيضاً، عمّا يريدان قوله. كنتُ باشرتُ الدراسةَ في الصف الأول من المرحلة الثانوية، حين أرسلا بعض معارفهما كوسطاء لإقناع أبي. ولَمّا طرحوا الأمر عليّ ذات يومٍ غضبتُ قائلةً: “لا أستطيع اتخاذ قرار بشأنِ أحد لا أعرفه ولم أتحدث إليه. وأنتم أيضاً لا تستطيعون”. اغتاظ أبي كثيراً من ردّة فعلي الحادة، وعَدَّها عجرفة. عجباً لأبي الذي غضب من ردّة فعل طبيعية للغاية! وكأنني ارتكبتُ ذنباً بكلامي ذاك. بعد ذهاب الوسطاء، حاولَت أمي إقناعي بالفكرة. وحصلت مشادّات كلامية قاسية بينها وبين أبي بسبب ذلك. إذ غضب أبي من تفضيل أمي إنساناً غريباً على الأقارب في هذا الشأن. واستمرت المشادّات أياماً عديدة، بل ووصلَت حدّ القطيعة بينهما أحياناً. وهذا ما عَكَّر صفوَ المنزل. أعادَ الوسطاء طرح الموضوع بعد فترة. يبدو أن العمّ خضر مُصِرٌّ على ذلك. كان يسأل عن أحوالي، ويهتمّ لأمري، كلما رآني في السوق أو الشارع أو في أي مكان آخر. إنه يهتمّ بي بكل معنى الكلمة.
انفجر أخي الأكبر غضباً ذات يوم بسبب ضغوط أمي عليّ: “ما الذي تفعلونه؟ كم هو عمرها؟ أأنتم بلا حيلة إلى هذا الحد؟ أتَرَونها عبئاً عليكم؟ ألا تستطيعون رعايتها؟ وإلا، فلِمَ كل هذه الضغوط؟”. ثم التفتَ إليّ قائلاً: “لا تتأثري بهم. قرري ما هو صحيح بالنسبة لكِ بدلاً من البكاء والتذمر. فالزواج ليس لعبة!”.
سررتُ بموقفه هذا. إلا إنهم كانوا يودّون البتّ في الأمر في الأيام اللاحقة تحت ضغوط الأقارب المحيطين بنا. وأعطَوا الوعد ذات يومٍ عندما كنتُ في المدرسة. إذاً، فموقفي ليس ذا أهمية! لم أقاوِم القرارَ بحِدّة. أو لنَقُلْ أن موقفي لم يَكُن، على الأقل، بتلك الصرامة التي كنتُ أبديتُها تجاه ابن عمي. وقد تأثرتُ بالنصائح التي أُسدِيَت لي، والتي مفادُها: “هل أنتِ مجنونة؟ متين إنسان جيد. وهو يدرس في الجامعة. إن زواج الأقارب ليس محبَّذاً. لذا، فهذه العائلة أفضل من الأقارب”. كنتُ مترددة. لكنّ أمي بَتَّت في الأمر نيابةً عني، وأرغمَت الـ”بِير” على الرضوخ للأمر. ويبدو أنه رضخَ حانقاً مستاءً، لا لشيء سوى لأنه كان يفضّل زواجي من ابن أخيه!
قيل لي بعد عودتي من المدرسة أن حفل الخطوبة سيتم فوراً، قبل أن يبدأ متين عامه الدراسي الجديد. لم يَبقَ أي جدوى من تذمُّري آنذاك. وقد أكدَت لي ابنة خالي، جميلة، أن كل شيء قد رُتِّب، وأنه ما من جدوى من الغضب. أجل؛ حقاً سأُخطَبُ لشخصٍ لم ألتقِ به، ولم أتحدث إليه، ولا أعرف خصاله. هو أيضاً لا يعرفني عن كثب. ويبدو أن أمه وأباه وأخته الكبرى قد أثّروا فيه كي يقبل بالأمر. فما رآه فيّ من بعيد هو أنني فتاةٌ ذات شعر أشقر مستعار! أما العم خضر، فتجاوزَ الحدود بقوله: “لنَعقِد قِرانهما فوراً، وليذهبا معاً إلى أنقرة”! في حين أن عائلتي لم تودّ الاستعجال، بل فضّلَت الانتظار حتى إنهاء دراستي الثانوية بأقلّ تقدير.
أكان الأمرُ حُلماً أم لعبة؟ كنتُ مذهولة. فكيف لي أن أفرح أو أغتبط؟ فلو أنه كان شخصاً أحبُّه أو أثار إعجابي، لَتَقَّبلتُ النبأَ بمشاعر مختلفة. لقد بُتَّ في الأمرِ نيابةً عني، وهذا ما صدمَني أكثر. وعلى أية حال، فإني صغيرة، ولذلك رأى والداي أنّ لهما الحقُّ في البتّ في الأمر نيابةً عني. وماذا عنه هو؟ إنه شاب ناضج. بل حتى إن المستوى الثقافي لوالدَيه مختلف تماماً عن مستواه بصفته طالباً جامعياً. فلماذا لم يُقدِم هو على أيةِ خطوة في هذا الشأن؟ إذ لم نلتقِ أبداً. بدأتُ أحدد محاسنَ متين: ليس لديه خصال سيئة، وهو حسَن المظهر، بل ووسيم. هذا ما لفتَ انتباهي فيه، ما دام قد بُتَّ في الأمر.
وقلتُ في قرارة نفسي: قد يَكون هذا أفضل. ولكن، ماذا الذي تعنيه الخطوبة؟ ظللتُ أفكر في الأمر، وأحاول تصَوُّره طيلة تلك الليلة. لكني لم أشعر بأية عاطفة مختلفة. وكيف لي أن أشعر بشيء مجرّد؟ انحصرَت مشاعري في التحمس لبعض اللحظات التي قد أعيشها. وفي ساعات الصباح الباكر من اليوم التالي، استَقَلَّينا، أنا وأمي وأبي وخالتي مدينة ومتين، السيارة متّجهين نحو مدينة ألازغ، لابتياعِ خواتم الخطبة.
اكتفَينا، أنا ومتين، بالمصافحة لدى تقابُلِنا في السيارة. كنا نخطف النظر إلى بعضنا بعضاً بين الحين والآخر. إننا غريبان تماماً عن بعضنا بعضاً. نزلنا في إحدى فنادق مدينة ألازغ، بعدما اشترينا الخواتم والألبسة والهدايا اللازمة لحفل الخطوبة. واقتصَرنا أثناء ابتياع الحاجيات على تبادل أذواقنا في نمط الملابس. حاول متين في تلك الليلة انتزاعَ إذنٍ من أمي كي نذهب سويةً إلى السينما، ولكن دون جدوى. كانت السينما مجرد ذريعة، كي نبقى سويةً ونتحدث ونتعارف. كانت تلك المبادرات تأتي من متين، لأنني لم أفكر بذلك بتاتاً.
قصدتُ الكوافير فور عودتنا إلى ديرسم لتصفيف شعري ولوضع مساحيق التجميل بنحو خفيف. ثم ارتديتُ لباس الخطبة، وجلستُ إلى جانب الضيوف. تبادَلنا إلباسَ خاتَمَي الخطبة وسط تصفيق الحضور، وبدأت الحفلة التي مرحَ فيها جميعُ أهل الحي والجيران والأقارب، والتقطوا الكثير من الصور، ورقصوا حتى منتصف الليل. نزعتُ لباس الخطوبة بعد فضّ الحفلة، وشعرتُ أني أحُوم في فراغ.
لم أستطع استيعاب ما جرى. وكأننا كنا نلهو ليَعودَ الجميع إلى منازلهم بعد انتهاء اللعب، مع فارقٍ بسيط، وهو وجود خاتم الخطبة في إصبعي. لقد أصبحتُ مخطوبةً إذاً! نزعتُ الخاتم وقرأتُ ما كُتِب عليه من الداخل: اسمُ “متين تشتين” وتاريخ يوم الخطوبة. نظرتُ إلى نفسي في المرآة. ما يزال شعري مصفَّفاً، ومساحيق التجميل على وجهي. وكأنني كبرتُ فجأةً. حاولتُ مسحَ المساحيق، فإذا بي أُبعثِرها أكثر على وجهي، لأني لا أعرف أصلاً كيف تُمسَح. عرفتُ لاحقاً أنه كان عليّ مسحها بسوائل أو بكريمات خاصة.
كان أبي وأمي يتجادلان في الداخل. حاولتُ استراق السمع إليهما، فأدركتُ من حركةِ أبي أنه يُقسِم لها أنه لم يفهم منها شيئاً. ثم علمتُ أن أمي كانت قد أومأت إلى أبي بعد حفلة الخطوبة أن يتركنا، أنا ومتين، لوحدنا قبل أن تخرج هي من الغرفة؛ وأن أبي لم يدرك ذلك ولم يخرج! أي أننا لم نَختَلِ ببعضنا بعضاً في تلك الليلة أيضاً، ولم نتحدث على الإطلاق. كنتُ طيلة الحفلة أحرّك أصابعي وأشدّ بلباسي خجلاً، ما جعل متين ينبِّهني همساً بأن شدّ الملابس بهذا النحو يُبرِزُ ملامح جسدي. كما شاركنا في الدبكة في هذه الغرفة الضيقة، بناءً على إلحاح المعلمة آيسال. لكني سرعان ما عدتُ جالسةً على الكرسي. لم أرقصْ من القلب. وكأنّ مشاعر الطفولة البريئة والتلقائية والحماسية لديّ قد كُبِّلَت بسلاسل، وطغَت عليّ حالة الحياء والانكماش، وكأني في مِعصرة.
زارنا متين في اليوم الثاني كي يودّعنا. تناولنا الطعام واحتسينا الشاي معاً، وبدأ جدال عميق بين متين وأبي. حدّقَت أمي ثانيةً في أبي بعَينَيها الواسعتَين محاوِلةً الإيماء له بشيء ما. لكنّ أبي لم ينتبه هذه المرة أيضاً. فأبي يحب النقاش الجماعي. لذا، لم نستطع، أنا ومتين، التحدث إلى بعضنا بعضاً مرةً أخرى. واكتفَينا ثانيةً بالنظرات الخاطفة وبالتأمل الفضوليّ عن بُعد. لم نَكُن قريبَين من بعضنا بعضاً مثلما نحن عليه اليوم. فقد جلَسنا إلى نفس الطاولة، وخاتما الخطبة هما القاسم المشترك بيننا. صافحَ متين الجميع، وودّعني آخرَهم. شعرتُ بالكآبة تسري فيّ في تلك اللحظة. فماذا يعني أن يودّعنا هكذا؟ لم أستطع قول شيء بطبيعة الحال. قَبَّلَني متين من الخد، وخرج سريعاً.
ثابرتُ على دراستي بعد ذهاب متين. باركَتني جميع صديقاتي على الخِطبة. نضجتُ بعد تلك الحفلة، وغدوتُ أكثر انتباهاً لسلوكي، وما عاد لي أن أكون تلقائية في تصرفاتي. أما أمي، فلا تنسى أبداً تذكيري في كل مناسبة: “أنت مخطوبة”، لتُحاصرَني وتكتم أنفاسي.
بادر متين بمُراسلتي. كتبتُ رَدّاً عليه عن الحالة النفسية التي مررتُ بها، كما هي، وبكل شفافية. أُعجِبَ متين برسالتي، وسُرَّ بشفافيتي في طرح أفكاري. كنتُ أتلقى رسائله عن طريق عائلته، وأبعث رسائلي إلى العنوان الموجود على رسائله. أصبحنا كعائلة حميمة مع أمه وأبيه، اللذَين يزوراننا صباحاً ومساءً. بالتالي، أصبحتُ في حصار مضاعف: رقابة أمي، ومحاولات عائلة متين الدائمة للحدّ من تحركاتي. لكنني رفضتُ الحصارَين، وعاندتُ الرضوخَ لهما، مما جعل جدالي مع أمي يصل أحياناً حدّ المشادّات الكلامية القاسية، وتهديدي إياها برَمي خاتم الخطبة. وبما أن أمي تعلم جيداً أنه بإمكاني فعل ذلك، كانت تحرص على عدم مضايقتي، ولو لفترة. بل وكانت شديدة القلق من أن أَذكر ذلك لوالدَي متين أيضاً، ما جعلها أكثر حرصاً في مقارباتها مني.
عاد متين إلى ديرسم في عطلة الفصل الدراسي. يمكنني القول أن تعارُفَنا بدأ في هذه الفترة. فعلى الرغم من دَور التراسُل في تقريبنا من بعضنا بعضاً، إلا إنه يبقى واقعاً مجرّداً وغير متكامل. تَحدَّثنا كِلانا في تلك العطلة عن أغلب التناقضات التي مررنا بها، مما زاد من تقاربنا. تَميَّزَ متين بالحميمية والتفاعل السريع في علاقاته، ما حظي بإعجاب أمي ومودتها سريعاً. بل كادت أمي تُفضّله علينا جميعاً، مما أضفى السلاسة على مقاربتها مني.
وتَعزَّزَ تعارفنا مع مرور الوقت. يَكبرني متين بثماني سنوات، فشعرتُ أحياناً وكأنني طفلة تجاهه، ووجدتُه هو كالطفل أحايين أخرى. كانت وجهات نظرنا إلى الحياة ضيقة وتقليدية. وبسبب اهتمامِ كِلَينا بالسياسة، كنا نتحدث عن المستجدات الجارية، ونحاول تحليلها. لم يرغب كِلانا الاستعجالَ في الزواج، بل أردنا إتمام الدراسة، غير مكترثَين برغبة عائلتَينا وضغوطهما في هذا الشأن. أستطيع القول أنه لن يكون خطأً النظر إلى تلك العطلة الصيفية على أنها فترةُ شرعنةٍ للخطوبة، وتكريسٍ للتعارف، بل والتقارب بيننا. لقد خُطِبنا فعلياً في تلك الفترة. افترَقنا ثانيةً، ليذهب هو إلى أنقرة، وأواظب أنا على دراستي. زادت ثقتي بنفسي، لتَحَمُّلي ذاتياً مسؤوليةَ العلاقة.

 

ترجمة: بشرى علي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى