تقارير وتحليلات

خاص|| لماذا مستودع التبن تحديداً دون سواه؟.. من مذكرات سكينة جانسيز (الحلقة ١٨)

 

من السهل عموماً تخمينُ أو معرفةُ المجموعةِ التي ينتسب إليها أو يناصرها أي شخص كان. فكل سلوك أو تصرفٍ إنما يعبِّر عن ميولِ الفرد وعن خصائصه الطبقية، بدءاً من شكل مسيره إلى نمط حديثه، ومن المفردات التي يستخدمها إلى الشعارات التي يطلقها. لا يمكن حسم ذلك أو تسميته أو توصيفه بالتمام والكمال، لكنّ الرؤى النظرية والفكرية والأيديولوجية تنعكس على أنماط حياة الجميع. بالتالي، ليس صعباً تحديد الخصائص المشتركة بين الأشخاص. فمثلاً، ينادي أعضاء “جيش تحرير العمال والفلاحين في تركيا” بعضهم بعضاً بـ”الكريف” أو “الأخ/الأخت”، ويتَّسمون بالشكلية المفرطة، ويتشابهون من ناحية شكلِ اللحية والشَّعر والمِعطف العسكري والبوط العسكري، ويتفاخرون بألبستهم الرثة المتلوثة. أي أنهم يتشبثون برداءة حياتهم بدلاً من تجميلها وتحديثها، وبالغرق العقيم في حبّ الآلام والمشقّات عوضاً عن الغوص في جماليةِ تَحَمُّلها وتذليلها، ويحبذون التمرد على النظام بكل إمكانياته وفُرَصِه المادية. هذا ما برزَ في بعض سلوكياتهم وتصرفاتهم.
قد يتقبَّل المرء ردود الفعل والضبابية كحالة طبيعية في البداية. أما تحويلها إلى معايير ونمطِ حياة، فهو أمر سيئ ومُنَفِّر، بل ويَترك انطباعاً خاطئاً عن الممارسة الثورية. كانت أمي تغتاظ كثيراً من ابن عمي “إيبو” عندما يزورنا، بسبب ألسبته الرثة المتّسخة ورائحة عَرَقِه الحادة، على الرغم من أنه شاب يافع. وليس صحيحاً أن هؤلاء لا يجدون الفرصة للاستحمام والاعتناء بأنفسهم. بل إنها مقاربة مقصودة. والأنكى أنهم يُشَرعِنون نمط حياتهم هذا باقتباساتٍ من “ماو”. فتَحمُّلُ الصعاب والظروف القاسية شيء، وتفسير أقوال “ماو” بهذا النحو الضيق والسطحي والمزاجي، وتكييفها حسب الهوى شيء آخر. إن استغلالَهم “الماوية” للتستر على نواقصهم وأخطائهم يجعل المرء بلا حيلة تجاههم.
أما انطباعات الشعب، فهي بالغة الأهمية. إذ ينتبه إلى كل شيء، ويَصبُّ جُلّ اهتمامه على فئة الشباب، الذين يُطبّق البعضُ منهم كل شيء في الحياة حسب نظرتهم إليها، فتنبثق منهم أنماط غريبة عجيبة. نحن أيضاً سِرنا نوعاً ما في هذه الوجهة الحذِرة حصيلةَ طموحاتنا. فأولُ ما خطفَ أنظارنا هو الكلمات والسلوكيات المنعكسة على الحياة. ذلك أن تناغُم السلوك مع الكلام يترك بصماته على العلاقات ويحدد مسارها. وكثيراً ما عَبَّرَت كلمةٌ واحدة عن الكثير. وبصورة عامة، فإن مفردة “الثورة” بالنسبة إلينا مليئة بالكثير من المصطلحات كالجرأة والتضحية والمبادرة وتحمّل الصعاب وعدم الاستسلام. أما التصدي لكل أنواع الظلم مهما كان الثمن، فكان معياراً رئيسياً للروح الثورية. وبالمقابل، تَمَثَّل أهمُّ شيء في هذه المرحلة في عكسِ هذه الظاهرة النبيلة المُعَبِّرة عن الكدح والهِمّة والنشاط والإبداع بأكثر الأشكال سَداداً على الشخصية. ومن حيث المبدأ، فإن كل شيء يتحدد لمدةٍ طويلة وفق ما تَعكسه في شخصيتك أو ما تتركه من انطباع. إذ ما من حياةٍ ملموسة غير ذلك وسطَ معمعةِ التشخيصات النظرية والأفكار العامة المطروحة. وما كان ممكناً التسرع في الإيمان بتلك الأفكار أو الالتزام بها وتَبَنّيها أو تجسيدها بعمق في الشخصية والروح.
طغى حماسُ الشبيبة وعنفوانها على غالبية الشباب، وتَمتّعَ قلةٌ محدودة منهم بالوعي العميق الواسع، ولم تتوطد لديهم بَعدُ المعايير الاشتراكية والثورية. بل وظهرَ منهم المتمردون، وأُشعِلَ فتيلُ بعض ردود الأفعال. هكذا انتعشَت الرغبات والطموحات والتضحيات. وقد دَفعَت ظروف الحياة العجلاتِ نحو هذا الاتجاه كأحد قوانين الدياليكتيك، التي تُحتّم حدوثَ تطوُّر وتغيّر ما. إلا إن أغلب الأمور بقيت مشتتة ومبعثرة ومتجزئة ومتذبذبة وسطحية. أي أن النزعة الثورية والسياسية لم تتجسد في الذات، ولم تهزّها من الأعماق، ولم تفجّر طاقاتها الكامنة. وما يزال البحث مستمراً والأمل معقوداً على حدوث شيء ما.
كنتُ أحب منزلنا الذي في حي “الجبل”، على الرغم من أشكال القمع والحظر التي مارسَتها أمي عليّ. ولطالما شعرتُ بجمالية كل الفترات التي عايشتُها فيه، وبقيتُ أذكرها، ولم أَنسَها قط. وظللتُ أغتبط حتى لأبسط ذكرياتي هناك، لأنني عايشتُ الكثير من الأحداث المتداخلة التي أعجز عن الفصل بينها؛ كالتعرف على الحياة، ومعاناة ضغوط العادات والتقاليد، والتمرد عليها. فمن جانب، ثمة التزامٌ وقناعةٌ بمعايير الحياة القائمة، ومن جانبٍ ثانٍ، ثمة طموحات جديدة ورغبةٌ بالكِبَر معها، بكل جمالها ودفئها وآمالها وحسراتها الممتدة على طول سنين. وحينما ألتفتُ ورائي اليوم وأستذكر كل ذلك، تخرج من فمي “آهٌ” كبيرة.
طالعتُ الكثير من الكتب في تلك الفترة. إذ استمتعتُ بانتهال المعرفة من المطالعة، فلم أهتمّ بدروسي كثيراً. بل وشعرتُ بالضجر من نظام الدراسة المرتكز إلى الحفظ. وحَبّذتُ قراءة الكتب المعنية بمعالجة القضايا الاجتماعية والأيديولوجية والسياسية والأدبية. كان أصعب شيء عليّ في المدرسة هو شرح الدرس على السبورة. لكني كنتُ أشعر بارتياح بليغ وسط أجواء النقاشات والأحاديث الطبيعية، لأنني أعبّر فيها عن آرائي وأفكاري بصورة أفضل. وغالباً ما كنتُ أسرد بنحوٍ عاطفيّ الجوانبَ التي تأثّرتُ بها من الروايات التي طالعتُها، ومحاورها الرئيسية التي لفتَت انتباهي. كما كانت بعض التفاصيل في روايةٍ ما هي التي تعلق في ذهني بدل محاورها الأساسية، فكنتُ أنطلق من تلك التفاصيل والظواهر الثانوية لتحليل أحداثها.
بقينا ستة أفراد في المنزل: أنا وإخوتي الأصغر مني. وباتت مسؤولية المنزل على كاهلي. فتبدّلَت حياتنا بعد سفر أمي، إذ نتدبَّر معاً كافة شؤون الحياة العملية. فمَن يتواجد في المنزل مسؤولٌ عن تدبير شؤون المنزل. ولكي لا نعاني من مشكلة طهي الطعام، لجأنا إلى كتابة وصفات الأطعمة على ورقاتٍ علّقناها على جدار المطبخ. إلا إنّ أخي الأصغر مني مباشرةً، والذي كان ينادي “متين” بلقبِ “مَتو”، كان أفضل مني في طهو الطعام. لقد أُرهِقنا جميعاً من مسؤوليات المنزل.
شهد ذاك العام موجةً من انتشار مرَض الجَرَب. لا أدري إن كان السببُ هو السباحة في مياه نهر منذر أم من المناخ، إلا إن جميع مَن في المنزل، ما عداي، أصيب بالجَرَب. إنه مَرَض فظيع. فالأيادي والأرجل تَدمى جراء الحكّ المستمر للبثور، ما يؤدي إلى التهاب الجروح الناجمة عنها. لذا، فقد أَرهقَني حقاً الاعتناءُ بكل واحد منهم حتى يخلدوا إلى النوم، وغلي ثيابهم يومياً كلاً على حدة، وتجهيز حمّاماتهم يومياً، واستنزفَ طاقاتي. فهناك المدرسة، وشؤون المنزل، والاعتناء بالإخوة الخمسة، وتأمين أدويتهم جميعاً! لقد صُرِفَت أغلب النقود على تأمين الأدوية. هذا عدا عن القطن والضمادات التي تُستَهلَك سريعاً. فبَعد غلي أغطية السرائر وتعقيمها، كنتُ أستخدم الضمادات لتضميد الجروح. ويبدو أن انشغالي الدائم بالمعقّمات حال دون انتقال عدوى الجَرَب إليّ. استمرّ مرَضُ أشقائي حوالي الشهر، فخَفّت أوزانهم وتأثروا نفسياً بنحو ملحوظ، ما أحزنني للغاية. فأمي وأبي مسافران، ونحافةُ إخوتي بهذا الشكل يُسَجِّل مَأخذاً سلبياً عليّ، وكأني لَم أستطع الاعتناء بهم كفايةً. لكن جيراننا كانوا على علم بالأمر، وقد تأسفوا لحالي ولأحوالنا جميعاً، ورغبوا في مساعدتنا.
أصبحتُ عاطفيةً أكثر، حصيلة بحثي في التيارات الثورية. فالروح الثورية تعني مشاطرة وتحمُّل الهموم والآلام. وبالإضافة إلى ذلك هناك هذه الفوضى في المنزل وتحمّل مسؤولياته. كل ذلك أرهقني وضاعف الضغوط عليّ. لكنه بالمقابل زادني قوةً. وعلى الرغم من أن كل ذلك فاقَ طاقتي، إلا إني شعرتُ بضرورة تحمّله والقيام به، مما زاد من روح المسؤولية لدي بطبيعة الحال.
وإلى جانب كل ذلك، هناك حادثة الخطوبة أيضاً. فالعم “خضر” وزوجته “الأم تونتون” لا يُحبّذان اختلاطي بالتيارات الثورية، ويستاءان من انفتاحي على صداقات واسعة من جانب، ولا يرغبان في انسحاقي تحت ضغوط شؤون المنزل، ويتأسفان عليّ من جانب ثانٍ، ويُلقِيان اللوم على والديّ في هذا الشأن. كانت “الأم تونتون” تنتظر عودتي إلى المنزل أحياناً، لتَجلب بعض الطعام الذي أَعَدَّته لنا. إن تفكيرها بنا، وخدمتَها إيانا بهذا النحو على رغم أنها امرأة مُسِنّة، أثّر فيّ عاطفياً وزادني خجلاً منها. ثم ازداد حصارها هي والعم خضر علينا، فتكررَت زياراتهما مِراراً، لتبديد وحدتنا ووحدتهما في آنٍ معاً.
على رغم عدم تدخّلهما المباشر في شؤوننا، ومحاولاتهما الدائمة لعرقلتي، إلا إني لَم أُعطِهما الفرصة في هذا المجال. إنهما يُخمّنان مدى حدّة ردود فعلي في حال بالَغا في التدخل بحياتي. لقد كانا يستمدّان القوة من وجود أمي للتجرؤ على طرح بعض الأمور. لكنهما الآن غير مرتاحَين إلى تلك الدرجة. بالمقابل، فهُما ينتقدانني بصورة غير مباشرة على لسان “متين”. وقد دار الجدال بيني وبينهما عدة مرات كلما تحدّثا معي بلغةٍ تترنح بين المرونة والقساوة، لدى إشارتهما إلى أن مدينة “تونجلي” صغيرة، وأنه من السهل على عناصر الشرطة أن يراقبوا الجميع تقريباً، وأنه ينبغي –بالتالي- تَجنُّب ما يلفت انتباههم، وعدم عقد الصداقات العشوائية. فإذا لم أسدّ الطريق أمام هكذا ضغوط منذ البداية، فسيتدخّلان في كل شؤوني بالتأكيد. لذا، كنتُ أغضب سريعاً منهما، لأحساسي بميولهما هذه.
الموضوع حساس للغاية. ولم أتقبّل إطلاقاً ضغوطَهما ورؤيتهما الاستملاكية لي إلى هذه الدرجة، رغم أني ما أزال في منزل أبي، مما قلَّل من تَحَمُّلي، لأنه لا يحقّ لهما فعل ذلك. فأنا ما أزال في فترة الخطوبة، ولا أستوعب جدوى جزمهما القاطع في كل الأمور. لقد غاب ضغط أميّ عليّ آنذاك، لكنّي وجدتُ نفسي تحت ضغط شخصَين عجوزَين يُعِدّان نفسَيهما حَما وحَماةً لي، ويمارسان عليّ منطق القمع والحظر بأساليب مختلفة. كنتُ أغضبُ منهما، ومن نفسي أيضاً. حاولتُ شرح الأمر لـ”متين”. لكنه اعتمدَ إدارة الوضع في مقاربته.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى