آراءتقارير وتحليلات

صراع الشرق مع نفسه.. بقلم/ محمد أرسلان علي

 

 

الملفت للانتباه أن هذا الصراع، الذي ابتدأ منذ بداية عصر التدوين واكتشاف الكتابة واللغة بصيغتها الرسومية، والتي تحولت إلى الرمزية ومنها إلى الأحرف المتداولة في راهننا بعد التطورات الحاصلة فيها؛ هذا الصراع كان الدافع أو المعول الذي ما زال مستخدماً كأداة بدئية في معظم الصراعات التي ابتدأت مع تشكّل أول مدنية في ميزوبوتاميا السفلى على أطراف نهري دجلة – الفرات، وكذلك في مصر على أطراف نهر النيل، وفي الصين والهند على أطراف النهر الأصفر.
فكما لعبت الأنهر والجغرافيا دوراً محدداً في ظهور وتطور المدن والمدنيات، كذلك كانت اللغة والكتابة العامل الحاسم لهذا التطور الذي يعد حتى الآن أول وأكبر ثورة ذهنية قام بها الانسان. وبكل تأكيد فكيفما أنه لا يمكننا اغفال دور المرأة في الزراعة وتطورها وبالتالي في تطور اللغة أيضاً، فإنه لا يمكننا عدم القبول أنه في تشكل المدن وما رافقها من دُوْر ومراكز تعليمية كان للرجل بصمته الواضحة التي كانت بداية ظهور وانتعاش السلطة الذكورية في تلك المدن.
زيادة الانتاج التي تأثرت وأثرت بشكل مباشر في عملية تطوير أدوات ووسائل الانتاج وتطويع الانسان لهذا العمل الشاق، يمكن عدها بداية ظهور الرجل الحكيم المناقض للمرأة، التي تم وصفها بالمشعوذة والساحرة بهدف زيادة الضغط عليها كي تلتزم منزلها وتترك شؤون العمل الخارجي والمعاملات بيد الرجل الذي عرف كيف يدير سلطته تلك. إنه صراع يحمل في طياته الكثير من الاستفسارات والاسئلة التي لا بدّ من الاجابة عليها لمعرفة الحقيقة المخفية ضمن هذا الصراع المستمر حتى راهننا.
إنه الصراع الذي حوّل المرأة، بعدما كانت من الآلهة، إلى خادمة للرب في المعابد والزيكورات، وبعدها تم حصرها في المنزل للاهتمام بوظيفتها البيولوجية وانجاب الأطفال كي يكونوا خدماً للرب. وهو صراع تحوَّل إلى اقتتال المدن فيما بينها لفرض مركزية الإله على الجميع، بعدما كانت كل مدينة تنعم بإلهها الخاص بها. صراع مدن ميزوبوتاميا السفلى مع بعضها البعض هذا يمكن عدّه المحدد الذي كان يتوجب أن يكون –ربما- لفرض السيطرة على حالة الفوضى التي انتشرت بين القبائل والمدن باعتبار أن إله كل واحدة منها هو الأفضل والأجمل والأقوى، بينما الآخر هو لا شيء مقارنة بما يعبدونه.
وعلى الرغم من أن مدنية سومر كانت تملك لغة واحدة وثقافة وتقاليد مشتركة، إلا أن المدن والولايات السومرية كانت في حالة صراع شبه دائم بين بعضها البعض، مما أسفر عن العديد من السلالات والأسر الملكية الحاكمة. ويمكن عدّ أول هذه الصراعات المعروفة أن سببها كان ملك لاغاش (إينتوم) الذي هزم مدينة أوما في صراع بسبب الحدود عام 2450 قبل الميلاد. ولإحياء ذكرى نصره، شيد إينتوم ما يسمى ”روح النسور“، وهو نصب صخري يصور الطيور التي تقتات من أجساد أعدائه الذين هزموا، وسعى لقهر كل بلاد سومر.
أدى هذا الاقتتال إلى تطورات في المجال العسكري، إذ يُعتقَد أن السومريين هم أول من اخترع نظام الكتيبة والحصار. لا يزال أصل الحضارة السومرية في بلاد ما بين النهرين موضع نقاش حتى اليوم، لكن الأدلة تشير إلى أنها نشأت من 12 مدينة تقريباً في عام 4000 قبل الميلاد. إذ تتكون تلك المدن من زقورات مسوّرة (وهي معابد هرمية الشكل ومدرجة مرتبطة بالديانة السومرية). وتم تشييد المنازل من القصب والطوب الطيني، وكذلك حفر أقنية ري معقدة لتسخير مياه نهري دجلة والفرات في سقاية المزروعات. وشملت المدن السومرية الرئيسية ”إريدو“ و”أور“ و”نيبور“ و”لجاش“ و”كيش“. لكن ”أوروك“ كانت واحدة من أكثر المدن السومرية تطوراً وتوسعاً، فكانت مركزاً تجارياً مزدهراً محاطاً بأسوار دفاعية، وبلغ عدد سكانها في ذروتها (2800 قبل الميلاد) 80 ألف نسمة، وكانت على الأرجح أكبر مدينة في العالم حينها.
أوروك، هذه المدينة التي كانت من أهم المدن السومرية التي نزل عليها نظم الملكية من السماء بعد الطوفان، والتي آلت إليها السيادة بعد انتصارها على مدينة “كيش”، هي مدينة الآلهة ومجمعها، والتي صارعت كثيراً للوصول إلى هذه المكانة المرموقة قبل الميلاد بآلاف السنين، وبقيت كذلك ردحاً من الزمن إلى أن بدأ صراع المدن الكبرى، أو بالأصح صراع الآلهة فيما بينها لفرض النفوذ على بعضها البعض. ليتحول هذا الصراع الإلهي بالتالي إلى صراع هيمنة ونفوذ للملوك والزعماء والأباطرة مقَنِّعة إياه بالدين وبكلمات منزَّلة من عند الرب الذي يحثّ عباده على نصرتِه.
لعل جلجامش ملك أوروك هو أول من حاول البحث عن الخلود عبر التاريخ كما تُخبرنا به السرديات التاريخية، وبخاصة الملحمة التي تم تسميتها على اسمه “جلجامش”. ومع العلم أنَّ شرح أو تفسير أو حتى فك طلاسم اللغة الأكادية أو البابلية، التي تم كتابة هذه الملحمة بها، إلى الآن لم يُعرف ماهية رموزها بكل تفاصيلها. ومع العلم أيضاً أنه ثمة كثيرون ممَّن حاولوا شرح هذه الملحة وكلٌ يفسرها وفق المعلومات المتوفرة أو ما يراه الكاتب. إلا أنَّه وبمتابعة العامل المشترك بين كل تلك التفاسير والشروح، يمكننا الوصول إلى تقاطعات واضحة فيما بينها، أو على الأقل إلى معرفة ما وقع من أحداث أعطت مدينة أوروك وملكها جلجامش كل هذا الزخم والهالة الكبيرة التي تم رسمها حولهما.
مدينة “أوروك” السومرية في بلاد الرافدين: رأى الملك حلماً غريباً، فقد أبصر في نومه أن سمكة صغيرة تخرج من النهر ثم تكبر وتكبر حتى تفترسه. ففسَّر له العرّافون ذلك بأن طفلاً سيولد في المدينة ثم يغتصب مُلكه عندما يكبر. فأمر الملك بقتل كل مولود جديد. حيث كانت ابنة الملك، الإلهة “نينهورساج”، متزوجة من بشر عادي هو “لوكال باندا”. لكنها كانت عاقرًا. فارتَجَتْ الآلهةَ أن ترزقها بولد، فحملت بطفل ثلثه إنسان وثلثاه من الآلهة. ولَمّا أنجبت “نينهورساج” ابنها “جِلْجَامِّشْ” أمر الملك برميه من أعلى برج القصر. وقبل أن يصل إلى الأرض، انقض عليه نسر، وحمله إلى الغابة عند عجوزين يعيشان هناك. فربَّياه واعتنيا به (قصة جلجامش شبيهة بقصة سيدنا موسى عليه السلام)… ولَمّا كبر “جلجامش” عرف الحقيقة، فعاد إلى المملكة، وقتل الملك، وأصبح هو الملك الجديد لمدينة “أوروك”.
هذا باختصار ما تخبرنا به الملحمة عن الملك جلجامش الذي سعى نحو الخلود ويعود كالآلهة من الخالدين بعكس الانسان الذي مآله الفناء. إلا أنه وعلى رغم كل ما عمله جلجامش مع صديقه أنكيدو (الذي أتى من الجبال) في مدينة أوروك ومغامراتهما في قتل (همبابا) ملكة الجبال وشجر الأرز، وكذلك قتلهما للثور المجنح الإلهي، وموت أنكيدو بعد ذلك عقاباً له على ما اقترفه من جريمة قتل وغضب الآلهة عليه وعلى جلجامش، إلا أنَّ الآلهة أجمعت على موت أنكيدو الانسان والإبقاء على جلجامش الذي ثلثاه من الآلهة والثلث الأخير من الانسان.
رحلة جلجامش في البحث عن الخلود لم تسعفه مطلقاً بالرغم من حصوله على نبتة “أكسير الحياة” التي أكلتها الأفعى. فأيقن جلجامش بعد كل رحلته تلك أن الخلود يكمن في مصارعة الحياة وليس في البحث عن قتل الموت. أي أن ما توصل إليه جلجامش هو أن يقوم بثورة على الحياة ليقضي من خلالها على الموت. إنها فلسفة جديدة تَوَصّل إليها الملك بعد معاناة كبيرة وعملية بحث طويلة ومضنية. إلا أنه أيقن في نهاية المطاف أن سرّ الخلود الإلهي يكمن ضمن المجتمع ذاته وليس خارجاً عنه.
يقول جلجامش بنفسه عن هذه الفلسفة التي توصل لها. ففي طريق العودة شاهد جلجامش السور العظيم الذي بناه حول المدينة، ففكر في قرارة نفسه أن عملاً ضخما كهذا السور هو أفضل طريقة لتخليد اسمه وقال: “لا ثورة على الموت بعد اليوم. بل هناك ثورة على الحياة، سأحكم بالعدل وسأهتم بالعمران وبالإنسان حتى يخلّد اسمي بأعمالي”. هذا هو جوهر فلسفة جلجامش، وهو أن الخلود دائماً يكون مع المجتمع والانسان، وليس بعيداً عنهما، وأنَّ مَن يبحث عن الخلود بعيداً عن المجتمع ومعاناته فلن يرى الخلود مطلقاً حتى بعد مماته.
معظم مدن الألهة التي تشكلت بعد أوروك لم تخرج عن هذا المنحى المكتوب عليها بالرغم من تكرار الملوك الذين جاؤوا بعد جلجامش ومحاولتهم إيجاد الحياة والخلود على غرار جلجامش. إلا أنهم لم يفلحوا في مسعاهم ذاك رغم كل الظلم الذي انتهجوه وطبقوه على شعوبهم وعلى مَن عدّوهم أعداءهم.
كانت أول امبراطورية بعد سومر هي آكاد التي حاول فيها سرجون أن يقتفي أثر جلجامش محاولاً النجاح في ما فشل به ملك أوروك. وكذلك فعل حمورابي ملك بابل الذي سار على طريق جلجامش وأراد الخلود من خلال القوانين التي كتبها. وبعدها عمل آشور بانيبال في نينوى ما قام به أسلافه من الملوك لتخليد اسمه. لكنهم جميعاً لم يبلغوا مرادهم. وبقوا ملوكاً كعامة الناس رغم ما فرضوه على الشعوب للسجود لهم ولعبادتهم على أنهم من الآلهة الخالدين.
مآل القولِ أنَّ جلجامش الذي أصبح من الخالدين حتى راهننا، والذي يبحث الكثير من علماء الاجتماع والتاريخ عن تفاصيل حياته وأعماله لمعرفة أحوال الناس أثناء حكمه وكيف كانوا يعيشون ودورهم في تشكل شخصية هذا الملك. أيضاً تخبرنا الملحمة أن الشعب في أوروك تَضَرّع إلى الآلهة كي تنقذهم من ظلم وجبروت هذا الملك. وكما يُقال أن “جلجامش” حَكَمَ مدينة “أوروك”، لكنه لم يكن سعيداً، لأنه لم يجد نديماً أو صديقاً يجاريه قوةً وعظمة، فانصرف إلى اللهو والمجون والخمر والنساء، فعاث في الأرض فسادًا وبطشًا وظلمًا وبغيًا، وسخّر شعبه لبناء سور حول المدينة، فابتهل سكان “أوروك” للآلهة بأن تجد لهم مخرجاً من ظلم “جلجامش”، فاستجابت الآلهة وقامت الإلهة “أرورو” بخلق رجل وحشي اسمه “أنكيدو” ليصبح ندّاً لجلجامش ويصرفه عن ظلم الرعية.
كان الشعر الكثيف يغطي جسد أنكيدو الذي يعيش في البرية، ويأكل الأعشاب ويشرب الماء مع الحيوانات، ويسابق الغزلان ويصارع الأسود والنمور. حتى استطاعت الخادمة (العاهرة) “شمخات” التي كانت تعمل خادمة في معبد الإلهة “عشتار”، غوايته وإغراءه وترويضه وتعليمه الحياة المدينية. فلما أنجزت مهمتها، سارع إليه “جلجامش” وصارعه لساعات طوال في أعظم مبارزة على مرّ التاريخ.. وكانت الغلبة لجلجامش، لكنه لم يقتل أنكيدو لأنه أعجب بقوته وصلابته، واتخذه صديقًا حميمًا.
إنه صراع بين انسان المدنية الحديثة التي يتم تشكيلها جديداً ويكون فيها الانسان شبه إله والمرأة خادمة في المعبد، وبين انسان الطبيعة والريفي الصديق للغابات وللحيوانات. لم يكن هدف هذا الصراع هو أن يعلن طرف ما على أنه المنتصر بقدر ما هو توافق سلبي بين المدينة من جهة والقرية والريف من جهة أخرى، وبين أدوات الانتاج والزراعة، وبين المرأة (العاهرة في المدينة) والمرأة (آلهة الطبيعة في القرية)، وبين المعبد والذات… الخ. إنه توافق سلبي لصالح المدينة والمدنية بكل ما للكملة من معنى، بعد ما حلَّ من موت بإلهة الجبال والغابات “همبابا”، التي يمكن عَدّها الخطوة الأولى نحو محاربة البيئة والطبيعة وعمليات قطع الاشجار على حساب بناء المدن.
من جلجامش الذي كان نصف إله ونصف بشر، والذي ذهب باحثاً عن الخلود فلم يَرَه سوى ضمن الشعب والمجتمع وكانت فلسفته محاربة الحياة بدلاً عن الموت، وحتى حمورابي الذي خلّد اسمه بالقوانين التي خطَّها على مسلته لتكون هذه القوانين هي الحسم في تحقيق العدالة المجتمعية بين الملوك والبشر. إلا أن الذي حصل بعد ذلك كان الملوك المستبدون الذين بنوا أمجادهم على حساب الشعوب وتدمير المدن والمجتمعات وجعلوا الشعوب عبيداً وجنوداً لبسط نفوذهم هم في اصقاع الأرض، حتى كانت امبراطورية آشور التي عرفت عبر التاريخ كأكبر امبراطورية مستبدة ولم يتم التخلص منها إلا بعد حرق عاصمتها نينوى من قبل تحالف الميديين مع الحثيين.
راح الحكماء بين الشعوب يبحثون عن العدالة المفقودة وعن الإله الذي يكون مصدر الرحمة والمغفرة والشفاعة عنهم إن هم أذنبوا، وأن لا تكون عاقبتهم الموت والقتل على يد الملوك المقنَّعين الذين حوّلوا أنفسهم إلى ظل للإله وينفذون ما يريدونه باسم الرب. فكان نمرود أحد الحكام وأول جبار في الأرض. وهو أول من وضع التاج على رأسهِ وتجبّر في الأرض وادّعى الربوبية وكان ملكهُ أربع مائة سنة كما يُقال، فطغى وتجبّر وعتا وآثر الحياة الدنيا. ولقد رأى حلما طلع فيه كوكب في السماء فذهب ضوء الشمس حتى لم يبق ضوء، فقال الكهنة والمنجمون في تأويل الحلم انه سيولد ولد يكون هلاكه على يديه، فأمر بذبح كل غلام يولد في تلك الناحية في تلك السنة. وولد إبراهيم ذلك العام فأخفته والدته حتى كبر وعندها تحدى عبادة نمرود والاصنام.
من أوروك إلى أورفا التي كانت المدينة التي انجبت ابراهيم عليه السلام والذي حاجّ نمرود في ربوبيته. وكانت القصة المعروفة التي حصلت بينهما من سجال بين الانسان الإله الذي يسير على الأرض ويبحث عن الخلود وبين الانسان الفاني والإله الذي صعد إلى السماء. نقطة تحول كبرى حصلت في الثورة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فحوّلت الميثيولوجيا إلى دين.
إنه صراع الشرق مع نفسه، والذي يمكن عدّه أول محاولة للخروج من الأزمة الفكرية التي كانت سائدة حينها. هذا التحول الذي غيّر من سلوك الانسان وفكره ونمط حياته، كان العامل الهام في ولادة الدين التوحيدي على يد سيدنا ابراهيم عليه السلام. وبذلك تم التخلص من الملوك المنتشرين بين كل قبيلة ومدينة، وجمعهم في إله واحد له صفات الآلهة الأخرى والموصوفة بتسعة وتسعين صفة لإله السماء.
كيف أثرت مدينة أورفا على تكوين شخصية سيدنا ابراهيم؟ وما هي العبادات المتواجدة أصلاً في المدينة، والتي كانت سبباً في تشكل أو بدء الصراع الداخلي الذي عاشه سيدنا ابراهيم مع نفسه لتكون مطرقته التي حطّمت الأصنام ثورة فلسفية على العادات والتقاليد والموروث المجتمعي الممتد لآلاف السنين؟ هذا ما سنعرفه في القراءة القادمة عن هذه المدينة التي تحولت إلى أول مدينة دينية توحيدية انطلق منها سيدنا إبراهيم إلى القدس وسيناء ومكة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى