تقارير وتحليلات

فاينانشال تايمز: حرب الهوية والدين في اليونان .. صراع مستمر منذ 35 عاماً لبناء مسجدٍ في أثينا

قالت صحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية في تقريرٍ لها أن موقع بناء أول مسجدٍ رسميٍ في أثينا أُغلِق. وتستعصي رؤية الهيكل غير المكتمل نتيجة إحاطته بأسوارٍ عاليةٍ نظراً لموقعه بين قاعدةٍ بحريةٍ وموقف حافلات داخل حي فوتانيكوس المتهالك.

وشبَّهت الصحيفة البريطانية مدخل الموقع بالمتاريس العسكرية المُحصَّن بالأسلاك الشائكة والحديد المُموَّج. وحملت الأسلاك عبارة: «Orthodoxia i Thanatos الأرثوذكسية أو الموت» مكتوبةً باللون الأحمر فوق أربعة صلبانٍ خشبيةٍ مُلصقةٍ بالأسلاك. أما على يسار البوابة المغلقة، فتوجد عشرات المنشورات التي تحمل شعاراتٍ عنصرية وقومية تُغطي رسم الحائط الذي يحمل جملة «Stop Islam أوقفوا الإسلام».

ومضى أكثر من عقدٍ من الزمان على صدور المرسوم الرئاسي الذي وضع حداً لسنواتٍ من تردُّد الحكومة وسمح ببناء أول دار عبادةٍ رسمية للمسلمين داخل أثينا منذ أيام الإمبراطورية العثمانية. وصوَّت أعضاء البرلمان مؤخراً بالموافقة على تدبيرٍ يُسرِّع عملية البناء في أغسطس عام 2016، لكن المسجد لم يُفتح حتى الآن بعد مضي عامين على قرار البرلمان بحسب الصحيفة.

معارضة قوية وتأجيل جديد

وأفادت الصحيفة البريطانية أن بناء المسجد واجه معارضةً قوية. إذ نظَّم مئاتٌ من مؤيدي حزب الفجر الذهبي، الحزب النازي الجديد الذي ينتمي إلى أقصى اليمين ويمتلك 15 مقعداً في البرلمان، مظاهرةً في موقع البناء احتجاجاً على المشروع الذي تُموِّله الدولة في سبتمبر/أيلول الماضي. ويُزعم أن بعض مؤيدي الحزب شنُّوا هجماتٍ وحشية ضد اللاجئين في السنوات الأخيرة، بحسب ما أوردته الأمم المتحدة ومنظمة العفو الدولية.

صورة على جدار المسجد في أثينا

وتسبَّبت التأخيرات الأخيرة في تأجيل افتتاح المسجد إلى الصيف القادم، بحسب الصحيفة. وقال المُتحدِّث باسم وزارة التربية والتعليم والبحوث والشؤون الدينية إن «البناء جاهزٌ» ويحتاج فقط إلى بعض الأعمال «الضرورية» في المنطقة المُحيطة. لكن بعضاً من مُسلمي المدينة، البالغ عددهم 250 ألفاً تقريباً، يُشكِّكون في افتتاح المسجد ويُواصلون الصلاة داخل الغرف المؤقتة والأقبية ومواقف السيارات في المدينة.

وأوردت «فاينانشال تايمز» أن نعيم الغندور، الذي يُدير جمعية مُسلمي أثينا مع زوجته آنا ستامو، قضى أعواماً في استخدام جماعات الضغط للتأثير على الساسة. وقال الغندور، وهو رجل أعمالٍ مصري يعيش في اليونان منذ عام 1974: «أُحاول أن أظل عاطفياً تُجاه اليونان وألَّا أشعر أن الساسة تلاعبوا بي. يذهب أطفالي إلى المدرسة والجامعة، ويعيشون مثل أي طفلٍ يوناني. ولكن حين يحين موعد الصلاة، يذهب أحدهم إلى الكنيسة والآخر موقف سياراتٍ تحت الأرض. وهذا يُشعِر الشاب المسلم أنه لا يتمتع بمواطنة متساوية».

وترى الصحيفة أن الصراع الدائر حول مسجد أثينا يعكس الجدل الأوسع حول اندماج وصعود المشاعر الأهلانية داخل أوروبا -وهي نهج سياسي يقوم على حماية مصالح أهل البلاد الأصليين وتقديمها على مصالح الأجانب-. وشهدت اليونان طفرةً في شعبية الحركات اليمينية المُتشدِّدة التي تتلاعب بمخاوف الجماهير من الهجرة غير المقننة، على غرار العديد من دول الاتحاد الأوروبي.

وكانت اليونان موقع الوصول الأول لأكثر من مليون شخصٍ فارٍ من الصراع في سوريا وأفغانستان والعراق، بحسب الصحيفة، إبان أزمة المهاجرين في دول البحر المتوسط عام 2015. وعانت الدولة لاستيعاب ومعالجة آلاف طلبات اللجوء السياسي من اللاجئين في الجزر الإيجية الذين يأملون في إيجاد وطنٍ داخل أوروبا، وسط اقتصادٍ مُتقشِّفٍ لا يزال يُعاني نتيجة تداعيات الأزمة المالية. ولا يزال قرابة الـ17 ألف شخصٍ عالقين وسط ظروف مزريةٍ داخل مخيمات احتجازٍ مثل مخيم موريا بجزيرة ليسبوس.

مشروع تاريخي لم يُكلَّل بالنجاح إلى اليوم

ولكن محاولات بناء مسجدٍ في أثينا تسبق الجدل المعاصر حول اندماج المسلمين في أوروبا بزمن طويل. إذ وُضعت خطط المسجد الرسمي للمرة الأولى عام 1890، قبل تخصيص أراضٍ مختلفةٍ مرةً أخرى عام 1934 وعام 2004 قُبيل أولمبياد أثينا. لكن تلك الخطط لم تُؤت ثمارها، بحسب الصحيفة. إذ قالت إيفي فوكاس، الباحثة الزميلة في المؤسسة الهيلينية للسياسة الأوروبية والخارجية: «يفتقر الساسة إلى الشجاعة في الكثير من المسائل، ومن بينها هذه المسألة. لقد كانت مسألةً شديدة الحساسية دائماً، ولم نفعل شيئاً سوى تأجيلها باستمرار. هذا هو الوضع الراهن».

وأفادت الصحيفة أنه بالنظر شرقاً من موقع بناء المسجد، ستجد أن الطريق الرئيسي المرصوف بطول «Iera Odos الطريق المقدس» يُؤدِّي مباشرةً إلى البارثينون. وسيطر المعبد، الذي أُقيم عالياً فوق هضبة أكروبوليس، على مشهد مدينة أثينا لقرابة الـ2,500 عام. ويقع المعبد أسفل حي بلاكا، المركز التاريخي لمدينة أثينا، وميدان موناستيراكي. وسُمِّي الميدان موناستيراكي، التي تعني «الدير الصغير»، تيمُّناً بالكنيسة التي تقع في الميدان والتي يعود تاريخها إلى القرن الـ12 حين كانت أثينا جزءاً من الإمبراطورية البيزنطية.

وفي الزاوية المجاورة للميدان، يقع مسجد تزيستاراكيس (مسجد ميدان موناستيراكي) الذي يعود إلى العصر العثماني والذي أُسِّس أواخر القرن الـ18 على يد عمدة أثينا آنذاك. ويُعَدُّ المسجد، الذي يضم حالياً متحف الفنون الشعبية اليونانية، واحداً من أصل مسجدين فقط لا يزالان قائمين داخل المدينة التي شهدت 400 عامٍ من الحكم العثماني. والمسجد الآخر هو مسجد فتحية الذي يقع خلف ميدان موناستيراكي في الموقع الأثري للأغورا اليونانية. وجُدِّد المسجد وأُعيد فتحه عام 2017 بوصفه أرض معارض، ولا يُوجد ما يُشير إلى أصل المبنى سوى لوحةٍ حجريةٍ صغيرةٍ كُتِب عليها «Fethiye Djami مسجد فتحية» ووُضِعت متواريةً عن الأعين وبعيدةً عن المدخل الرئيسي.

وقبل عام 1821  كانت أثينا أشبه بمستوطنةٍ مُتعدِّدة الثقافات تَضُمُّ 12 ألف نسمة بحسب الصحيفة. ولكن الهندسة المعمارية العثمانية في المدينة تعرَّضت للتدمير الممنهج على يد الدولة اليونانية الحديثة التي بنت لنفسها هويةً قوميةً جديدة.

وذكرت الصحيفة البريطانية أن نيكولاوس ميخالولياكوس، زعيم حزب الفجر الذهبي، وصف البرلمان اليوناني بالخونة في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2016 إثر تصويتهم بالموافقة على بناء المسجد. وشبَّه الإسلام المعاصر بالحكم العثماني واصفاً المسجد الجديد بـ»مزارٍ مقدَّسٍ للعبودية ومسجدٍ على أطلال الأكروبوليس. هل سنعود إلى الاحتلال العثماني؟ لأن البارثينون كان مسجداً أيضاً، ولا يُمكن أن نتجاهل مُطالبتهم بإعادته إلى وضعه الأصلي مرةً أخرى.. يتمتع المُهاجرون غير الشرعيين بحصانةٍ دون رقيبٍ في وطننا الأم».

ويُمثِّل الفجر الجديد وأيديولوجيته أكثر السياسات اليمينية اليونانية تشدُّداً، لكن فكرة الخلط بين الإمبراطورية العثمانية والدولة التركية المعاصرة لا تزال سائدةً بشكلٍ صادم، بحسب الصحيفة، إذ تُعتبر تركيا جارة اليونان ومنافِسَتها التاريخية. وفي عام 2013، ناقش الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تمويل أعمال تجديد مسجد فتحية ليُصبح مسجداً عاملاً مع أنتونيس ساماراس، رئيس الوزراء اليوناني آنذاك. وأثارت تقارير اللقاء غضب بعض اليونانيين الذين اعتبروه تنازلاً سياسياً لتركيا، لذا تم التخلِّي عن المخطط.

لكن ائتلاف اليسار الراديكالي (سيريزا) الحاكم في اليونان الآن يُصِرُّ  على استبعاد فكرة التمويل الأجنبي لمسجد أثينا، بحسب «فاينانشال تايمز». وأوضح مصدرٌ بوزارة التربية والتعليم والبحوث والشؤون الدينية، رفض ذكر اسمه: «هل تعلمون ما تعنيه كلمة فتحية؟ تعني فاتح.

صلاة في الأقبية ومعاناة في المجتمع

زارت مُراسلة الصحيفة موقع مسجد السلام داخل قبو أحد مواقف السيارات برفقة نعيم الغندور. ويقع المسجد في شارعٍ هادئٍ بحي نيوس كوزموس. وذكرت المراسلة أن المسجد يتَّسع لقرابة الـ150 شخصاً، ويُعَدُّ واحداً من قرابة الـ120 مسجداً مؤقتاً في العاصمة اليونانية، وواحداً من أصل ستةٍ فقط يمتلكون رخصةً من الدولة.

وإثر انتهاء الصلاة، تحدَّثت المراسلة إلى محمد رصاص ومات مهيار وعصام أبو شمالة في المقهى القريب، حيث يجتمعون أسبوعياً لتناول قهوة الإسبريسو الباردة وتبادل الحديث. وأفاد التقرير أن الثلاثة انتقلوا للعيش في أثينا منذ طفولتهم في الثمانينيات، حين كانت أحياء المسلمين في المدينة تتألَّف من المصريين والفلسطينيين والجنوب آسيويين بشكلٍ رئيسي. وورث الرصاص، المبرمج التلفزيوني الفلسطيني، المبنى الذي يضُمُّ المسجد عن والده الذي حوَّل القبو إلى مسجدٍ للعائلات العربية المحلية. وأوضح: «لم يكن هناك لاجئون في الثمانينيات والتسعينيات. كان المُهاجرون من طبقات عُليا: مستثمرون وطلاب وأطباء أتوا من أجل العمل والدراسة والحياة الأفضل. والآن لا يرغب الناس في مغادرة بلادهم، لكنهم مضطرون لذلك. وليست لديهم خطةٌ للدراسة أو الاستثمار، لكنهم يبحثون عن الأمن. في التسعينيات، كان اليونانيون ودودين معنا، لكن يُمكنك أن تُلاحظ نظراتهم اليوم».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى