ثقافة وفنون

ما بعد الحداثة والسريالية في التجربة العربية .. صور الواقع المُشوه تصورات الهروب نحو التعبير

 

تصوّر النقاد والمتابعون للحركة الفنية التشكيلية العالمية أن السريالية ستنتهي بوفاة سلفادور دالي أواخر الثمانينات، وأن هذه الحركة التي وصفت بالتمرد المجنون للكوابيس والانفعالات المستاءة من الواقع ستمضي مع الزمن وستطويها التطويرات، غير أن هذه الحركة استمرت أكثر عنادا وصدمة أثارت تمرّدا أعمق تعبيرا وأدق نضجا انطوى على أساليب جديدة وتشكيلات وعلامات تطبّعت بكل فكرة وقضية وبكل انتماء للذات والحضور والتبني التعبيري للجماليات المختلفة في الفنون وقد تحوّلت السريالية من مجرد حركة فنية طالت اللوحة والتصوير والنحت والعمارة لتندمج مع فنون ما بعد الحداثة في حركيّتها التطويرية للرؤى، فكانت معبّرة مع الصورة والبصريات مع الفيديو آرت والفتوغرافيا والتصوير الرقمي والكولاج والتطبيق التجريبي للمفهومية التعبيرية والتصورات التي جعلت هذا التمشي الفني يعرف أوجه الجمالي وتوقّد عطائه الفكري والفلسفي الذي خلق مساحات أكثر انعتاقا للفكرة وتجلياتها التعبيرية وقد عرفت هذه المرحلة المعاصر للسريالية تطويرا شمل التجارب العربية باختلاف انتمائها الجغرافي والقيمي والتعبيري الثقافي والاجتماعي والسياسي.

*عدنان يحي

 فالعوامل المعاصرة بواقعيتها أصبحت تثير الفنان العربي لتجنب الحديث المباشر عنه خاصة وأنه أصبح يفضل هروبا من نوع آخر نحو التعبير، فالسريالية لم تعد مجرد توجه تعبيري يثير فلسفة الفنان الخاصة بل أصبحت بدورها تخلق المفهوم وتواجه التصورات والمشاهد.

*علي حسون

 

فالتجارب تختلف حقيقتها الأولى عنما يصل وما يُرى وما يُبصر كل هذه المعالجات استنطقت التصورات المشهدية واستخرجت الكبت المأساوي المُغلف ليكون نسجا وسردا وانفعالا وصدمة حقيقية وجهها الفنان لنفسه أولا ومن ثمة لجمهوره والعالم.

*مصطفى الحلاج

 

وهنا نذكر تجارب عربية متعدّدة بملامح مختلفة المسارات اختارت السريالية منهجا للحداثة وما بعدها نذكر التجربة العراقية اللبنانية السورية الفلسطينية حيث الوقع الأول في التجربة حملها للغاية التعبيرية السريالية بالمفاهيم النفسية الإنسانية.

*ثائر معروف

إذ لا يمكن إنكار أن العربي يحرّكه واقعه قبل ذاته الوجودية في التعبير عن الفن لأن حواسه يحفّزها الانتماء، لذلك نرى خطوطه ذات الفلسفة السريالية تحمل الخصوصية بعلاماتها التي تزرعها الأوهام الذهنية والطبيعة الواقعية والكوابيس اليومية التي تهرب نحو حشد أوهامها في مفاهيمه المشحونة بتوترها بعيدة عن الطوباوية والاستيتيقا المألوفة، فكأن الفنان العربي في تجريبه السريالي ومفاهيمه الترميزية يتعمّد تشويه العلامة لتستنطقها معانيها تحت الجلد والتعذيب الداخلي الصارخ بصمته المتوتر وتواتره كثيف القلق الذي يروّضه أسلوبيا وفق تقنياته التي تعبّر عنه وعن طبيعته النفسية وانتمائه الجغرافي وحضوره الفكري والفلسفي والسياسي لا كفاعل متأثّر وإنما كفاعل مأثّر في صيرورة السردية البصرية بالجماليات التي تفرضها المرحلة التعبيرية.

*بسام كيرلس

 فكأنه يتعامل مع الواقع بالتخريب ليفصّله أكثر بمآسيه التي تتجاوز ما شعر به لا كمجرد عابر على المشهد وإنما كمعايش بحواسه الكاملة.

ومن خلال تلك التوليفة المتداخلة يستوعب قسوة كوابيس الواقع على نفسيته فيبحث عن الترتيب بالفوضى وعن التجميل بالتخريب لإثارة الجدل والصدمة وخلخلة الفكرة كما فعل بسام كيرلس في نحت بناياته ومجسمات منحوتاته المصلوبة وأقنعته المشوبة بالخوف والقلق بالدمار، في فعله المبني على تناقضات التدمير لا البناء يحمل صورا جمالية تصقل الفكرة التي تقنع عين المتلقي بصدمه ففي الدمار تجسيد وفي الحصول على الهدم بناء فما نراه في نهاية الإنجاز هو بناء للحواس والمشاعر للوجدان والحنين للذاكرة والصدمة المحطمة بشكل يحفّز الرغبة بالأمان ونبذ العنف والحروب فالهدم تعبير مكبوت عن السلام ورغبة جامحة في الاستقرار ورفض التهجير فانقلاب المعايير في تصوراته هو تذوّق لواقع حمل صوره المقلوبة بمعايير معقّدة صاغها وهو يروّض المخيلة بتحفيز ما تخزّنه من ألم.

*بسام كيرلس

وتجربة خالد أبو الهول التي تتحمّل كوابيس الواقع الاجتماعي المسلّط بعنفه المتنوع على كيان المرأة، حيث العادات المتراكمة بتنوعه المشحون بالتوتر كثيرا ما يتعامل مع المرأة كأنثى ولا ككيان لذلك اختار أبو الهول أن يسلّط ذلك العنف الكابوسي على اللوحة ليثير الصدمة ويخلق فكرة جديدة لا توظّف المرأة كعنصر جمالي تكميلي وإنما كحضور يحمل فكرة وقضية وحكايات تعري المجتمع.

 

 

 

*خالد ترقلي أبو الهول

إن اتباع التفكيك في سريالية المعنى الأولي هو مشهد يتحمّل المضامين ويتحمّل الدمج التقني في عملية التوفيق البصري للفكرة في التقنية المعاصرة فمثلا في التعبير بأسلوب “البوب آرت” أو تعبيرية “البوب سرياليزم” يتلوّن الكابوس ويتخلّص من ظلام عتمته المرعبة إلى حلم مزعج الألوان بتفاصيله الساخرة في تحمّلها التجربة اللاواعية في إفراطها النفسي المبالغ في المقارنات وازدواجياتها كما في تجربة علي حسون من خلال ترويض الأسطورة خلق جدلية الانتماء المزدوج فكرة الصدام العرقي والديني والفكري والايديولوجي، ما يفسّر تشويه الإعلانات القديمة أو مخاطبة الأعمال الكلاسيكية بصريا أو دمج عالمين لاستيعاب الفكرة المتشابكة والمتصادمة التي تحتل العقل مرة والروح مرات.

*عدنان يحي

كما أن السريالية الفتوغرافية حملت الكثير من التوافقات الفكرية التي جمعت مفاهيم أسلوب “الفوتوسرياليزم” وتفوقت على الواقع بالواقع حيث أنها تكون تلقائية التعبير ولكن غير متوقعة المعنى والتفسير والمفهوم كما في لقطات المصورين الصحفيين حيث تقتنص اللقطة المفهوم مثل تجربة محمود الزيات، بلال قبلان، جورج سامرجيان، لأن الصورة تقع مباشرة مع صدامات واقعية لا مألوفة تحوّلها إلى فكرة ورمز وصورة تكاد تكون مجرد حلم أو خيال وتحمل انعكاسات مشحونة بتفاصيلها المشوقة.

*بلال قبلان

أما مع أسلوب “الاستيلو جرافيك” بتقنيات قلم الرصاص أو “التمبرا” والطباعة الحريرية حيث تنفذ الحواس الخام وتندمج مع ترميز الأسطوري والخيالي كما في تجربة مصطفى الحلاج، فالخصائص السريالية الحديثة حملته إلى تحويل الخصوصية الإنسانية والانتماء المفروض على التاريخ والجغرافيا رغم قسوة مساره إلا أنه خلق حالة نفسية عميقة التصوف وحادة التوظيف السريالي لأشكال تلك الحضارة على امتداد أساطيرها وخرافتها التي توازي الانسان بذاته المنفلتة من ألوهيتها النصفية وموازاتها بالحيوان الخارق في القوة.

*جورج سامرجيان

في تجربة إبراهيم الحميد مع الأسطورة في ذهنياتها السريالية المعبّرة عن الوطن وانتمائه حيث التفاصيل تستنطق الذاكرة وتطرح تساؤلات الإنسانية لتبوح بمعانيها في اللون والتقنية والصياغة البصرية فالتراب والبحث عن الأصل في عمق الأرض يكوّنان ثنايا البعد الدقيق للفكرة التي ترى حلما خرافيا وفانتازيا ملونة بتجاعيدها وهي تسردها في استحضار التراث فلسفة وجودا رمزا ومعنى.

*جورج سامرجيان

ولا يمكن تجاوز تجربة عدنان يحي التي اكتمل فيها التصور السريالي وتفجّر في مجاراته لتفاعلات الذات والإنسانية مع المعاناة والمآسي بتنوعها البشع وقسوتها الفكرية فالسريالية في تجربته ليست مجرد مدرسة تعبّر عن فوضى نفسية ما ذات تصورات فردية إنما هي تداخلات متآكلة تضرب الإنسانية في صمتها المعذب وكآبتها المزعجة وهي تترتب لتراكم أوجاعا مفصّلة مبنية على كابوس السلب والظلم وتناقضات السلب.

*رولا حلواني

كما اعتمد بعض الفنانين المنحى السريالي تجريبيا ليتماشى مع مفاهيم ما بعد الحداثة في الفن مثل تجربة ثائر معروف في صراع الانسان الحيواني ورمزية الرفض وصورة الفزاعة بمنطقها المفزع  أمام ما خلقته الحروب وما خلّفته الظروف السياسية فالانعتاق والتعبير هو حالة صدمة وصدام إما أن يفجّرها الفن وإما أن تكبتها الظروف وفي كل الحالات يتولّد القهر الداخلي لعنصره الجمالي الذي رغما عن الصورة يولد مشوّها فالإبداع المشوه ليس نقصا بل هو قوة وهو فكرة يجيد الوعي تجاوزها حفاظا على الذوق لأن الفكرة أحيانا تفرض الصدمة لتخلق الوعي والاحساس بالآخر وهو ما تفرزه دوما تصورات السريالية التي لا تنتهي في كل تجربة وعمل لأنها فلسفة مبنية على الشجن وعلى الرغبة في تفجير التناقضات اللاواعية في العمل التشكيلي.

فالتجربة العربية التي لم تتخل عن التزامها العميق بانتمائها وخصوصياته بكل تجليات تأثيره على النفسية الذاتية والحالة العامة للمجتمع لأن التوافق الداخلي خلص الصراع وتلك المشاحنات كثيفة المعنى حملت تواترات في محوها الكثيف صحو ذهني يقلّب في جماليّاته وينبش في فلسفة التلقي العام للواقع.

 

*الاعمال المرفقة:

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى