ثقافة وفنون

مرحلة الحواف الحادة Hard Edge..  استثنائية المفاهيم تجريد اللون والهندسة  

 

منذ ظهوره كأسلوب فني تشكيلي حداثي تحمّل التجريد في أشكاله التعبيرية العديد من الأساليب التي اندمجت وتماهت معه من خلال التوظيف الكامل للعناصر والأشكال ومنها التمازج الأسلوبي بين الانطباعية والمفاهيمية والتقليلية والتعبيرية والهندسة والتركيب الشكلي، وهو ما جعل صياغتها تحمل نوعا من التشدد المتوافق مع حدّتها وتمرّدها ومواقفها الجمالية التي قد تبدو منظمة أو فوضوية أو لا مثالية في جمالها المختلف، المقترح والبعيد عن المألوف التصويري المتعوّد.

*فائق عويس

 

وهذا التحوّل التعبيري في الأشكال الفنية اعتبر سمة وميزة لحركة التجريب المعاصرة التي خاضت في مراحلها هذا التمرّد من خلال العديد من التشكيليين وهو ما سمي بالتعبير المتشدّد الصلب الحاد ما عبر عنه بمرحلة الحواف الحادة أو الصلبة Hard Edge، هذا التصور الأسلوبي الذي ظهر في أواخر الخمسينات واندمج وتطوّر حتى لامس التصورات المعاصرة في الفنون التشكيلية والبصرية.


Ilya-Bolotowsky-1907-1981*

لتبقى مرحلة الخمسينات المرحلة التي يعتبرها النقاد أكثر مراحل الثراء اللوني في التعبير التجريبي للتجريد والتحول نحو البصريات أو الفنون البصرية التي تحمّلت الفكرة في جوانب التجريد وتعمّدت التفاعل الفلسفي بينها وبين الألوان في حقولها الأحادية وتمازجاتها الهندسية عبر الحواف التي امتدت وخاطرت وضاقت في مساحاتها المتمرّدة عبر فراغ المساحة التي اصطنعت لذاتها حضورا تجادل مع خصوصياته التعبيرية ومفاهيمها.

Pentti Tulla*

ولعل البحث في تشكّلات المرحلة وتصورات الحواف الحادة تحمل تصوراتها في العمق التجريبي الذي صنع للتجريد الهندسي وأحادية الحقل اللوني والتفاعل مع الحواف تفاصيلها من عدّة تجارب عالمية أمريكية أوروبية وعربية لتُحمّلها نقاط التلاقي وتستدرج تفاعلات الطرح الإشكالي لمثل هذا الانتماء ومداه التعبيري حسب رؤية كل تجربة.

Karl Stanley Benjamin*

 

فماهي خصوصيات هذا الفن وماهي دوافعه نحو التطوّر والانتشار وكيف أثّرت الفلسفة التجريبية والجمالية في تغيّراته المفهومية ومدى ثرائه البصري.

 

من التصنيف إلى التوظيف التقني والأسلوبي

 

إن هذا التصنيف  الذي اعتُمد كمصطلح للتعبير عن التيار ككل كان قد ابتكره في تلك الفترة الناقد والفنان الأمريكي جولس لانجسنر إذ كان إشارة إلى التركيب والتغيير التشكيلي القائم على الهندسة واللون والضوء والخطوط وحساب الفضاء والمساحة وتداخل العناصر بحدّة مسؤولة الموقف الجمالي الذي قام بوصل الترتيب الفني بحدّة متشدّدة في حواف صلبة تفصل الوعي واللاوعي وترتّب التناقضات في الفكرة الفنية، وهو ما بدا مع أعمال الرواد جاكسون بلوك وجون ماكلولين وهيلين لونديبرغ، ما صاغ جرأة اللون وحرّيته في مساحته وتأثيره في فضائه وانعكاسه الحاد وكثافاته الطاغية على الأشكال بتفاصيلها اللامألوفة وحوافها الحادة التي خلقت هذا الأسلوب المتشدّد في العمل الفني المتفرّد عن الطبيعة الاندماجية الأولى التي بدأت مع التجريد التعبيري.

يوظّف التصوير التجريدي للهندسة فلسفة داخلية تبعده عن التشويش من حيث أنه لا يتواصل مع الصورة كمجرد مشهد لأنه بدوره لا يجذب الجمال الموضوعي بل يخوض في التجريب الماورائي للصورة ويستفز منها الرمزيات والعناصر المتصادمة في علاماتها والمتناقضة في حسّياتها حيث يربط بينها وبين دورها التعبيري الداخلي في عمق العاطفة الذهنية وفي تفاعل المفاهيم  ومن هنا تكون القراءة في شرحها الأول قابلة لتحمّل التأويلات الفهمية التي تقع على المتلقي وتوقعه في التفسير بانطلاقة متحرّرة من قواعدها الثابتة في التفسير الجمالي الذي كسر قواعد المألوف بأسلوب مستفز أثبتت حركيّته الحيّة استمرارية تفاعلاته وقدرة استخراج اللون من جموده وبعث حيويته خاصة في توظيف اللون من اللون داخل المساحة ذاتها وكأنه يعطي لدرجة اللون حريّة التفاعل بحركة تستنطق جمودها في المساحة.

mario-grimaldi-1927-1997*

إن الرؤية الجمالية التي تفرض أسلوبها على التوافقات المفاهيمية في التعبير لا تقف عند الفلسفة فحسب بل توظّف الترتيب والقواعد التي تثبت مدى تكامل الجانب الهندسي وعبثيته المتمردة وفلسفاته المعبّرة وحكمته المنظمة وهي تخلق له قاعدة فنية تثبت انتماءه الحر لما بعد الحداثة في التعبير وتصله مع مدارس الفن المعاصر دون أن يكون دخيلا أو متمرّدا أو حتى متشدّدا كما يوصف فهو كأسلوب يسعى إلى خلق النظام اللوني الخاص به وتحفيز الخط الجمالي في الهندسة الرياضية المتفوقة على الفضاء بتجريد الشكل والحضور والتناسق المتكامل الذي يميّزها بالأصالة التعبيرية في جوانبها المتفاعلة بصريا لتنسيق اللون وإكسابه جرأة التحوّل وخلق ذائقة متحرّرة للفكرة الفنية خصوصا وأن تلك الفترة شهدت اعتمادا بصريا في عوالم التجريد على اللون مثل أسلوب التجريدية التعبيرية ما أعطى حضور اللون دورا مسؤولا في تحديد الفكرة وتوظيفها، خاصة وأن التجريد اتهم بكسر نمطيّة الفنون التعبيرية والواقعية وبأنه جاء لتدميرها وتغيير التشكّل الجمالي في الفنون، وهو ما حفّز التيار إلى أن يكتسب عبقريّته في الحساب والبحث والهندسة والاشتغال على اللون والتركيب والمساحة والبصريات والجزئيات وتوليفاتها وتحفيز المفاهيم وبالخصوص مفاهيم الفراغ.

Burgoyne-A-Diller*

يدخل هذا الأسلوب والتيار التشكيلي الخط واللون والضوء مع هندستها العميقة والداخلية في محاورة حادة وجدلية جريئة في البحث عن منافذها فصراعها حتمي للتحرر من سطوة الفراغ ومن صمت الصخب الدائر في مفاهيمها فبالأسلوب تتدفق الأضواء ملونة لتسطع وتتفجر خارج المسطح أو لتغوص أعمق في تداخلات الخطوط محمّلة بالظلال والنور الذي يتدرّج مع اللون ومساحته وهي تحدّدها الاشكال الدقيقة والمصفوفة والمتغيّرة عبر مراحلها التكوينية منذ البداية التي تحرّكها إلى آخر الوصف اللوني الذي يهبها الفكرة وفلسفة الحضور.

 

التجريب على المساحة والتطور مع الهندسة

 

تحمّلت مرحلة الحواف الصلبة الكثير من التصوّرات الجمالية المتعلّقة بالمفهوم العام للصورة والرؤى الماورائية في تطوّراتها الشكلية على مستوى اللون ولذلك فهي تخضع للتجريب والتداخل والانحدار المتكامل في تمرّده مع الفضاء الذي يستدرج الفراغ نحو فلسفته حيث أن اللون يتحمّل التقسيمات والتشكّلات في هندستها وهو ما يجعل التقنية دقيقة  ما يساعد على التخلّص من وهم الصورة نحو العمق الأكثر تجادلا مع البقاء في الترتيب وبالتالي فيمكن القول إن مرحلة الحواف الصلبة اكتسبت نضجها من التجريب على مستوى البحث الشكلي في تقسيمات الخط العربي والهندسة الزخرفية التي قادتها إلى النضج الفهمي  من حيث الاهتمام باللون والمساحة على مستوى الفضاء والتلاعب بدرجات العمق والتسطيح فيها من حيث التدريج والتلاعب بالضوء والأبعاد والظلال والخطوط في الإستقامة والانحناء أو التداخل والتقاطع ما يحدث صخبا مرتّب التلوين شفافا ومتدفّقا يحاول أن يغمر العين على مساحات مختلفة الفضاء وهنا يتلقى المشاهد العمل بعمق الرؤية أكثر من العاطفة التشكيلية التي تتماهى وتتأثر بالشكل والصورة المباشرة.

كما أن الأسلوب المعتمد على الحواف الصلبة له قدرة مميّزة تقنيا على العمل على التناقضات اللونية من حيث إحداث صدمة رؤيوية في المستوى المشتغل على المساحة فتكون اللغة البصرية بسيطة ولكنها دقيقة وصاخبة ومعبّرة في نفس الوقت.

أما على مستوى اللون الأحادي فالتقنية تكتسب نوعا من البساطة العميقة التي تتماثل في اللون نفسه وفي لغته البصرية المتدرّجة والمتناقضة في تجلياتها الصادحة وانفعالاتها الحادة.

فالعمل المبتكر الذي ركّزته مرحلته الحواف منذ تمرّدها حتى فنون ما بعد الحداثة تفاعلت مع التجريد الهندسي والفن التشغيلي واللوحة الميدانية الملوّنة وحتى تجريب خصوصيات الفنون الإسلامية وهندساتها الخاصة التي طوّعت الفضاء ومتّنت علاقة الشكل بالمساحة على مستوى التوظيف والمفاهيمية من حيث التنفيذ والعمق والأبعاد والتسرّب والانسياب والتعبير الداخلي وثنائية التوافق بين الشكل والحقل اللوني في المساحة.

*الأعمال المرفقة:

الفنانين: فائق عويس- Ilya-Bolotowsky- Pentti Tulla- Karl Stanley Benjamin-

mario-grimaldi- Burgoyne-A-Diller- John-Mclaughlin

متحف فرحات الفن من أجل الإنسانية

Farhat Art Museum Collections

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى