تقارير وتحليلات

معضلات “النسيان الاجتماعي” في دول الصراعات العربية

ترتبط إحدى أبرز القضايا التي تثار في مرحلة ما بعد التحول من الصراع إلى السلم، ومن الفوضى إلى الاستقرار، ومن الانهيار إلى التعافي وإعادة البناء، في دول الصراعات المسلحة العربية، وخاصة في ليبيا واليمن وسوريا والعراق، بمعالجة التأثيرات الناجمة عن هذه الحروب على الصعيد المجتمعي، أو ما يطلق عليه “ترميم الذاكرة الجماعية المتشظية”. غير أن تجاوز هذا الإرث يواجه جملة من الإشكاليات، التي تتمثل في سيادة منطق المباراة الصفرية بين الأطراف المتصارعة، وتعثر إجراءات بناء الثقة بين الجماعات المتحاربة، وتباين الرؤى إزاء قضايا المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية، وثقل التركات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وانتشار نمط الأجيال “الضائعة”، ومحدودية التجارب العربية الناجحة في الوصول للمصالحة الوطنية.

“هايبرسيميثيا”:

تشير أدبيات علم النفس السياسي والطب البشري إلى أن هناك حالة دماغية تعرف باسم “متلازمة فرط التذكر” أو مرض “هايبرسيميثيا” والمصنف بأنه يعد من الاضطرابات العصبية النادرة، ويطلق عليه أيضًا “الذاكرة الذاتية بالغة القوة”. وهذا المرض يجعل الشخص المصاب به يتذكر أدق تفاصيل حياته من دون نسيان أى تجربة أو موقف مؤلم مر به، ما يسبب له الكثير من مظاهر القلق والتوتر. ويتزايد هذا الوضع في حال تعرض الفرد لصراعات أو حروب أهلية ممتدة، على نحو ما تشهده ليبيا واليمن وسوريا والعراق، حيث توجد مجموعة من المعضلات التي تؤثر في عدم القدرة على تجاوز الذاكرة المريرة لقطاعات ليست بالقليلة من المواطنين في دول الصراعات العربية، وعدم تغليب روح المصالحة على نفسية الثأر، يمكن تناولها على النحو التالي:

المباراة الصفرية:

1- سيادة منطق “المباراة الصفرية” بين الأطراف المتصارعة: سواء بعد حدوث تحولات سياسية في هياكل السلطة داخل دول الصراعات، أو توقف موجات العنف وممارسات الفوضى في المجتمع، حيث تبذل جهود لتفعيل عملية سياسية تنشأ على أساسها علاقة جديدة بين مختلف الأطراف السياسية والقوى المجتمعية، ويتم في بعض الأحيان الوصول إلى اتفاقات للتهدئة، لكنها تكون مؤقتة، حيث يحاول أحد الأطراف أن يفرض شروطه على الطرف الآخر، لا سيما في حالة ما إذا اعتبر أن توازنات القوى تميل لصالحه، بما يعزز من احتمالات التوافق على تسوية سياسية هشة، بشكل لا يجعل هذا النمط من التفاعلات مفتاحًا لحل المشكلات، بل قد يفاقمها في مرحلة لاحقة.

واللافت للنظر أن نظام الرئيس السوري بشار الأسد يسعى إلى استكمال مواجهة التنظيمات الإرهابية وفصائل المعارضة المسلحة في بعض المناطق التي لازالت تسيطر عليها لإدراكه أنه لا يمكن الجلوس على مائدة المفاوضات إلا بعد استكمال تحرير بقية الأجزاء من الأراضي السورية. ويعزز من هذا السلوك الانتصارات الميدانية التي حققها خلال السنوات الثلاث الماضية. وكذلك الحال في ليبيا، إذ يتجه الجيش الوطني بقيادة المشير خليفة حفتر إلى تحرير بعض المدن من سيطرة التنظيمات الإرهابية والجماعات المتطرفة.

فجوة الثقة:

2- تعثر إجراءات بناء الثقة بين الجماعات المتحاربة: وذلك نتيجة التباينات العالقة بين تلك الجماعات شيئًا فشيئًا، إلى أن تصل إلى حد التناقض في المصالح، مما يؤدي إلى ظهور الأزمات وتصاعد التوترات وتجدد الاحتقانات، وهو ما يتطلب التعامل مع أحد الإنذارات الواضحة، التي تتمثل في “فجوة الثقة” Trust Gap بين الجماعات في دول الصراعات العربية. ووفقًا لما يطرحه عالم السياسة الأمريكي فرنسيس فوكاياما، فى كتابه “الثقة: الفضائل الاجتماعية وتحقيق الازدهار”،  تعد الثقة شرطًا رئيسيًا لإيجاد مجتمع اقتصادي سياسي متماسك، ومن خلال الثقة، يمكن تقليص ما يطلق عليه الاقتصاديون “تكاليف المعاملات”، أى تكاليف التفاوض والإرغام والإكراه والتي تمثل مصدرًا للنزاع وعدم الاستقرار.

إن السؤال الذي يفترض أن يكون محوريًا في مرحلة “اليوم التالي” بعد سكوت المدافع في بؤر الصراعات العربية، يتعلق بماهية الإجراءات العملية لإبداء حسن النوايا تجاه الأطراف الأخرى في هذا المجتمع أو ذاك، وفقًا للنهج المرحلي، على نحو يؤدي إلى الانتقال من انهيار الثقة إلى ضعف الثقة إلى استعادة الثقة إلى بناء الثقة إلى تمتين الثقة بين أطراف الأزمة، ليمتد من بنيان المجتمع إلى أطر السياسة إلى هياكل الاقتصاد. ولا توجد مؤشرات توحي بإمكانية الاقتراب من الثقة بين أطراف تلك الصراعات بحيث تستند على رأس المال الاجتماعي المتماسك في المدى الزمني القصير أو المتوسط.

منظورات مختلفة:

3- تباين الرؤى إزاء قضايا المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية: والتي تراجع الحديث عنها في الأعوام الثلاث الأخيرة. إذ أن معالجة الماضي هو المدخل الرئيسي لتحقيق المصالحة الوطنية المستدامة. فالتجاوز عن الماضي، لكونه مؤلمًا أو مثيرًا للجدل، سيؤدي فقط إلى تعقيد عملية المصالحة ويؤدي إلى عدم الاستقرار في المستقبل. ويعد التعامل مع الماضي أمرًا صعبًا، وهو ما يبرر تجنب أو تجاهل مناقشته في كثير من الأحيان، على نحو يجعله المحدد الحاسم في نجاح أو فشل المصالحة الوطنية، والذي يرتبط بمطلب تطبيق العدالة الانتقالية، والتي تعرف في تقرير الأمين العام للأمم المتحدة بأنها تشمل “كامل نطاق العمليات والآليات المرتبطة بالمحاولات التي يبذلها المجتمع لتفهم وتجاوز تركة الماضي الواسعة النطاق، بغية كفالة المساءلة وإحقاق العدل وتحقيق المصالحة”.

وقد ربط الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان ذلك باستراتيجيات شاملة، بحيث تتضمن الاهتمام على نحو كامل بالمحاكمات الفردية ووسائل جبر الضرر وتقصي الحقيقة والإصلاح المؤسسي والتعويضات، أو أى شكل يدمج على نحو مدروس هذه العناصر بطريقة ملائمة بما يؤدي إلى إنصاف الضحايا. غير أن هذه الوسائل ليست محل توافق بين مختلف القوى المجتمعية بما يعرقل السير في اتجاه طى صفحات الماضي.

إرث ثقيل:

4- ثقل التركات السياسية والاقتصادية والاجتماعية: سواء خلال المرحلة الانتقالية أو في أثناء عهود أنظمة سابقة، بما يطرح انطباعًا لدى البعض بعدم جدوى المصالحة والرغبة في التعايش مع الأوضاع الراهنة، نظرًا لصعوبة تحقيق متطلبات المصالحة، بأشكالها المختلفة، وهو ما يؤثر على التوازن النفسي. ومع حدوث التحول السياسي يبدأ المجتمع في التعبير عن نفسه وتحديد دوره في رسم ملامح مستقبله، إلا أن تركة الماضي تظل عائقًا أمام قدرة المجتمع على ممارسة دوره. وقد تعيق تطور هذا التحول وتمنعه من التقدم إذا لم تتعامل القوى السياسية الفعالة حيال هذه التركة بشئ من العقلانية والموضوعية.

ويضاعف من ذلك تورط أطراف في عمليات تجاوز أو انتهاك حقوق الإنسان، في حين أن المجتمعات تطالب بمعاقبتها عما ارتكبته من ممارسات أو على الأقل خروجها من معادلة ترتيبات الانتقال السياسي، وهو ما ينطبق جليًا على نظام الأسد في سوريا.

أجيال “تائهة”:

5 -انتشار نمط الأجيال “الضائعة”: وهى الأجيال التي وُلدت أو عاشت طفولتها في ظل استمرار الصراعات المسلحة أو الحروب الداخلية، لا سيما مع انعكاس مخلفات تلك الصراعات على مباني المدارس والمصانع والمستشفيات، وتشكل ضحايا ما اصطلح على تسميته بـ”المأساة الوطنية”، هذا بخلاف معضلة ملف “المفقودين”، على نحو يقود إلى تشكل نفسيات ضاغطة.

خبرات قليلة:

6 – محدودية التجارب الناجحة في الوصول للمصالحة الوطنية: وذلك باستثناء الحالة المغربية (بمبادرة من نظام الحكم)، على نحو لا يقدم نموذجًا متكاملاً يحتذى. فعلى الرغم من النجاحات الواضحة التي حققت في مجال إعادة الجزائر إلى استقرار نسبي، إلا أن اتجاهات عديدة اعتبرت أن ثمة متغيرات ما زالت تحول دون تحقيق كافة أهداف المصالحة الوطنية، باعتبار أن التطبيق الصحيح لهذه العملية ليس مسألة تدابير إدارية تتخذ لتنفيذ قرارات تصدر من أعلى الهرم إلى أسفله، بل هو مسار طويل يفترض مشاركة مختلف الفئات الاجتماعية فيه إلى جانب الأحزاب والمؤسسات السياسية كلها.

فضلاً عن ذلك، لم تنجح تجربة المصالحة الوطنية في الحالة العراقية في مرحلة ما بعد انهيار نظام صدام حسين. وقد تبدو تجارب الدول الأخرى في مناطق مختلفة من إفريقيا وآسيا وأوروبا في مراحل الانتقال الديمقراطي والتأزم السياسي والتصالح الوطني، بعيدة، لكنها لا تزال موحية، مع الأخذ في الاعتبار أن وحدة المشتركات بين الدول الخارجة من الصراعات أو الثورات قد لا تقود بالضرورة إلى تشابه في المسارات، حيث قد تتخذ كل واحدة منها مسارًا مغايرًا، تحكمه خصوصية الحالة، وطبيعة إدارة المرحلة الانتقالية والقوى السياسية المتحكمة فيها، والتحالفات القائمة فيما بينها، وحجم تركة الأنظمة السابقة.

مرحلة التعافي:

خلاصة القول، إن تحقيق التعايش السلمي وبلوغ التصالح المجتمعي والتوازن النفسي، في دول الصراعات العربية، يعتمد، إلى حد كبير، على إعادة ترميم ثم بناء العلاقات بين الأطراف المتنازعة، على نحو لن يتحقق إلا في حالة الوصول إلى سلام طويل المدى، لأن ثمة أعباءً ثقيلة على الذاكرة الجماعية، خاصة على ذاكرة الفئات المتضررة في فترات الصراع حتى تنتقل إلى مرحلة التعافي. وهنا، يمكن علاج “جراح” الذاكرة عبر آليتين: تتمثل أولاهما، في استعادة الثقة التي تسود قوى المجتمع المتضررة تجاه النظام السياسي الجديد ومؤسساته. وتنصرف ثانيتهما، إلى إعادة مصالحة المجتمع مع ذاته بعد التشريد القسري والاعتقال السياسي والتضييق المالي والانهيار المؤسساتي، على نحو تصبح معه عملية إعادة الإعمار شاملة وعادلة وتكون الذاكرة سوية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى