ثقافة وفنون

موسى حوامدة في مذكراته : يوم اصطحبني أبي لأول مرة للمدرسة .. وذكرى أول قارئ نهم أقابله في حياتي( الحلقة السادسة)

يعيد الشاعر موسى حوامدة عبر “الديوان” ذكريات مضت، لحياته التي شكلت الشاعر والإنسان فإلى ذكرياته ومذكراته في حلقتها السادسة كما يرويها بنفسه:

الشخص الوحيد الذي كان يلفت نظري في تلك المرحلة، عم أبي، وزوج خالتي، وكنيته “كريم”، كان يعرف القراءة، وكان حين يزورنا، لا يجلس على الأرض، بل يحب الجلوس فوق كرسي، أو أي مكان مرتفع، وما أن يجلس، حتى يخرج من عبه كتاباً مصفر الغلاف والأوراق، ويبدأ القراءة، كنت أراقب حركاته بدقة، وأنظر إلى يديه وشفتيه وهما تتحركان، وإلى الكتاب يرتعش بين يديه، ونادراً ما رأيت أبي يستمع له، أو يقيم اهتماماً لزيارته أو لقصصه، وسمعته مرةً، معلقاً عليه: (النص نص عُلما والفعل فعل شياطين).
لكن ذلك لم يمنعني من التعلق به، فكنت أحب حضوره، وأنتظر ذلك، فقد كان هو أول إنسان في حياتي، أراه يقرأ، ويتعامل مع الكتابة، ويحمل بين يديه كتاباً.


والحق يقال؛ أن أسلوبه في القراءة كان فريداً وجاذباً، وطريقته في نطق الكلمات لا زالت راسخة في ذهني، أما تحريك يديه تعبيراً عن إعجابه أو دهشته بما يقرأ، فكان أيضاً ساحراً، وقريباً من المسرح.
لا أعرف ما هو عنوان ذاك الكتاب، لكنني سمعت منه وصفاُ، عن الشمس والأرض، وكيف خلق الله الدنيا، وكيف اختار محمداً، وخلق الكون من أجله، ولا أنسى أنه في يوم من الأيام، شرح لنا كيفية تشكل الغيوم، وسقوط المطر، وقال: أن هناك ملاكاً عملاقاً، اسمه ميكائيل، حين يريد الله أن تمطر على مكان معين، يأمره بذلك، فيقوم هذا الملاك، بضرب البحر، ويجلد السماء بسوطه الضخم، فتتكون الغيوم، ويتكون البرق والرعد، وحين يختار الأماكن التي يريد أن ينزل عليها المطر، يضربها ضرباً خفيفاً بالسوط نفسه، فتندلق الغيوم، وينزل المطر مدراراً أو شحيحاً، وربما يشاء أن يحرم قوماً ما، من المطر، فيدفع الغيوم لتتجاوز عنهم.

أولى لمحات الوعي

كنت أحاول تخيل الأمر، وأحاول تخيل شكل الأرض، ولم أكن من الوعي بحيث أطرح سؤالاً عن ماهية الأرض، لكني كنت أرتجف هلعاً من وصف عمتي “خضرة”، التي ماتت نهاية عام 2017 بعد أن تجاوزت التسعين من عمرها، حيث سمعتها مرةً تقول: أن الأرض يحملها ثور ضخم على قرنه، وحين يتعب قرنه الأول، يرمي بها على قرنه الثاني.
كم كان مرعباً هذا الوصف، والخوف من أن تفلت هذه الكرة عن قرن الثور، أو تسقط حين يتعب، أو لا تصل إلى القرن الثاني، وهو يرمي بها، ومرةً سألتها هل للأرض نهاية يا عمتي، فقالت: (بتظل تمشي تمشي لبعد “قطعات السعيد”؛ وهي منطقة قريبة جنوب البلدة، وتمشي تمشي بعد ذلك حتى تصل إلى نهاية الأرض، بعد “غوين” وهي منطقة على الحدود مع اليهود، هناك تصل إلى حافة الأرض).

كنت أتخيل أن هناك فراغاً أبيضَ بعد نهاية الأرض بالضرورة، وأن ما بعد الحافة مجهول، لكن المنطقة يغمرها الضباب من كل الجهات.
لا أتذكر هل شرحت لي عمتي ذلك، أو فهمته منها، لكني خلال تلك الفترة، كنت أعتقد أن نهاية الأرض قريبة منا، وكنت أشعر بالخوف كلما تخيلت ما وراء النهاية. وأظل أفكر أن الذهاب إلى هناك، محفوف بالخطر، فقد تنزلق قدم الإنسان، ويسقط في الفراغ.
لذلك كنت مشدوداً إلى كلام عمي “كريم”، أتابع كل كلمة يقولها، وكان أحياناً يتوقف عن القراءة، ويوجه كلامه إلي أمي وعمتي: اسمعي يا مليحة، وأنت يا آمنة، فتردُّ عمتي: نعم يا عم أبو خليل، فيقول: تعليم موسى على موسى، فاهمة؟ موسى الثاني هو ابن أبي خليل الثالث، والذي كان يدرس في بلد بعيد، لم أعرف ذاك البلد حينها، ولم أكن أتخيل أن هناك دولاً كثيرة في العالم، لكني فهمت أن الذهاب إلى ذاك البلد البعيد، يحتاج إلى سفر بالطائرة.

اقترب دخولي إلى المدرسة، وكنت أسمع دائماً من يشجعني على اقتراب الموعد، نسيت من كان يذكرني، لكني أتذكر أني كنتُ متشوقاً لدخول الصفٍّ الأول الابتدائي، حفظت الفاتحة، وبعض السور القرآنية القصيرة، وبعض الكلمات والأحرف، وحتى بعض الأرقام، وتعدادها، وجمعها وطرحها وقسمتها، حيث كنت أستمع لأخي الأكبر، وهو يدرس، وأحفظ بعض الكلمات والعمليات الحسابية البسيطة، وأرددها أو أجيب عليها قبله فيغتاظ، وكنت حتى أتجنب بعض الأخطاء التي يقع فيها، ربما كان ذلك من أجل استفزازه، فلم يكن سلسلاً في تعامله معي، وينهرني ويضربني دائماً، بل ظلت ندبة تنمو وسط رأسي باستمرار، لأنه عضني حين كنت لا أزال رضيعاً في اللفة، وظلت هذه الندبة تنمو وتتآكل وتحكني، وتعودت أن أكشطها بأظافري، لم تكن تؤلمني لكن وجودها كان مزعجاً، حتى دخلت الجامعة، وعملت لها عملية جراحية، وما زالت آثارها موجودة حتى اليوم.

أول ذكرى عن المدرسة

وفي صبيحة ذاك اليوم، الذي لا أنساه، أمسكني أبي من يدي، واصطحبني إلى المدرسة، يا إلهي، أصابتني الدهشة فعلاً، فالمدرسة هي علية “العنيد” التي كانت أمي تحدثني عنها، وهي تتألف من طابقين مرتفعين، ولها درج عال، وأمامها ساحة واسعة.
هذه هي علية “العنيد”، التي كانت مخفراً للفرسان أيام الأردن، وقبل ذلك مقراً للجنود العثمانيين، ثم مركزاً للجيش البريطاني، حيث كانوا يعذبون رجال الثورة، وقد عذبوا سيدي “سلامة” فيها، كنت أنظر للمسافة العالية، وللسطح المرتفع، واستغرب كيف كان الانجليز يرمون الناس من فوق العلية، وما الذي كان يحدث لمن يسقط من المكان العالي.
نبَّهني أبي، وهو يعطيني بضعة قروش، خذ مصروفك، خبئه جيداً، خلال الفرصة يأتي أمام البوابة هنا، عيسى علي جابر ومعه عرباية، وهو يبيع الساندويشتات للطلاب، اقتربْ منه، وقل له اسمك، أنا أوصيته عليك، اشتر ما تريد، وإياك أن يضربك الأولاد، أو يسرقوا مصروفك منك.
دخلت المدرسة مع الأولاد، ولا أذكر تفاصيل كثيرة لذلك اليوم، فقد بقيت مشدوهاً بارتفاع العلية، وخلال الفرصة، ذهبت واشتريت ساندويشة، حملتها وأنا أنظر لأعلى العلية مجدداً، كم هي مرتفعة، ربما سيموت من يلقى به من فوق، لم أكل بعد من الساندويشة، حتى اقترب مني ولد رث الملابس، صار ينظر لما في يدي، وقال متوسلاً بصوت خجول: أطعمني، أشفقت عليه، فكرت أن أطعمه، لكني تذكرت كلام أبي، شددت قبضي على الساندويشة، وتركت له قسماً صغيراً بارزاً منها، ومددت يدي نحوه، ولا أدري كيف انقض عليَّ، وأدخل يده بمهارة تحت كفي، وقسَمَ هو الجزء الأكبر منها، وترك لي جزءاً صغيراً، ولما رأيت ما تبقى، ضربته به على وجهه، بينما كان يلتهم ما قسمه مني، دون أن يتأثر بردة فعلي.

وجدت ذلك الولد في صفي، وكان من أكبر المنافقين للمعلمين، ولا أدري هل كان يعيد الصف مرة ثانية، أم كان يعرف المعلمين من قبل، فقد كان يكبرني بعامين، وكان يذهب ليشتري ما يطلبه بعض المعلمين، ويسرع ليصب الماء على أيديهم، كرهت النفاق منه، كما كرهت الجواسيس وقصصهم من قبل.
لا أتذكر تفاصيل الصف الأول، وماذا درسنا، ومن درسنا، لكني كنت متفوقاً، وإن كان المعلمون يميزون ذاك الولد المنافق، ويطلقون عليه ألقاب الذكاء والشطارة، ولكني كنت غير آبه بمنافسته، وعندي يقين أنهم يميزونه بسبب نفاقه، لا بسبب تفوقه.

روابط للحلقات السابقة:

الحلقة الأولى:

http://wp.me/s9jUMy-mosa

الحلقة الثانية

http://wp.me/p9jUMy-84

الحلقة الثالثة

http://wp.me/p9jUMy-aZ

الحلقة الرابعة

http://wp.me/p9jUMy-iN

الحلقة الخامسة

http://wp.me/p9jUMy-om

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى