ثقافة وفنون

نعم روسيا استضافت كأس العالم و لكن! هل كان الاختيار نزيهاً؟

في الثامن من يونيو لعام 2010، وقبل ثلاثة أيام من انطلاق كأس العالم في جنوب إفريقيا، جلس مبعوثا روسيا وآخر من إنكلترا خارج غرفة اجتماعات في مركز ساندتون للمؤتمرات في جوهانسبرغ، ينتظران بفارغ الصبر تقديم عروض بلديهما لاستضافة البطولة عام 2018 حسب ما نشرت صحيفة The Guardian البريطانية

كان جمهورهم عبارة عن ممثلي منتخبين من اتحاد الكونكاكاف. وكانت المنظمات العضوة في الفيفا البالغ عددها 208 منظمة، تملك كل واحدة منها سلطات الفيفا داخل بلادها، منقسمة بين ستة اتحادات، من بينها الكونكاكاف الذي يضم تحت مظلته 35 منظمة. وبالتالي كان الكونكاكاف يرفع تقاريره بشكل مباشر إلى الفيفا. امتدت المنظمات الواقعة تحت سلطة الكونكاكاف من بنما في الجنوب إلى كندا في الشمال، وضمت الولايات المتحدة، وكذلك دول بحر الكاريبي ودولتا سورينام وغيانا المكتظتان بالسكان في أميركا الجنوبية.

لم يكن أعضاء الاتحاد، باستثناء المكسيك، يعتبرون بارعين بشكل خاص في مجال كرة القدم، غير أن الكونكاكاف كان أحد مكامن القوة في ما يتعلق بأعراف تسيير أمور كرة القدم على الساحة الدولية، وهي ساحةٌ تشهد تناحراً شرساً.

جاك وارنر يجمع أصوات الدول الأعضاء بالاتحاد

كان هذا التأثير يرجع في مجمله إلى جاك وارنر، رئيس الفيفا وابن جمهورية ترينيداد، وارنرالنحيل القوي ذو الوجه المجعَّد المعتاد على ارتداء النظارات، يُذكِّر الجميع أنه رجلٌ أسود صعد من شرك الفقر المدقع. كان وارنر رجل سياسة بالسليقة، بما كان لديه من قدرة على جمع كلمة جميع الدول الأعضاء في الاتحاد الذي يديره لتصبح على قلب رجل واحد في كتلة تصويتية موحدة في الاجتماعات السنوية للفيفا. هذا النظام منقطع النظير منح الكونكاكاف تأثيراً أكبر من المعتاد مقارنةً بالاتحادات الأخرى التي تفوقه حجماً، والتي كانت تعاني للتغلب على خلافاتها الداخلية والتحزبات بداخلها على نحو فتَّتَ أصواتها في عدة اتجاهات في بعض الأحيان.

وهو أيضاً ما جعل وارنر، الذي كان في السابعة والستين من العمر حينها، وواحداً من أقوى رجال كرة القدم، يهابه الجميع. لم يحدث أن طعن أحدٌ في مكانته إلا نادراً. ومقابل كرمه الحاتمي في إنفاق المال على الاتحادات التابعة للكونكاكاف، كان يُتوقَّع منها أن تتبع تعليماته بحذافيرها في ما يتعلق بالتصويت.

صعد وارنر من براثن الفقر المدقع في ريف ترينيداد إلى مرتبةٍ هامة في الفيفا ليصبح ثالث أهم رجلٍ فيها وأطول أعضاء اللجنة التنفيذية مكوثاً في منصبه. واللجنة التنفيذية هذه تتألف من 24 رجلاً مهمتهم اتخاذ أهم القرارات الخاصة بالفيفا، بما في ذلك تحديد مكان عقد بطولات كأس العالم.

كانت جميع الدول التي شاركت في التنافس على استضافة البطولة تعلم أنه لابد لها من التودد إلى وارنر لتصل إلى بغيتها. كان من المقرر أن يُعقد تصويت اللجنة التنفيذية على الدولة المضيفة لبطولة كأس العالم لعامي 2018 و2022 في زيورخ في الثاني من ديسمبر/كانون الأول عام 2010، وكان اجتماع الكونكاكاف في جوهانسبرغ، الذي عُقد قبل موعد التصويت بستة أشهر تقريباً، في نظر الدول المترشحة فرصة جيدة لتقديم نفسها.

منافسة شرسة

إنكلترا كانت تستعد لخوض المنافسة، ضد عدد من الدول. أما بلجيكا وهولندا فقد شكَّلَتا معاً جبهةً موحدة، وكذلك إسبانيا والبرتغال شكَّلَتا جبهةً أخرى. وكانت هناك مجموعةٌ أخرى من الدول تتنافس على حق استضافة كأس العالم لعام 2022، من بينها الولايات المتحدة وأستراليا وقطر. غير أن أشد منافسي إنكلترا على استضافة دورة عام 2018 كان دون شك روسيا.

في الوقت ذاته كانت روسيا قد فازت بحق استضافة دورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2014  قبل ذلك بثمانية عشر شهراً فقط، وكانت تشهد ذلك في الوقت ما يقرب من العقد من النمو الاقتصادي المذهل، بفضل ارتفاع أسعار النفط وغيره من الموارد الطبيعية إلى مستويات قياسية.

روسيا، ولا سيما رئيسها فلاديمير بوتين تشوقت للاستفادة من هذا الصعود في الاقتصاد لتعيد ترسيخ مكانتها الضائعة كقوةٍ دولية. والفوز بحق استضافة كأس العالم، التي يشاهدها مئات الملايين في جميع أنحاء العالم، سيكون بلا شكٍ طريقةً فعالة للمساعدة في غرس هذه الفكرة، إذ ستظهر روسيا من خلال هذا بمظهر قوي ومستقر. والأهم من ذلك، أن الفوز بحق استضافة كأس العالم سيحسن صورة بوتين في أوساط الشعب الروسي. وعلى ذلك، لم تكن خسارة هذا التصويت خياراً متاحاً بالنسبة لبوتين.

قدم الوفد الروسي، بقيادة أليكي سوروكين، الأمين العام لاتحاد كرة القدم الروسي، عرضه أولاً. لم تسر الأمور على ما يرُام. في البدء، لم ينجح المنتخب الوطني الروسي لكرة القدم في التأهل لبطولة كأس العالم لعام 2010، جراء خسارة مهينة في شهر نوفمبر/تشرين الثاني أمام منتخب سلوفينيا، علماً بأن الأخير منتخبٌ لا يؤبه له وسلوفينيا نفسها يبلغ تعداد سكانها أكبر بقليل من سكان مدينة سيبيريا في نوفوسيبيرسك. أضف إلى ذلك أن العرض الروسي كان مشوباً بأعطال في برنامج الـ Powerpoint، الذي توقف عن العمل ثلاث مرات أثناء حديث سوروكين. وفي المقابلة كان أداء الفريق الإنكليزي مذهلاً أثناء العرض.

هلَّلَت الصحافة الإنكليزية، بدافع من التفاؤل الدخيل على طبيعتها، للعرض باعتباره علامةً على أن فرص إنكلترا تبدو جيدة، وأن القدرات الفنية لإنكلترا، وما لديها من بنية تحتية قائمة وكفاءة عامة جميعها أمورٌ تمنح إنكلترا الأفضلية وتؤهلها للفوز في التصويت. غير أن الروس كانوا يسيرون وفق خطةٍ مختلفةٍ تماماً.

بعد يومين من اجتماع جوهانسبرغ، عقدت الفيفا ما أطلقت عليه “معرض تقديم العروض”. وباعتباره معرضاً تجارياً مخصصاً لكأس العالم نفسه، فقد منح جميع الدول التسع المتنافسة للحصول على حق استضافة كأس العالم لعامي 2018 و2022 فرصة الاجتماع بوفود من جميع أنحاء العالم. ووفر المعرض على وجه التحديد فرصةً للاندماج مع كل عضوٍ من أعضاء اللجنة التنفيذية تقريباً.

دخول مفاجئ

قبل ساعات قليلة من المعرض، دخل الملياردير رومان أبراموفيتش، مالك نادي تشيلسي، إلى مركز غلاغير للمؤتمرات بجوهانسبرغ، بعد أن وصل على متن طائرته الخاصة برفقة إيغور شوفالوف، النائب الأول لرئيس الوزراء الروسي.

أصبحت شركة سيبنفط، واحدةٌ من شركات النفط العملاقة في روسيا، تحت سيطرة أبراموفيتش، علماً بأنه لم يكمل تعليمه الثانوي وعمل ميكانيكياً وتاجر سلع صنع ثروته بفضل دعمه المحموم ل بوريس يلتسن. وبعد ذلك دعم أبراموفيتش بوتين لخلافة يلتسن، وكوفئ على ولائه مكافأة ثمينة. اشترى أبراموفيتش نادي تشيلسي عام 2003 وانتقل إلى لندن بعد ذلك بخمس سنوات، بعد أن باع جميع أصوله في روسيا. وبخلاف العديد من أبناء النخبة الروسية الذين هاجروا من روسيا، ظل أبراموفيتش على صلة وثيقة ببوتين.

تنص القاعدة أن أصحاب المليارات يكرهون الانتظار. ولكن بمجرد أن بدأ المعرض، أبدى أبراموفيتش ابتهاجاً وحماساً لا يتسقان مع طبيعته الخجولة الانطوائية، إضافة لارتدائه بدلة بلون أسود فاحم، أيضاً على غير عادته بارتداء سروال جينز.

وأعلى ذقنه غير الحليقة، امتدت ابتسامةٌ واسعة بين أذنيه، ووقف برفقة مجموعة من أبناء وطنه، بينهم نجم فريق أرسنال أندري أرشافين، في المقصورة الروسية، وحيَّا مسؤولي كرة القدم من جميع أنحاء العالم، وابتسم بسخافةٍ وهو يلتقط الصور مع ديفيد بيكهام.

حين أوشك المعرض على الانتهاء، غادر أبراموفيتش الصالة برفقة جوزيف بلاتر، رئيس الفيفا السويسري. وحيث إن التركيز كان منصباً على بيكهام، لم يكد أحدٌ يلحظ أنهما غادرا معاً.

لا بد أن نعمل لأجل الجيل القادم

في وقتٍ سابق من ذاك اليوم، كان بلاتر قد تفاخر أمام جميع أعضاء الفيفا بالأرباح القياسية التي حققها الاتحاد في السنوات الأربع السابقة على عام 2010. وتفاخر بأن الفيفا يملك رصيداً بنكياً مقداره مليار دولار، وتعهد بتوزيع 250 ألف دولارٍ أميركي على كل منظمة عضوة في الفيفا كمكافأة، بالإضافة إلى 2.5 مليون دولارٍ أميركي لكل اتحاد.

هذه الرعاية التي لا تخطؤها العين هي ما منحت بلاتر محبة العديد من أعضاء الفيفا البالغ عددهم 208 أعضاء، بما يجعل المنظمة أكبر من الأمم المتحدة نفسها.

وكان بلاتر يخطط، كما أعلن في مؤتمرٍ صحفي بعد انتهاء المعرض، للترشح لفترة رابعة لرئاسة الفيفا. وقال، وهو يتعمد تقمص كلمات ونستون تشرشل: “لا بد أن نعمل لأجل الجيل القادم”.

كان بلاتر قد أصبح، بعد اثني عشر عاماً في منصب الرئيس، سبقتها 17 عاماً كأمين عام، على درايةٍ تامة بتكلفة الحفاظ على السلطة في مؤسسةٍ كالفيفا بما تنعم به من الثروة والتنوع واحتدام التنافس. وكان قد وصل إلى مرحلة أتقن فيها، أكثر من غيره، الأساليب الأقتم لإدارة أكثر الرياضات شيوعاً في العالم، وضلع بالفعل في عديد من صفقاتها ومواءماتها الميكافيلية على مر السنين.

ركب الملياردير الروسي الذي كان مرحاً على غير العادة برفقة رئيس الفيفا الأصلع الهزيل مصعداً متجهاً إلى الدور الثاني حيث قاعة الاجتماعات، وهما منهمكان في حديثٍ خافت. ثم انسلَّا إلى داخل غرفة اجتماعات خاصة وأغلقا الباب بهدوء.

إنكلترا استعانت بجاسوس لجمع معلومات عن المنافسين

بالنسبة لمن كانوا يديرون “مناقصة إنكلترا 2018″ كما كانت تُعرف رسمياً، كان جلياً أن الفوز بحق استضافة البطولة سيتحدد بعوامل كثيرة لا تقتصر على جودة الملاعب والمطارات بل وحتى كرة القدم نفسها في كل دولةٍ من الدول المتقدمة بل ثمة معايير أخرى، ولجمع المعلومات عن العروض المنافسة، استعان الأفراد والشركات الداعمة للعرض الإنكليزي بجاسوس سابق كان قد قضى عدة سنوات يعمل في الخفاء في موسكو في بدايات تسعينيات القرن العشرين، ثم شغل منصباً رفيعاً في المكتب المختص بالشؤون الروسية في جهاز المخابرات الإنكليزي MI6 في لندن، اسمه كريستوفر ستيلي.

قال كريستوفر إن وظيفته كانت مساعدة بريطانيا على “تحقيق فهم أفضل لما ينتظرهم، وما كان ينتظرهم هو طريقةٌ غريبةٌ عليهم تماماً لإتمام الأعمال”. في ربيع عام 2010، بعد فترةٍ ليست بالطويلة بعد أن بدأت المصادر تقول إن بوتين أصبح فجأة مهتماً بشكل شخصي بأمر العرض، بدأ ستيلي يسمع سلسلة الشائعات الفضولية والمقلقة.

وفي الوقت نفسه بدأ اللغط يكثر في أوساط أخرى بأن مسؤولي العرض الروسي قد اصطحبوا لوحات فنية ثمينة من متحف هيرميتاج في سان بطرسبرغ وقدموها لأعضاء اللجنة التنفيذية مقابل الحصول على أصواتهم.

أغلب الظن أن أفراد فريق العرض في بريطانيا قد أصابهم الذعر حين رفع إليهم ستيلي ما توصل إليه من نتائج. وعرف ستيلي على وجه اليقين أن بريطانيا ستُمنى بفشلٍ ذريع؛ إذ لا قِبل لها بهزيمة بلدٍ مثل روسيا، التي كانت مستعدة كما هو واضح لفعل أي شيء حتى تتجنب هزيمة مهينة في معركة كهذه على الساحة الدولية. غير أن فكرةً أخرى راودت الجاسوس السابق حينها. فالمعلومات التي كانت تتراكم لديه عن روسيا والفيفا كانت بالغة الحساسية، ولكنها كانت فريدة من نوعها مع وجود احتمال لأن تكون لها قيمة كبيرة، بل وربما لا تقدر بثمن. وسيكون من العار عليه أن تذهب هذه المعلومات سدى. وعلى ذلك، قفزت إلى ذهنه فكرة أخرى، وهي أن يسرب المعلومات التي لديه لعميل آخر: مكتب التحقيقات الفيدرالي الأميركي.

 

في مقر الفيفا.. قرار حاسم

في وقتٍ مبكر من صباح الثاني من ديسمبر/كانون الأول 2010، غطت قشرة رفيعة من الثلج أرضية مقر الفيفا بزيورخ، مع وصول أعضاء اللجنة التنفيذية للإدلاء بما يمكن أن يكون أهم الأصوات في تاريخ كرة القدم. دونما توقف تجاوزوا البوابات الأمنية في سيارات مرسيدس يقودها سائقون خصوصيون ثم عبروا منحدراً طويلاً يفضي مباشرةً إلى قلب المبنى.

وفي داخل المبنى نزلوا إلى الطابق الثالث تحت الأرض دون أن يضطروا إلى الخروج من المبنى أو إلى أن تلحظهم جموع الصحفيين الذين احتشدوا أمام المدخل منذ ما قبل طلوع الفجر. كان المبنى، المعروف في أوساط كرة القدم ببيت الفيفا، يقدم مثالاً لما باتت عليه الهيئة المسيطرة على كرة القدم، والتي كانت ذات يوم هيئة متواضعة.

مثَّلَ المبنى، الذي صممه مهندسٌ معماريٌ سويسريٌ لامع بتكلفة فاقت المئتي مليون دولارٍ أميركي وافتُتِح عام 2007، واجهةً باردة غامضة من الزجاج اللامع مغطاة بشبكة من الفولاذ، وهو محاطٌ بأسوار ومواقع حراسة على  مسافة بعيدة لدرجة لا يمكن معها للمارة في الشارع رؤية المبنى.

ومن بين أدوار المبنى البالغ عددها ثمانية، تقبع خمسة أدوار تحت الأرض، لذلك أحياناً يطلق عليه البعض “ناطحة السحاب الممتدة تحت الأرض”، كما زُيِّنَ البهو الكبير المعبأ براحة الحجر المخشوب، بزهورٍ باهظة الثمن على نحو لا تخطئه العين. كانت الناحية الجمالية في المبنى ذات طابع سويسري خالص، دون أي زخارف من أي نوع في أي مكان، ومع ذلك كان واضحاً أن القائمين على الفيفا لم يضنوا بالمال على المبنى ليخرج بهذه الفخامة.

وفي الطابق الثالث تحت الأرض كان القلب النابض للمبنى والمؤسسة؛ ففيه كانت غرفة مجلس اللجنة التنفيذية، حيث تُتَّخَذ أهم القرارات في تاريخ كرة القدم. كانت غرفة داخل غرفة؛ غرفة حربية مظلمة لا يمكن اختراقها وكأنها مستقاة من فيلم درامي عن الحرب الباردة، ولها جدران طويلة ملتوية مغلفة بالألومنيوم وأرضيات من اللازورد المصقول. كانت المكاتب الخشبية المطلية باللون الأسود مصفوفةً في صورة مربع كبير تعلوه نجفة ضخمة من الكريستال على شكل بيضاوي يشبه مدرجات الملاعب.

 

صُمِّمَت الغرفة بحيث لا يُسمح لضوء الشمس بالدخول إليها؛ ولتفسير سبب ذلك قال بلاتر بمناسبة افتتاح المبنى إن “الأماكن التي تُتَّخذ فيها القرارات ينبغي ألا تحتوي إلا على ضوء غير مباشر”.

بحلول القرن العشرين، وبفعل الشعبية المتزايدة للعبة كرة القدم التي كانت حينها لا تزال جديدة نسبياً، استلزم الأمر عقد مباريات بين فرق من دول مختلفة. غير أن الطريقة التي كانت تُلعب بها كرة القدم اختلفت اختلافاً كبيراً من مكانٍ إلى آخر، وباتت الحاجة إلى وجود هيئة منظمة واحدة بوسعها أن تضمن عدالة المباريات بين دول مختلفة تزداد وضوحاً.

لم تكن الهيئات الأربع الوطنية في بريطانيا التي تخضع لها شؤون كرة القدم، والتي ترى نفسها أنها مخترعة اللعبة وأعظم ممارسيها، مهتمة بالانضمام إلى سلطة أعلى منها شأناً. وكان اتحاد كرة القدم الإنكليزي، الذي كان قد أتمَّ عامه الأربعين حينها، مرتاباً أكثر من غيره في جدوى الأمر، وكتب حينها بصراحة وصرامة أنه “لا يستطيع أن يفهم مزايا إنشاء اتحادٍ كهذا”، ورفض التعاون معه بأي شكل من الأشكال.

غير أن ذلك لم يثنِ سبع مجموعات قارية، تمثل فرنسا، وبلجيكا والدنمارك وهولندا وإسبانيا والسويد وسويسرا، والتقت تلك المجموعات بعيداً عن الأنظار في نادٍ رياضي باريسي في الحادي والعشرين من مايو/أيار عام 1904، وقررت أن تنظم صفوفها دون انضمام الإنكليز.

وأطلقت المجموعات السبع على المؤسسة غير الربحية التي أنشأها الاتحاد الدولي لكرة القدم؛ وتعهدت الدول التي انضمت إليها بالامتثال لقواعدها دون غيرها، مع منحها السلطة العليا على كرة القدم. وكان مطلوباً من الجميع ممارسة اللعبة باتباع القواعد نفسها. وربما الأهم أن الفيفا طلبت من أعضائها التبعية المطلقة لها، مع إقصاء أي منظمات كروية لا تثبت ولاءها التام للنادي إقصاءً كاملاً.

في غضون أشهر قليلة، وافقت ألمانيا على سداد الرسوم السنوية للعضوية وقدرها حوالي 9 دولارات أميركية، وما لبثت بريطانيا واسكتلندا وويلز وأيرلندا الشمالية أن انضمت أيضاً. وأصبحت جنوب أفريقيا أول دولة غير أوروبية تنضم إلى الفيفا، عام 1909؛ وانضمت الأرجنتين وتشيلي عام 1912، وتبعتهما الولايات المتحدة في العام التالي.

وفي عام 1928، تحت ضغط من أعضائها لإنشاء بطولة كرة قدم تنافس شعبية الألعاب الأولمبية، مع السماح بدخول لاعبين محترفين، الأمر الذي لا تسمح به اللجنة الأولمبية الدولية، أعلنت الفيفا خطط تنظيم بطولة كأس العالم الأولى.

القرار محسوم من قبل العرض..

 

قدمت خمس دول عروضاً لاستضافة البطولة؛ إلا أن اتحاد كرة القدم في الأوروغواي، الذي كان قد فاز بميداليات ذهبية في أولمبياد عامي 1924 و1928، عرض تغطية نفقات السفر للفرق الزائرة، وبناء ملعب ضخم جديد على نفقته، وإشراك الفيفا في أي أرباح، مع تحمل أي مخاطرة بالخسارة المالية.

في وقتٍ لاحقٍ ذكرت الفيفا أن القرار كان محسوماً بعد هذا العرض من الأوروغواي. انسحبت الدول الأخرى، لعدم رغبتها في تقديم التزامات مالية أو لعدم قدرتها على ذلك، وتنافست فرق من 13 دولة في أول بطولة لكأس العالم، والتي حققت نجاحاً فورياً. وفي الثلاثين من يوليو/تموز عام 1930، ملأ حوالي 70 ألف مشجع ملعب سنتيناريو الجديد تماماً في مونتفيدو، لمشاهدة الأوروغواي وهي تلحق الهزيمة بالأرجنتين بواقع أربعة أهداف مقابل هدفين في المباراة النهائية.

غير أن الشعبية المتزايدة للحدث لم تسفر عن مكاسب مالية جوهرية لعدة سنوات. وتمكنت الفيفا خلال العقود الأولى من نشأتها مواصلة العمل بفضل الرسوم التي كان يسددها أعضاؤها، بالإضافة إلى عمولات بسيطة كانت تجنيها من بيع التذاكر في المباريات الدولية. ومنحت دون مقابل حقوق بث أول بطولة كأس عالم تبث على التلفزيون والتي عقدت في سويسرا عام 1954، وحتى في بطولة كأس العالم عام 1974 والتي عقدت في ألمانيا الغربية، كانت معظم عوائد البطولة من مبيعات التذاكر.

سرعان ما تغيَّر هذا الوضع مع وصول وسائل التواصل والإعلان الحديث، وما لبثت صفقات البث التلفزيون والرعاية أن فاقت في أرباحها ما يخرج عن التذاكر. ولأن جزءاً كبيراً من عوائد الفيفا بدأ يُستقى من كأس العالم، بدأت المنظمة غير الهادفة للربح قياس أمورها المالية بدورات مدتها أربع سنوات تنتهي بعقد البطولة.

وبلغ صافي ربح الدورة التي انتهت ببطولة كأس العالم لعام 1974 مبلغاً اقترب من العشرين مليون دولار. وفي ما يخص الفترة من عام 2007-2010، التي تجمعت في جنوب أفريقيا، حصدت الفيفا صافي أرباح بلغ 631 مليون دولار، ووصلت احتياطات الفيفا النقدية إلى حوالي 1.3 مليار دولار. وأصبحت بطولة كأس العالم أكبر الفعاليات الرياضية في التاريخ، وأكثرها دراً للربح.

يومٌ حزينٌ في كرة القدم

حين كان أعضاء اللجنة التنفيذية للفيفا في زيورخ، يقيمون في فندق بور أو لاك، وهو معلمٌ يبلغ من العمر 165 عاماً يشهد على الجمال السويسري الخلاب الذي لا تقدر الكلمات على وصفه. يفخر الفندق الذي يقع على ضفاف بحيرة زيورخ بما له من تميز مطلق، ويفخر كذلك بإقامة شخصيات مهمة فيه، من بينهم الإمبراطور هيلا سيلاسي، وإليزابيث إمبراطورة النمسا، والقيصر فيلهلم الثاني.

وأثناء اجتماعات الفيفا، كثيراً ما شوهد الرجال الذي كانت بيدهم زمام أمور كرة القدم في العالم وهم يتمددون على أرائك محشوة في بهو بور أو لاك، مرتدين بدلاً أو أثواب أو أرواب، ويتبادلون أطراف الحديث حول أمور الكرة المبهمة، ومن حولهم أكواب عصير الكوكتيل الثمين والشاي الفاخر على صوانٍ من الفضة.

قبل أسابيع قليلة من التصويت الذي انعقد في ديسمبر/كانون الأول 2010، أوقفت لجنة الأخلاقيات في الفيفا اثنين من أعضاء اللجنة التنفيذية، وهما النيجيري أموس أدامو والتاهيتي رينالد تيماري على خلفية عملية احتيال فضحتها صحيفة The Sunday Times التي نشرت تسجيلاتٍ صوتية لهما تكشف استعدادهما على بيع صوتيهما مقابل رشى من ستة وسبعة أرقام. وأطلق بلاتر على هذا الحادث: “يومٌ حزينٌ في كرة القدم”.

وكان الأعضاء المتبقين من اللجنة، والبالغ عددهم 22 عضواً عبارة عن مجموعة متنوعة ضمت عدداً من اللاعبين المحترفين المعتزلين وطبيباً ومالك متجر أجهزة ومسؤولين تنفيذيين في شركات خطوط جوية وشركات بترول، وعدَّاء للمسافات المتوسطة والعديد من الساسة المحترفين، وحفنة من المحامين ومليارديرين اثنين على الأقل.

عشية التصويت، انتظرت فرق الدول التسع المتقدمة للحصول على حق استضافة كأس العالم خارج بور أو لاك في محاولة أخيرة للضغط على اللجنة ليخرج القرار لصالحها، مع جلب أكبر قدر ممكن من قوى الضغط الضرورية التي يمكنهم من خلالها استمالة أعضاء اللجنة.

أرسلت النمسا، التي كانت تنافس على استضافة كأس العالم عام 2022، عارضة الأزياء  الشهيرة إيل ماكفيرسون، برفقة الملياردير الذي يتولى رئاسة اتحاد الكرة لديها ومالك متجر التسوق فرانك لوي. أما الوفد الأميركي فضم نجم الفريق الوطني لاندون دونوفان والممثل مورغان فريمان والمحامي العام المتقاعد إيريك هولدر والرئيس السابق بيل كلينتون.

أما بريطانيا، التي كانت جميع الاحتمالات تشير إلى فوزها باستضافة كأس العالم لعام 2018، فقد وضعت في موقف محرج قبل ذلك بعدة أيام من خلال بث فيلم وثائقي لشبكة BBC يتهم ثلاثة من أعضاء اللجنة التنفيذية للفيفا بأخذ ملايين الدولارات كرشى من شبكة التسويق لكرة International Sport and Leisure؛ كما ادعى التقرير أيضاً أن جاك وارنر سبق وأن حاول التربح من بيع تذاكر قيمتها أكثر من 80 ألف دولار أميركي في كأس العالم 2010.

وخوفاً من نقمة مسؤولي الفيفا الذين كانوا يتحسسون من أي نقد، حاول أعضاء فريق العرض الإنكليزي إقناع شبكة BBC بتأخير بث التقرير، الذي أنتجه الصحفي الاستقصائي أندرو جينينغز. وحين فشلت مساعيهم في هذا الاتجاه، لجأوا إلى الشتائم، ونعتوا التقرير بأنه “غير وطني” ويشكل “إحراجاً” لبريطانيا.

ورغم أن كل المؤشرات لم تكن في صالحها، استأجرت بريطانيا جناحين في بور أو لاك وأسكنتهما “أسودها الثلاثة”: رئيس الوزراء ديفيد كاميرون، والأمير ويليام، وديفيد بيكهام، في محاولةٍ أخيرة للتقرب إلى اللجنة. ثم بعد ذلك جاءت البشرى إلى الوفد الإنكليزي بأن فلاديمير بوتين لن يحضر إلى زيورخ لحضور التصويت. وذكر الرئيس الروسي للصحفيين أنه سيظل بعيداً عن المشهد لأن أعضاء اللجنة التنفيذية لا بد أن “يتخذوا قراراتهم في هدوء ودون أي ضغط خارجي”.

أوباما يهاتف بلاتر ..

ظل أعضاء الوفد الإنكليزي متيقظين داخل الفندق حتى بعد منتصف الليل بكثير، يشترون لأعضاء اللجنة زجاجات من الويكسي المعتَّق ويحاولون باستماتة عقد صفقات في اللحظة الأخيرة لتعزيز جهود لتحقيق النجاح. قبل أن يأوي جاك وارنر إلى فراشه، كان قد أوحى إلى الأمير ويليام بإشارات متعددة لا لبس فيها أن صوته قد ذهب لصالح إنكلترا.

وقبل أن يأوي بلاتر إلى فراشه الوثير في الفندق الموجود في حيٍّ هادئ بزيورخ، تلقى اتصالاً من الرئيس الأميركي باراك أوباما.

سبق أن التقى بلاتر أوباما في البيت الأبيض أثناء زيارة استغرقت أربعة أيام إلى واشنطن العاصمة العام السابق، وانتابه شعورٌ بالإثارة حين سمع صوت أوباما يأتيه عبر الهاتف. كانت مكالمة قصيرة ورسمية، واستغرقت دقائق معدودة.

كان بلاتر قد أعلن على الملأ في غير مناسبة دعمه للمساعي الأميركية لاستضافة كأس العالم، مشيراً إلى الفرص التجارية الواسعة التي يمكن أن يقدمها حدثٌ كهذا. كرر بلاتر، بلغته الإنكليزية الثقيلة، التي لا تعوزها الدقة، موقفه هذا لأوباما عبر الهاتف، مُتعَمِّداً الإشارة إلى أن كل ما في وسعه كان أن يمنح صوته هو للولايات المتحدة، وإن كان لا يملك الحق في فرض رأيه على أعضاء اللجنة الآخرين.

سأله أوباما عن فرص نجاح الولايات المتحدة.

سكت بلاتر هنيهة ثم تنهَّد بصوتٍ رخيم وقال: “سيدي الرئيس، سيكون النجاح صعباً”.

رد أوباما قبل أن يغلق الخط: “أفهم ذلك. حظاً سعيداً”.

ولم تتكرر المحادثة بين الاثنين قط.

قال بلاتر: “أنا رئيسٌ سعيد للفيفا”، وإن كانت السعادة لم تبدُ عليه مطلقاً أثناء إعلانه فوز روسيا وقطر بحق استضافة بطولتي كأس العالم لعامي 2018 و2022، على الترتيب.

وقف بلاتر على المنصة أمام حشدٍ كبير وابتسم ابتسامة واسعة. هرول مئات الصحفيين الحاضرين لسماع النتيجة صوب الوفد الروسي لتسجيل ردود أفعال، بما في ذلك رومان أبراموفيتش، الذي كان يلوح بيده ويصيح فرحاً أثناء منح بلاتر نائب رئيس الوزراء إيغور شوفالوف كأس العالم على المسرح. وبعد دقائق، عمت الفرحة أوساط الأسرة الحاكمة القطرية، واحتضنوا بعضهم بعضاً وعيونهم مغرورقة بالدموع.

كان تشاك بليزر، كبير مسؤولي كرة القدم في الولايات المتحدة، يجلس في الصف الأول الذي كان محجوزاً لأعضاء اللجنة، مرتدياً حُلةً سوداء وربطة عنقٍ ملوَّنة تصنعها علامته التجارية. كان بليزر محبوساً بين محمد بن همام من قطر ونيكولاس ليوس من باراغواي، ولم يشارك المحتفلين في التهليل، ولم ينهض إلا ليعانق القطري الذي اعترته البهجة فجأةً إلى جواره عناقاً مقتضباً، قبل أن يعود أدراجه للجلوس على الكرسي.

وخلفه مباشرةً جلس بيل كلينتون يتهامس مع سونيل غولاتي، رئيس اتحاد كرة القدم الأميركية، ثم وقف ليصافح الساسة وأفراد الأسرة المالكة الموجودين في الغرفة. ظل بليزر ثابتاً بلا حراك يحدق بجمود أمامه. لقد صوت لروسيا على حساب إنكلترا لاستضافة كأس العالم لعام 2018، غير أنه أقر فيما بعد أنه شعر بالصدمة حين لم تفز الولايات المتحدة باستضافة البطولة عام 2022.

بوتين يفوز من على بُعد أميال..

بعد ساعات قليلة، هبط فلاديمير بوتين في زيورخ، وهو يشعر بابتهاجٍ شديد. وفي مؤتمر صحفي عاجل شكر بلاتر وأصر أن روسيا ستكون مستعدة لاستضافة البطولة بحلول عام 2018، وأنه يأمل أن أبراموفيتش الذي وصفه بأنه “يتمرَّغ في المال” سيتبرع لإنشاء الملعب.

سأله أحد الصحفيين المتحمسين بتملق: “هل سيكون من العدل أن نقول إنك أذكى رئيس وزراء في العالم لابتعادك عن مكان التصويت وفوزك بالسباق وأنت على بعد آلاف الأميال؟”.

فرد عليه بوتين باللغة الروسية وبابتسامة على وجهه: “شكراً. أنا سعيدٌ أنني صممت على أن أمنح لكم الفرصة. شكراً من الجيد أن أسمع هذا”.

أصيب ممثلو كرة القدم من أستراليا وكوريا واليابان وإسبانيا والبرتغال وبلجيكا وهولندا، وجميعهم عادوا من التصويت خاليي الوفاض، بحالة من التحسر على التصويت وتشككوا في نزاهته.

وتساءل مراقبون في الصحافة عن الكيفية التي فازت بها الدولتان الأقل استعداداً باستضافة كأس العالم، مشيرين إلى الظروف المناخية غير المواتية في قطر، إذ تصل درجات الحرارة في المعتاد في نهار يونيو/حزيران ويوليو/تموز، وهو الوقت الذي تُعقد فيه مباريات كأس العالم، إلى مستويات تفوق 40 درجة مئوية.

غير أن وقع نتيجة التصويت كان أصعب على إنكلترا أكثر من أي مكان آخر، إذ ظلت تلك النتيجة حديث الصحافة لأسابيع، وتدنى مستوى جميع النقاشات في هذا الصدد إلى سعي بائس عن الذات وتبادل للاتهامات وتعبير مندفع عن الغيظ. شعرت إنكلترا بالإهانة، إذ حصدت بعد كل ما بذلته من جهد، على صوتين فقط لاستضافة كأس العالم 2018، أحدهما صوت ممثلها في اللجنة والآخر من عيسى حياتو صديق كاميرون.

عرف رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، الذي كان قد عاد إلى البلاد لإنجاز بعض المهام العاجلة، بنتيجة التصويت في بادئ الأمر من أحد مستشاريه الذي كان يجلس إلى جواره في سيارته الجاكور المحصنة ضد الرصاص في الطريق إلى داونينغ ستريت من مطار هيثرو. تقوقع الرجلان في مقعديهما.

وأخيراً قال كاميرون: لقد بذلنا كل ما كان بوسعنا”، قبل أن يغرق في صمت مشدوه.

أحد أعضاء فريق العرض الإنكليزي حاصر جاك وارنر بالأسئلة عن السبب الذي دفعه إلى إطلاق الوعود بمنح صوته إلى إنكلترا. فما كان من ترينيداد إلا أن همس له بالجواب: “من ذا الذي يستطيع إيقافنا؟”.

لمح عضوٌ آخر في الفريق أثناء عودته إلى وسط زيورخ من المنصة حيث أعلنت النتائج، الأمين العام للفيفا، المحامي الطويل الوسيم جيروم فالكه يدفن وجهه بين يديه ويتمتم.

وظل فالكه يردد: “هذه نهاية الفيفا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى