تقارير وتحليلاتوجوه

سكينة جانسيز: حياتي كلها صراع! (الحلقة الخامسة)

زيارات بابا دوزجون

كان التزام أبي بالدين غريباً. إذ كان يقصد مزار بابا دوزجون(١) سنوياً، ويأخذنا أيضاً إليه في السنوات الأولى، سيما خلال مكوثنا في القرية. كنا نمشي ثلاثة أيام في أيام الصيف الحارة كي نصل إليه. كان الذهاب النظامي إلى هناك يُعَدُّ ثواباً، سيما سيراً وبأقدامٍ حافية. هكذا كانت القناعة الخاصة بـ”بابا دوزجون”. إذ إن الوصول إليه ليس بالأمر اليسير. كما كان ثمة مَن يصوم حينها، أو يعلن الحِداد بذهابه. هناك مَن كان يقصده لأجل “معالجة مرضٍ عضال”، أو لأجل “مباركةِ منزله”، أو لتحقيق أمنيات أخرى.
يقع مزار بابا دوزجون على قمة جبل شاهق. إذ يمر قاصِدوه من قرى مليئة بأشجار اللوز والحدائق والحقول والينابيع. ويقع “نبع هاسكار” في مدخل المزار. وهذه النبعة هي كناية عن حفرة صغيرة تجتمع فيها المياه المتسربة من الصخور المحيطة بها. يقال أن الماء كان يجفُّ إذا نظر إليه المذنبون! لذا، كانت الحالة النفسية لمَن يقصد النبع لشرب الماء أمراً مهماً. لَم يَكُن صعباً فك هذا اللغز. لكنّ التعليق والتأويل في ذلك يُعَدُّ إثماً. فبما أن الماء كان يتقطر من بين الصخور، فإنه يقلُّ أو ينقطع في حالِ شرِبَ كثيرون منه. سيما أن مَن يصعد ذاك الجبل لا يروي شربُ القليلِ منه ظمأَه. لذا، كثيراً ما كانت المياه لا تروي الجميع.
ثم إن تسرُّب المياه لم يَكُن مستمراً. فانتهاء ذوبان الثلوج يؤثر كثيراً. مع ذلك، فمَن صادفَ أن انقطعَت مياه النبع أثناء وقوفه هناك، يصاب بالإحباط، ويبدأ بمحاسبةِ نفسه، والتفكير ملياً فيما إذا ارتكبَ أي خطأ. فيرى الأحلام المزعجة في منامه، وتتحول زيارته تلك إلى كابوس. ثم تنتشر الشائعات بحقه، إلى أن يصل قريته وقد باتَ “مذنباً” أمام بابا دوزجون! وهكذا ينهار العالَم المعنوي لذلك الشخص، فلا تتحسن حالته الروحية ولا النفسية مدةً طويلة.
كنتُ شاهدةً على أمور أكثر غرابة. فإيمانُ أبي بالطواطم كان مفارقةً ذات نصيبٍ وافر من الواقعية وتسلسلٍ منطقيٍّ من المادية الفظة. كان ثمة زوار كُثُر في مزار بابا دوزجون لدى زيارتنا إياه في العام التالي. وقد لفتَت انتباهي عائلةٌ من بينهم. إذ عادةً ما يندر وجود الشباب في هكذا زيارات، في حين يكثر المتوسطون في أعمارهم أو الأطفال من أترابنا، بالإضافة إلى المُسنّين القادرين على السير وتَحَمُّل مناخ الجبال. وربما صادفَت ندرةُ وجود الشباب فتراتِ ذهابي إلى المزار. كانت العائلة التي ذكرتُها تركية الأصل وقد أتت من إستنبول. وقد عرف أبي كيف يتعرف على ذلك الشاب التركي، ليدور بينهما نقاش عميق. كان أبي يجادله وكأنه يقدم له المواعظ: “حسناً بُنَيّ، نحن نقصد هذا المزار منذ سنين بذهنيتنا القديمة. لكنك شاب يافع، بل وطالب جامعي. فلماذا أتيتَ من إستنبول؟”.
لكن الشاب أتى إلى هناك عن قناعة: إذ قصدَ الأطباء قبل عام من حينها بسبب مرضٍ عضال ألَمّ به. إلا إن الأطباء عجزوا عن معالجته. فاقترحَ عليه جارُه العَلَوي الذي من ديرسم أن يقصدَ مزار بابا دوزجون. وهذا ما قام به، فتَخلّصَ من مرضه بعد عودته! وعليه، أقسَمَت العائلة أن تقصدَ المزار كل سنة.
بدأ أبي يقهقهُ بصوتٍ عالٍ بعد الاستماع إلى الشاب، مستأنفاً جداله معه بحرارةٍ جذبَت إليهما كلَّ مَن يفهم اللغة التركية. إذ عاد أبي بذاكرته إلى أحداثِ طفولته في قرية “عرش الخليل” قائلاً: “كنتُ في التاسعة من عمري حينما أُصِبتُ بحُمّى الملاريا. كنتُ أتضور ألماً من ارتفاع الحرارة. ونظراً لأني كنتُ وحيدَ والدَيّ، فقد أصبحا يبكياني مذهولين. تجمّع كل أهالي القرية، ليشارك الوافدون في النواح أو الصراخ اليائس متأسفين عليّ: “آه، إن هذا الطفل يموت”. وكلما سمعتُ أقوالهم هذه كانت حالتي تزداد سوءاً وأصاب بالإحباط. ثم أتى بعض أهالي قريةِ “شكرمان”، ومن بينهم عجوز مُسِنّ حاولَ شقّ طريقه إليّ بين الزائرين، ليفحص حرارة جسمي بيدَيه. ثم أردف قائلاً: “خذوا الطفل فوراً إلى مقبرةِ “سوغاييك”، وأطعموه قليلاً من ترابِ قبرِ حسين، ثم اسقوه من ماء النبع هناك. وسيُشفى الطفل تماماً”. وَلّدَ كلامُه هذا حبَّ الحياة فيّ والقناعة بأني لن أموت. وبينما كنتُ أتضور من ارتفاع الحرارة، لفّوني بلحافٍ غليظ وذهبوا بي إلى المزار. لم يدركوا حينها أني أصبتُ بحمّى الملاريا. لكن ماء نبعِ المزار ساعدَ في تخفيض حرارتي وتحسين صحتي، فرجعتُ وأنا ألهو وأمرح”.
حاولَ أبي بسَرده أن يُظهِرَ أن القناعة تعني الإقرارَ بالتشبث بالحياة، عندما يَكون المرءُ على الحد الفاصل بين الحياة والموت، وتجسيدَ ذلك روحياً. بالإضافة إلى تأكيده علمياً أن الملاريا تؤدي إلى رفع حرارة الجسم، في حين أن الماء البارد يؤدي إلى ردود فعلٍ معاكسةٍ في الجسم تتسبب في تخفيض الحرارة وتَحَسُّن الحال. أما الشاب الإستنبولي، فقد قصدَ المزار مقتنعاً أنه سيتحسن بذلك تماماً. ثم إن ماء النبع زُلالٌ في مزار بابا دوزجون، وهواءه عليل. كما تُذبَح القرابين، وتؤكَل لحومها الطازجة مع الألبان الطبيعية. وكل هذا يساعد طبيعياً على تحسين الحالة الصحية.
لم يؤثّر ذهابُ أبي إلى ألمانيا في قناعاته. بل على العكس، أدى إلى تعزيزها. حتى إنه ألَّف هناك الكثير من الأشعار والأغاني بسبب حنينه إلى الوطن. ولم يتخلّف عن زياراته إلى مزار بابا دوزجون. ذهبَ أبي إلى ألمانيا عام 1969. إذ ما كان لنا أن نبقى أكثر في مساكن الموظفين. لكنّ علي، زميله في العمل، والذي كان سيستقرّ في تلك الفترة في منزلنا، لم يَكُن يرغب في إحضارِ عائلته من القرية. فمكَثنا في المنزل إلى حين مجيئهم. ثم ذهبنا في العطلة الصيفية إلى القرية، لنَعود ثانيةً بعد فترة. وفي تلك الأثناء حدَثَ حادثٌ أثرَ فيَّ من الأعماق.
كان يوماً من أيام الصيف الحارة الطويلة في ديرسم. إذ لَم تَعرض السينما الصيفية على أهالي ديرسم حينها فيلماً كما جرت العادة. بل قدَّمَت عرضاً مسرحياً يروي حادثةً حقيقية ومثيرة للغاية باسمِ “بير سلطان عبدال(٢)”. إذ قامت “فرقة المسرح المعاصر في أنقرة” بأداء الأدوار فيه. وقد نفدَت البطاقات تماماً قبل أيام من العرض، وعُلِّقَت المُلصَقات في كل مكان، وراجت الدعاية له منذ مدة. الغريبُ أنه لم تَكُن ثقافة المسرح رائجة آنذاك. لم أَحضر عرضاً مسرحياً قبلَ ذلك. لذا، اعتقدتُ أنه أَشبَه بالألعاب التي كنا نلعبها أو بالعروض المسرحية القصيرة التي كنا نقدّمها في المدرسة. أما في ما يخص “بير سلطان عبدال”، فكنتُ أعرفُ عنه القليل عبر الأغاني والقصص الشائعة حوله. كما كان أبي يغني لنا أبياتاً شعريةً عنه برفقة العزف على البزق.
كان الوقتُ قُبَيل غروب الشمس، حين عجّت الطرقات بالوافدين لمشاهدة العرض المسرحي. ازدحمَ الناس أمام السينما خلال فترة قصيرة، أغلبهم ممّن نعرفهم. كان هناك شباب يدرسون في الثانوية العامة في مدنٍ مثل أنقرة وغيرها. أي أن جميعهم من الجماعة التي كنا نسميها “الإخوة اليساريين”. كان مجردُ حضورهم يُضاعف الفضول. وحتى تلك اللحظة، كان هناك باص برقمِ 06 يجولُ كل الأحياء مُعَرِّفاً عبر مكبّر الصوت بمضمون العرض المسرحي، وداعياً الجميعَ لمشاهدته بعد الترويجِ له بنحوٍ مثير. لذا، ازداد الازدحام أكثر، ما اضطرّت بعض المجموعات إلى التجوال حول السينما لضمان الحضور.
لمّا بدأ الدخول إلى السينما، وصلَت سيارة سوداء مسرِعة من نوع “رينو” إلى مكان الازدحام. كانت كل نوافذ المساكن تعجّ بالمتفرجين. أما نحن الأطفال، فكنا مصطفّين خارج الازدحام على شكل نصف قوس، ننتظر دورنا للدخول. كان ثمة إشكال جدي أمام السينما. إذ يتدافع الجميع للدخول، ما أدى إلى مشادّات كلامية وصراخ متبادل. وهذا ما جذبنا نحن الأطفال، وزاد من فضولنا. لكن، يبدو أن الكثير من الأمهات ارتبَكن مما يحصل، فسعَين إلى أخذ أطفالهن إلى المنازل. لم أكترثْ لإلحاح أصدقائي عليّ بالعودة إلى المنزل. كنتُ آنذاك في الحادية عشرة من العمر.
خلقَ الوصولُ السريع لتلك السيارة السوداء، التي تُطلق صفّارات الإنذار، جواً من الرعب والارتباك. وما لفتَ الأنظار أكثر هو الإعلانُ الذي أعقَبَ وصولَها فوراً: “انتباه! لقد حظَرَ الوالي عرضَ مسرحية “بير سلطان عبدال”. وعلى الجميع إخلاء المكان فوراً!”.
لَم يَكَد ينتهي الإعلان حتى بدأ الحشدُ الغفير برمي السيارة بالحجارة محتجاً بأعلى صوت: “يووووه! يووووه!”. ثم دوّى شعارُ “الاستقالة للوالي!” في المكان. رُمِيَ وابلٌ من الحجارة، وعمّت الفوضى في غمضة عين. ازداد عدد عناصر الشرطة، التي باشرت باحتجاز بعض المحتشدين. تعالَت القبضات المتعاركة في الهواء، وازدادت الشعاراتُ المدوّية حماساً وعنفواناً. ما لفتَ نظري أيضاً هو العراك مع عناصر الشرطة. تسمَّرَت عيناي على هذا المشهد، ما زاد من حماسي وذعري في آن. اقتربتُ أكثر.
اختلطَ نحيبُ النساء بصراخ الأطفال. لكني لَم أهتمّ، لأني ركّزتُ على معرفةِ الشخص الذي يعارِك الشرطي. إذ شَبَّهتُه من بعيدٍ بأحد المعارف، وتأكدتُ لدى اقترابي من صحة تخميني: إنه العم “علي جول تكين”. كان يتعارك مع الشرطي بعنف. وما أن يَعلو أحدُهما الآخَرَ في العراك حتى تنقلب الآية عكساً بعد حين، وهكذا دواليك. كأني بهما يلعبان المصارعة. تفاقَمَ اشتباك الشرطة مع الحشد المتزاحم. ثم أتى بضعة عناصر من الشرطة، وجرّوا العم علي جول تكين، وأَقَلّوه سيارةَ الشرطة بالقوة، وذهبوا به. حاول أخوه “ولي” في تلك الأثناء إنقاذ أخيه الأكبر من يد الشرطة. لكن الشرطة انهالَت عليه هذه المرة بالضرب المبرح. إلا إنه رجل عَصِيّ، إذ فتحَ يدَيه واسعاً، صارخاً بأعلى صوته: “اضربوني! اضربوني! ابنُ العاهرة مَن لا يضربني!”.
انهالَ عناصر الشرطة عليه بالهراوات وقبضات الأسلحة. ضربَه أحد عناصر الشرطة قائلاً: “يا ابنَ موسكو! أيها الشيوعي الأحمر! لن تَفلتَ منا. فليأتِ أبناء موسكو لإنقاذك!”. وأخذوه هو أيضاً. كان “ولي” قروياً شجاعاً. ولعله لَم يعرف أو يسمع أصلاً بـ”أبناء موسكو”. ربما سمعَ قَبلاً بالشعبِ الروسي. ولكن، أنى له أن يعرف مَن هم أبناء موسكو! بكل الأحوال، أدرك جميع المحتشدين، بمَن فيهم “ولي”، أن توصيفَ “ابن موسكو” و”الشيوعي” هو كناية عن شتيمة، وأن الشرطي لَم يَقُل كلاماً حسناً بطبيعة الحال.
عمَّ الاشتباك، تتخلله الشعارات الصادحة ووابل الحجارة المُلقاة دون توقف، تماماً كما هجوم الشرطة وعنفهم الذي لم يتوقف. انتشرت هذه الحادثة بسرعة في كل أنحاء ديرسم. عجّت سيارات الشرطة بمَن استطاعوا القبض عليهم. وتحَوَّل الحشد إلى تظاهرة عارمة. إذ اصطفّت المجموعات المتناثرة وتدفقت، وكأن أحداً أوعزَ إليها بذلك في لحظة. ارتفعَت قبضات الأيادي اليُسرى في الهواء، وبدأت تظاهرة محتدّة وغاضبة متلازمة مع الشعارات المدوية. تألمتُ لوضعِ علي وولي، وبَكَيتُهما. لكن عصيان الجماهير وغضبهم أثّرا فيّ، وبدَّدَا الخوف لديّ تدريجياً.
لم يَكُن عناصر الشرطة وحدَهم الأقوياء. بل كان كلُّ مَن نعرفهم أيضاً شجعاناً وهم كُثُر. ركضتُ لفترةٍ بالتوازي مع الحشد المتدفق. عاندتُ في عدم العودة إلى المنزل على الرغم من نداء أمي من نافذة المنزل. لكني كسرتُ زجاج النافذة حينها كي أستطيعَ دخول المنزل.
———
(١) شخصية ميثولوجية وأحد الأولياء في ديرسم العَلَوية. وله مزار مقدس على قمة جبلٍ أخذ الاسم نفسه. يُعَدّ بابا دوزجون ابن “السيد قريش”، جَدّ عشيرة قُرَيشان.

(٢) وهو شاعر عَلَويّ كردي متصوف، ومن شعراء القرن السادس عشر. وهو يؤمن بأن الله يتجسد في الأقانيم الثلاثة: الحق، محمد، وعلي.

ترجمة:بشرى علي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى