آراءتقارير وتحليلات

المرأة الكردية .. من أين وإلى أين؟ معايير المرأة الحرة (الحلقة الحادية عشرة)

 

مقاومة المرأة المنظمة هي أساس النجاح:

بعد الإعلان عن تأسيس “اتحاد حرية المرأة الكردستانية YAJK” في ربيع عام 1995، بدأت الدولة التركية هجوماً شاملاً أَسمَته “التمشيط الفولاذي”، الذي كان يهدف إلى القضاء على قوات الكريلا بضربة “فولاذية” قاضية برعاية دولية هدفت إلى إشراك بعض الأطراف الكردية أيضاً في هذا الهجوم، وعقدت العديد من الاجتماعات السرية لهذا الغرض. لكن المقاومة الباسلة لحركة الحرية الكردستانية عموماً، ولحركة حرية المرأة الكردستانية خصوصاً، أفرغت هذا المخطط والهجوم من محتواه. حيث استشهدت العشرات من نساء الكريلا في هذه المقاومة الباسلة، نستذكر منهن: تشيدم تورك، آريا ألازغ، أوزكور تورك، دوزدار كاغزمان، فيدان إغدير، بريفان فارقين، روشن ماردين، هيفي ديريك وغيرهن…
ولا ننسى جيان أردم، التي كانت تنشط بين صفوف أبناء الشعب الكردي النازحين من كردستان تركيا، والذين استقروا في مخيم أتروش في كردستان العراق. حيث كانت في مقدمة المتظاهرين استنكاراً لهذا الهجوم التركي الفاشي الشامل ولمشاركة بعض الأطراف الكردية فيه، فنالتها رصاصة الغدر من أيادٍ كردية متواطئة من نفس الطرف الذي شارك في الهجوم التركي الغادر. ومن حينها صارت جيان أردم أسطورة بين أبناء الشعب الكردي الذي تأثر بوقفتها النضالية وبطراز نضالها المجتمعي الدقيق والعميق وبروحها الفدائية القصوى وبطاقتها الحيوية التي لم تنضب أبداً.

مقاربات الذهنية الذكورية من المرأة المنظمة:

ما من شك في أن تأسيس مقر حركة المرأة YAJK قد أدى إلى المعاناة أكثر من الذهنية الذكورية المتعششة لدى الرجال من قوات الكريلا. فأياً يكن، ومهما كان أولئك المقاتلون يؤمنون بضرورة الثورة وتحقيق المساواة بين الجنسين، إلا أن ذهنيتهم الذكورية التي تمتد بتاريخها إلى آلاف السنين كانت تعيقهم عملياً من فهم فحوى هذه الخطوات الاستراتيجية التي تخطوها حركة المرأة الكردية بفضل إرشادات وتوجيهات قائد الشعب الكردي “عبد الله أوجالان”. وهذا ما جعلهم يخلقون المشاكل ويزرعون العراقيل أمام تمأسس حركة المرأة الكردية، سواء بوعي أو من دونه، بدافع الحفاظ على سلطتهم و”رجولتهم”!
عدا عن ذلك، فقد عانت المرأة أيضاً من تداعيات الذهنية الذكورية المتعششة فيها منذ خمسة آلاف سنة. فظهرت نماذج مختلفة من النساء: فهناك مَن ظلت تَعتَبر الرجل قوة، وهناك مَن آثَرَت “الاسترجال” لإثبات حضورها والتأكيد بهذا الشكل على مساواتها مع الرجل، وهناك مَن رفضت الرجل بشكل فظ لمجرد أنه “ذَكَر”، وهناك مَن اعتَبَرت أن الذهنية الذكورية مقتصرة على جنس الرجال فحسب، دون أن تحلل شخصيتها ومدى تأثير هذه الذهنية عليها كواقع تاريخي قائم، ودون أن تبحث بالتالي عن سُبل مكافحة هذه الذهنية في الذات أولاً، كشرط محوري للسير بسَداد على درب حرية المرأة.

زيلان: كيف تكون المرأة الحرة؟

كل هذه المقاربات من الطرفين، أدت بالقائد “عبد الله أوجالان” إلى تحليل هذه النماذج والذهنيات الخاطئة البارزة، وإلى مكافحتها بهدف الوصول إلى نموذج المرأة الحرة بحق. وهذا ما تجسد فعلياً في العملية الفدائية التي قامت بها الشهيدة زيلان “زينب كناجي” في 30 حزيران 1996، احتجاجاً على المؤامرة الدولية الشنيعة التي بدأت بمحاولة الاغتيال الفاشلة التي استهدفت القائد “عبد الله أوجالان” من خلال حادثة تفجير السيارة المفخخة من قِبَل الدولة التركية أمام مقر التدريب الفكري في العاصمة السورية دمشق في السادس من أيار 1996. هكذا، فقد كانت العملية الفدائية للشهيدة زيلان جواباً حاسماً على سؤال “كيف تكون المرأة الحرة؟” من خلال التأكيد على أهمية تنظيم الذات والتحلي بالوعي السياسي والتاريخي العميق، والقيام بالخطوة المناسبة في الزمان والمكان المناسبين، لتُشكّل بذلك المرأة نموذجاً مثالياً على الصعيد التنظيمي والسياسي والعسكري والتاريخي والفكري على حد سواء كضرورة حتمية لا بد منها.
فأياً يكن، فالإنسان الذي هو أَشبَهُ بذرّة صغيرة نسبةً إلى الكون العملاق، يكون إنساناً بقدر مستوى الوعي الذي يتحلى به بشأن وجوده وأهدافه. ولا يمكن اعتبار الإنسان أنه قد عاش حياة ثمينة، إلا حينما تتماشى حياته مع هذا المبدأ. ذلك أنه لكل كائن في هذا الكون دوره وقيمته ومكانته. فالماء يدرك أنه ماء حينما يتدفق. وورقة الشجر تعرف متى تينع وتخضرّ، وكيف تُفيد غيرها من الكائنات ومتى تَصفَرّ. كذا، فالإنسان أيضاً يدرك ذاته حينما يعيش بما يتوافق مع طبيعة كينونته الإنسانية، ويكون ناجحاً حينما يؤدي دوره بما يتناغم مع المسار الإنساني الراقي المطلوب منه. وربما حينها فقط بإمكانه أن يتخطى مجرد كونه ذرّة صغيرة في الكون، ليصبح قيمة كونية عملاقة! ويبدو أن “زيلان” قد أدركت كل ذلك، فأقدمَت على عمليتها الفدائية تلك، لتتحول إلى رمز أنثوي حر يتجاوز الحدود القومية والجغرافية، ولتصبح رمزاً لعشق الحياة الحرة لدرجة التضحية بالذات في سبيلها.

مخاطر نموذج المرأة التقليدية–الرجعية؟

هذا ما جعل حركة حرية المرأة الكردستانية تتوقف عند سؤال “مَن هي المرأة الحرة؟ وكيف يتم الوصول إليها؟ وتتعمق في تحليل نموذج المرأة التقليدية–الرجعية السائد. فالمرأة التقليدية هي تلك التي تتساوم مع جوانبها الرجعية، ولا تكافح تجاهها، بل تظل تدور في دوامة المصالح الفردية والشخصية فقط، وتعوّل على الصلاحيات والسلطة والمنصب، وتبتعد بذلك عن الجوهر الأصيل للمرأة، وتتشبه بالتالي بالرجل وتحاكيه، وتعقد علاقاتها مع بنات جنسها ومع الجنس الآخر بموجب ذلك. أي أنها تعتمد مبدأ “القوة” في التعامل والتواصل.
وهذا ما كان يشكل خطراً كبيراً على درب الوصول إلى نموذج المرأة الحرة على صعيد تأثير هذه الخصائص الشخصية ذات الجذور التاريخية والثقافية والاجتماعية الغائرة في طراز العمل والنضال، بل وفي طراز الحياة والحرب والعلاقات. بمعنى آخر، فإن هذا النموذج، وغيره من النماذج الخاطئة المذكورة أعلاه، يعيق تحرر المرأة بحق، ويصبّ موضوعياً في خدمة “الحرب الخاصة” التي تشنها الدولة التركية بصورة خاصة وقوى الحداثة الرأسمالية بصورة عامة ضد حركة المرأة الكردية الثورية من جهة وضد حركة الحرية الكردستانية من جهة ثانية.

مقاربات الرجل من تطور المرأة:

من جانب آخر، فإن أغلب المقاربات الذكورية كانت تُخفي نواقصها أو أخطاءها متحججة بالمرأة وبمقاربات المرأة، وكانت تَعتَبر المرأة عبئاً ثقيلاً في ظروف الحرب القاسية، فتتحجج بها في حال فشلها برسم التكتيك العسكري السديد. وعليه، فقد شكّلت هذه المقاربات الذكورية محطّ اهتمام حركة حرية المرأة الكردستانية، فانكبّت على تحليلها بعمق، وعلى كيفية تخطيها والتغلب عليها، باعتبار أن ذلك خطوة محورية على درب كسر شوكة التسلط الذكوري، وإبراز وصقل إرادة المرأة الحرة وإثبات حضورها في جميع الميادين. وكذلك على صعيد قلب القناعة الاجتماعية المألوفة السائدة، والتي مفادها “الرجل يعرف كل شيء، هو الآمِر الناهي، وما يقع على المرأة هو التنفيذ فقط”.

كيف يمكن الاستفادة من كل ذلك؟

ولعل هذا أحد أهم الدروس التي تنتظر الاستفادة منها على صعيد الحركات الثورية واليسارية والديمقراطية الفاعلة إقليمياً ودولياً. ذلك أن مَن يعاني من القضايا الجادة فيما يتعلق بالحياة والحرية، إنما ينبغي عليه أن يصوغ أجوبة شاملة وجذرية لتلك القضايا. وعليه أن يعرف كيف يتحرك بثبات وسداد وبنحو ممنهج مدروس. فما بالك بحال المرأة التي تعاني من قضايا الحياة والحرية بالأكثر؟! أي أن المرأة بحاجة إلى تحقيق وتطبيق ذلك أكثر من الرجل بكثير، نظراً لأنها تعاني من تلك القضايا بأضعاف مضاعفة.
بمعنى آخر، فأن يَكون المرء ثورياً، وأن ينخرط في صفوف ثورة ما، لا يكفي لتمثيل تلك الثورة بكل معنى الكلمة، ما لم يَخُض ثورة ذاتية ضد خصائصه التقليدية والرجعية الكامنة في شخصيته. وربما أن هذا هو السبب الوجيه وراء تسمية الإسلام هذا الكفاح تجاه الذات بـ”الجهاد الأكبر”، بينما سمّى المعارك الحربية بـ”الجهاد الأصغر”. ولعل هذا أيضاً ما يشير إلى أحد أهم الأسباب التي أدت إلى انحراف الكثير من الثورات عن مجراها، وإلى تناقضها في نهاية المآل مع أهدافها النبيلة التي انطلقت من أجلها.

وماذا عن ثورات مصر وتونس وفلسطين؟

ويبدو أن هذا أيضاً ما غفلت عنه الثورة المنطلقة في كل من مصر وتونس مؤخراً أيضاً. فرغم أن هاتين الثورتين عُرِفَتا بريادة المرأة في إشعال فتيل الثورة، إلا أن لون المرأة سرعان ما غاب عنهما. ومن المؤسف قول الشيء نفسه بشأن الثورة الفلسطينية أيضاً. فرغم أن هذه الثورة العريقة قد عرفت أمثال السيدة “ليلى خالد” في بداياتها وأمثال “عهد التميمي” مؤخراً، إلا أنها ما تزال تعاني الضعف من حيث تحويل هذه الطاقات النسائية المميزة والانفجار الشعبي العارم إلى قوة منظمة واعية شاملة.
إذ يبدو أن العقلية الذكورية المهيمنة على المجتمعات المصرية والتونسية والفلسطينية (على سبيل المثال وليس الحصر)، وخروج ثوراتها تحت عباءة الدين بشكل أساسي، وتشربّها بالنزعات القومية بدلاً من اتسامها بالانفتاح على الآخر، إنما تشكل أهم الأسباب التي آلت بهذه البلدان إلى ما هي عليه اليوم من حيث عدم أداء دورها الريادي في المنطقة، وإلى هدر طاقات المرأة فيها بسبب معاناتها من التشتت وافتقارها إلى التنظيم وتأثرها بالذهنية الذكورية المهيمنة. وهذا ما جعل تلك البلدان منفتحة بالتالي على الوصوليين والانتهازيين داخلياً وعلى تدخلات القوى الرأسمالية الحداثوية خارجياً في نهاية المطاف للأسف الشديد. وهذا بالذات ما ينتظر التداول والتناول والمعالجة الجذرية.

كيف تكون الثورة الحقيقية؟

فالثورة التي تقتصر فقط على محاربة العدو عسكرياً، غالباً ما تؤدي إلى الفشل العسكري. وفي حال انتصرت عسكرياً، فغالباً ما تُصاب بالهزيمة النكراء في حياتها وطراز نظامها (انهيار الاشتراكية المشيدة نموذجاً وتحولها إلى رأسمالية خاصة رغم انطلاقها ضد النظام الرأسمالي الدولتي).
والثورة التي لا تعالج قضايا المرأة بجذرية، بل وتقتصر في هذا المجال على التنظير، ولا تترجمه إلى خطوات عملية ملموسة، غالباً ما تنزلق في مضاداتها التي كافحتها في البداية. ذلك أن قضية حرية المرأة هي أُمُّ القضايا الاجتماعية الشائكة والعالقة منذ آلاف السنين. والحرية مصطلح معني بطراز حياة الإنسان عموماً والمرأة خصوصاً. ولا يمكن حصره في الحرب تجاه أية عوامل خارجية فحسب، من استعمار أو احتلال أو عدوان. بل ينبغي خوض هذه الحرب تجاه الذات أولاً انطلاقاً من القناعة بأن الخصائص السلبية في الشخصية تشكل عدواً ذاتياً وداخلياً ضد المرء ذاته، وذلك كي تنعكس تداعيات ذلك إيجاباً في الحرب تجاه العدو الخارجي.
وبذلك فقط يمكن تحديد معايير الشخصية النضالية الحقيقية التي بمقدورها تحمل مسؤوليات الأعمال العظيمة التي ترتقي إلى مستوى الثورة. ذلك أن الممارسة العملية للشخصية الثورية هي انعكاس للذهنية والآفاق الفكرية التي تتحلى بها هذه الشخصية من جهة، وانعكاس للخصائص التي تتسم بها من جهة ثانية. بالتالي، لا يمكن فصل الأبعاد الشخصية عن الممارسة العملية إطلاقاً. وتسري هذه القاعدة بأضعاف مضاعفة على المراحل الحرجة التي تقتضي إنجاز الثورة الحقيقية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى