آراء

هكذا يحوّل ترامب ونتنياهو الشبكات الاجتماعية أعشاشاً للتحريض

صدر في الولايات المتحدة هذا الأسبوع كتاب يرسم خطوطاً لصورة ميلانيا ترامب، زوجة الرئيس (“فن صفقتها”، بقلم ماري جوردن)، وثمة فصل من الكتاب نشرته أمس صحيفة “واشنطن بوست”، يصف مصاعب الانتقال من مكانة امرأة مجتمع إلى مكانة السيدة الأولى. في النصف سنة الأولى لولاية زوجها، رفضت الانتقال من برج ترامب في نيويورك إلى البيت الأبيض. وهذا أحرج الرئيس وكلف عشرات ملايين الدولارات في نفقات الحراسة. ونشر في حينه بأنها ليست مستعدة لأن تنقل ابنها من مدرسته في منتصف السنة التعليمية. أما الكتاب فيعرض سبباً آخر: فقد أجرت مع زوجها مفاوضات سرية على تحسين اتفاق النفقة لها، فكان رفض الانتقال هو الرافعة.

مثل كل زوجة رئيس، ترددت ميلانيا ترامب هي الأخرى في مسألة ما ستكون عليه مساهمتها الخاصة للمجتمع الأمريكي، فقد كانت لديها فكرة فائقة: الشبكات الاجتماعية مليئة بالتهديدات والشتائم والأكاذيب والتحريض، وبين الحين والآخر كانت هي أيضاً مستهدفة بذلك. وستمارس نفوذها للجم وسائل التعبير في الشبكات. وسمع فريق البيت الأبيض بالفكرة وصدم: التهديدات والشتائم والأكاذيب والتحريض التي في الشبكات هي التي جاءت بترامب إلى البيت الأبيض. يمنع ذبح الدجاجة التي تبيض ذهباً، ثم دعيت السيدة إلى الانضباط فصمتت.

فكرت في هذه القصة حين قرأت ما قاله نتنياهو أمس في مستهل جلسة الحكومة. يرى نتنياهو حاجة للرد على النبأ الذي جاء فيه أن عنات برون، قاضية في المحكمة العليا، تلقت في صندوق بريدها في بيتها كتاباً يهدد حياتها. ورفع حرس المحكمة شكوى إلى الشرطة. “يجب إبداء صفر تسامح تجاه كل من يهدد بالقتل قضاة ومنتخبي جمهور على حد سواء”، قال نتنياهو. وفي بيانه امتنع عن ذكر القاضية، ولكنه لم ينسَ التهديدات ضده وضد ابنه وزوجته. “ادعو الشرطة إلى العمل بسرعة وبقوة للقضاء على وباء التحريض”، قال. أما الوزراء فقد ابتلعوا الابتسامة.

ما التحريض ومتى يصبح وباء؟ دار جدال متواصل في العالم الديمقراطي على هذه المسألة. قيمتان تصطدمان جبهوياً: من جهة حرية التعبير، ومن جهة أخرى كرامة الإنسان وحقه في الأمن والخصوصية. أما ظاهرة الشبكات الاجتماعية فقد فاقمت المعضلة: أصبحت حرية التعبير فيها أداة لنشر الدعاية الكاذبة، للتحريض على العنف، وإساءة السمعة، وتدمير الديمقراطية، وأحياناً أداة للقتل أيضاً.

الجدال في أمريكا عاصف على نحو خاص، وترامب وتغريداته أحد أسبابها؛ وثمة سبب آخر متعلق بمدير عام “فيسبوك” مارك سوكربرغ، الذي يصر على مواصلة تشجيع المستخدمين على التعبير بعنف وبلا لجام، والدافع هو المال، أما الذريعة فهي حرية التعبير. سوكربرغ هو اليوم أحد الأشخاص الأكثر كرهاً في أمريكا. وهناك سبب ثالث، مشوق بحد ذاته، وهو موجة المظاهرات ضد عنصرية الشرطة.. صحافيون سود أقاموا حركة “MeToo” خاصة بهم، لم تعد مستعدة للتسليم بظواهر العنصرية، حتى بثمن المس بحرية التعبير. هذه الحركة تهز قواعد اللعب في السياسة والإعلام.

بغياب الدستور، فالحامي الأكبر لحرية التعبير بإسرائيل هو المحكمة العليا. أهرون باراك ثبت المبدأ، وخلفاؤه ساروا في أعقابه. لعل بعضاً من زملائي سيغضبون عليّ، ولكني أعتقد بأن “العليا” سارت شوطاً أبعد مما ينبغي. فالتحريض يقتل: هكذا اعتقدت عشية اغتيال رابين، حين بلغ التحريض ذروته، وهكذا اليوم أيضاً، بعد أن اكتسبت الشبكة الاجتماعية سيطرة على الخطاب العام. فلا يمكن للشبكات أن تواصل العمل في فراغ. ينبغي أن تفرض عليها الواجبات التي يفرضها القانون على كل وسيلة إعلام، ويجب إلزامها بترشيح الأنباء.

ستعثر الشرطة على أي حال على الغبي الذي هدد القاضية. أما محاميه فسيقول إنه طبيعي، أب طيب لأبنائه، جد رائع لأحفاده، تملكته لحظة غضب بسبب قلقه العميق على شعب إسرائيل ولكنه ندم على الفور، وينبغي إغلاق الملف.

نتنياهو مخطئ. الشرطة ليست العنوان. فتلك التهديدات ضد القضاة والسياسيين والصحافيين، لم تولد من عدم: لها مصدر إلهام. يمكن مجادلة قرارات القضاة، ولكن لا يمكن احتقارهم وكأنهم آخر المجرمين. يريف لفين يتولى منصب رئيس الكنيست. هذا منصب رسمي، رفيع المستوى. ولا يمكنه أن يهاجم قضاة العليا كآخر المعقبين. إمسلم، وريغف، وأوحنا، هؤلاء يشتمون رؤساء جهاز القضاء وينالون الترفيع. والأساس، نتنياهو نفسه، في الخطاب الذي ألقاه في مبنى المحكمة. فما الرسالة التي يستخلصها المهدد الدوري من هذه التصريحات؟

مئات آلاف الإسرائيليين معجبون بنتنياهو ويقسمون له بالولاء. هذه قوة، ولكنها مسؤولية. فهل يريد نتنياهو القضاء على وباء التحريض؟ إذاً، فليبدأ من البيت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى