آراء

عمق الكتابة

تفتح وعينا، ومارسنا فعل الكتابة في ظل إعلان سياسي رسمي بانتهاء مرحلة الكفاح الوطني ضد المستعمر المباشر، لكننا مع الوقت اكتشفنا أن الواقع، والوقائع أيضاً، يؤكد عكس ذلك تماماً، بما يعني قدرة فكرة الاستعمار نفسها علي التخفي من خلال الانتقال من المباشر إلي غير المباشر، وبما يؤكد تمركزها في فكرة السُلطة التي تناصب أحلامنا العداء، لذا يظل الاستعمار قائماً طالما أن الأعداء ما زالوا يمارسون عداءهم ضدنا.
هكذا كُتب علينا أن نولد، وأن يولد مشروعنا الإبداعي، في ظل غياب أي مشروع سياسي أو أيديولوجي، فالمشروع الرسمي سقط حينما فشل أولاً في تحقيق الديمقراطية وحلم القومية العربية ثم هزيمته التامة في النكسة التي أرجعتنا مرة أخرى للنقطة صفر، وفشل ثانياً في تحقيق وعوده بالسلام والرخاء، أو علي الأقل تحقيق مستوي اقتصادي المعقول، بل أغرقنا في الفقر والجهل والمرض، فيما استأثر هو بالثروة والسلطة مشهراً في وجوهنا سيف العداء وإرادة التوريث غير الشرعية، حتى سقط علي فراغ حقيقي ما زلنا نتخبط في متاهاته المتشابكة.
أما المشروع الأيديولوجي المعارض فغير موجود حيث لا تأثير له، وإن وجد فهو في شقه الأول اليساري هش وممزق وأكثر فشلاً من المشروع السياسي الرسمي، إما لسقوط نظريته الفكرية في مسقط رأسها وانتهاء خطابها الزاعق، وإما بتبعيته للنظام الرسمي عندما طال عليه الأمد، وأخيراً بسبب تقوقعه علي ذاته الفكرية المتعالية، وعدم قدرة كوادره علي تقديم النموذج المقبول اجتماعيا، وبالتالي انفصاله عن الجمهور، أما الشق الثاني فيعتمد خطاباً سلفياً عاجزاً عن الإقناع، حياته الحقيقية ليست الآن بل تأتي بعد الموت، وممارساته الواقعية تتعارض تماماً مع كل ما هو مدني وإنساني، تتعارض مع روح العصر التي نطمح في اللحاق بركب حضارتها الآنية التي تؤهلنا لمعرفة اللحظة التاريخية التي نعيشها، ونطمح إلي تحقيق ذواتنا من خلالها.
هذا قدرنا إذن، وقدر مشروعنا الإبداعي، لذلك نتخذ منه وسيلة لمعرفة ذواتنا واكتشاف العالم، لقد أتاح لنا سقوط المشروعات الكبرى والأيديولوجيات المكتملة الفرصة كي تستطيع نصوصنا الإبداعية أن تحاول الكشف عن أيديولوجية الواقع والذات في تناقضهما وتشتتهما دونما تزويق أو تجميل، ودونما إدانة أو ميل، لذا تأتي نصوصنا دائماً فضحاً للواقع وللذات معاً، في محاولة حثيثة للتعرف عليهما بشكل حقيقي ودقيق ومحايد داخل حياة فنية متخيلة ومتجاوزة للواقع، طالما أن الواقع قد فرض علينا حياة لا نملك فيها الحد الأدنى من مقومات العيش الكريم، لذلك نحن نكتب حياتنا كما نود أن نعيشها، لا كما نعيشها فعلاً، مثلما فعل السابقون، نكتب لنغوص في أسطورة الواقع في انتظار أن نصنع أسطورتنا الخاصة.
نحن لا نكتب لكي نصبح كُتاباً مشهورين، فالفراشات الغبية فقط هي التي تلهث باتجاه الضوء، ونحن أيضاً لا نكتب لكي نصبح كُتاباً كباراً أو عظماء، فليس من المنطقي أن يوجد كبير أو عظيم في لحظة زمنية اعتلاها الصغار، وتصدر شاشتها الدميم والقبيح والألدغ، وأخيراً نحن لا نكتب للتاريخ لأن الأزمنة الرديئة تسقط دائماً من ذاكرته، ولأن مَنْ يسجله الآن هم مَنْ اعتلوا الزمن، وتصدروا شاشته، إنما نكتب في سبيل انتظار معرفتنا لذواتنا وللعالم الذي نوجد فيه الآن.
الكتابة بالنسبة لنا هي البديل الحقيقي عن الحياة التي لا نملك أن نعيشها بشكل حقيقي، وهي في ذات الوقت البديل الحقيقي عن الموت والتطرف، اللذين إن تخلينا عن فعل كتابتنا فإننا واقعون فيهما لا محالة، ولسوف يجثمان علي صدورنا مثل جبل لا حدود لارتفاعه ولا لمنتهاه، ويمتدان إلي رقابنا مثل حبل مشنقة يستلذ بإحكام قبضته حتى سقوط الرأس عن الجسد، وسقوط الجسد في الحُفرة المعتمة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى